د. صدام فهد الأسدي

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الجمعة 25/7/ 2008

 

أعاصير الرثاء لسرب الحمام في شعر رشدي العامل

د. صدام فهد الاسدي

رشدي يتباهى بأصدقائه ويحبهم وقد أودع نفسه أمانة المحافظة على محبتهم وأهدى لهم ديواناً لم يطبع هو (حديقة الأصدقاء) .

إن فقدان أحدهم يترك له لوعة وحزناً فتأتي قصائده في رثائهم مليئة باللوعة الصادقة والوصف الرائع .. يخاطب صديقه الودود عبد الحميد الونداوي وقد وافاه الأجل عام 1986 في قصيدة تعد من أروع مرثياته ..

لم أخن موعداً ولم أنس عهداً أنت تدري بأننا صنوان
وهبتنا للحب أيد سخيات وللموت في ربيع الزمان
فوضعنا مع الهوى غصة البعد وشجو الحمام في الأفنان

نلاحظ كيف ابتدأ مرثيته فما زال على وعده فيصف ارتباطه مع صديقه وكأنهما رضعا من ثدي واحدة غصة العذاب وحزن الحمام ومشياً معاً في دروب المتاعب .. إنها مرثاة تتميز بعواطف صادقة جياشة ومعاني واضحة دالة على صدق مشاعره .. وتتجلى براعة رشدي في الرثاء بحزن غامر ولا تختلف أثاره قوة وضعفاً باختلاف صلة الشاعر بالمرثي وما تركه من أثر في حياته فسواء كان صديقاً أم أخاً فرشدي يبوح ألمه بصدق وبكاء مرير.. أقرأ مرثاته في صديقه رئيف خوري :

قد هوى الدوح فاصمتي يا حمائم وارحلي عن نوافذي يا نسائم
واستفق انت أيها الحزن وامرح في عيون توسدتها المأتم([1])

ونلمس في هذين البيتين اتجاهاً تقليدياً سائداً يسير عليه الشاعر ويرثيه على شكل قصيدة ثم يبين مدى خسارته برحيله قائلاً :

كل ما أبقت الأعاصير مني حلماً في مسارب الليل حائم
وجناحاً هوى على الليل يشكو غضب الريح والدجى للقوادم
يا صديق الدرب الطويل ترفق فشراعي ممزق الصدر غائم
أتعبته الرياح حتى تعدى وسفيني على الرمال الجوائم([2])

ثم يتساءل حائراً موجهاً سؤاله للفقيد :

كيف نمضي معاً إلى أي بحر ما أشق الرحيل والأفق غائم

ونلاحظ تلك الاستعمالات المجازية (توسدتها المأتم) (مسارب الليل) (حلم الحقل) وربط بين الطبيعة الجامدة والمتحركة وكأنهما يشاركانه الحزن الفاجعة (يا حمائم) (يا نسائم)، وللشاعر قصيدة بعنوان(كلمات لم تبتسم) يرثي بها النحات المعروف جواد سليم اتسمت بالعاطفة الصادقة واللوعة والتحسر يقول فيها :-

فارسنا يطوف في متاهة الطرق
جواده الأشهب لا يمسكه عنان([3])

يبدأ بوصف الفنان جواد سليم وقد سماه فارساً يطوف في طريق الحياة التائهة ويرمز بالجواد الأشهب ريشته الفنية ولا يمسكه عنان الزمن في إيقاف إبداعه .

انظر كيف يصور رهبة الموت الذي يلف أكتافه حول أخيه ضارعاً-راجفاً ظامئاً .. ونظن أن المقطع الثالث يبلور مفهوماً فكرياً اجتماعياً أراد تأكيده من غضب تلك الحياة وذلك المجتمع ولوعتهما وحرمانهما ، العيون حاقدة متلصصة والكذب يعبأ ويباع في علب إلى الجياع .. وهكذا تتضح شدة ألمه ويخلط الحزن بهدف أخر ، ونهاية القصيدة تثبت ذاك الهدف قائلاً :

أقول لكم غادروني
غادروا مرفأ كان في الفجر صبحاً
هاجرت منه كل الصواري والمراكب والأشرعة
غادرت مسرعة .., حملت للنساء اللائي
وخلت لنا الرمل في صدفات المحار ..

ولأن الموت حلمه وامنيته كما مر فيتحول رشدي من رثاء الميت إلى رثاء نفسه ويعلن ذلك في كثير من القصائد مثل قوله لصديقه يحيى([4]) :

صدقني أو أكذب ضوء عيوني يا يحيى
فأنا الميت بين الأحياء
أنا الحي أسير
ويسأل دربي الخطوات ألاّ تعيا.. ([5])

إن الشكوى تبدو واضحة من خلال مناجاة صديقه فهو واحد من الموتى الذين سحقتهم الأيام قائلاً :

إننا ميتون دون أن يرتوي في دمانا بطل ..

فإذا ما وجد موت الأعزاء من الأصدقاء أسى لنفسه التعيسة ماذا يجد في موته ؟ فقصيدة (الذبول) في ديوانه الأخير تمثل خلاصة ما انتهى إليه .. حالة المعاناة الشعرية وحالة الجسد المريض .. وفيها يصف جرحه الذي تصلب ولا شفاء له بعد ,

قال لي جرحه اليبيس : تعالي
فجري النبع من دم البرتقال
قطرة قطرة
تجنح دربي
في فضاء مخضب السمت عالي
وسرى واعتناق موت بهي
وسؤال يلح أثر سؤال([6])

ثم يبوح راثياً ذاته :

أنا ضيف الأسى
أنا رنة القيد
وصمت العيون في التمثال
ضاع صوتي وجف نبعي وغارت
في عروقي تلك الدماء الغوالي
أنا وهم خبأت في الظل ظلي
لايرى العابرون إلاّ خيالي
فنبيذي دمي
ولحمي رغيفي
وفراشي السراب فوق الرمال
فجبيني المعصوب لا يلمس الضوء
وكفى موثوقة بالحبال([7]) .

فماذا بقي لرشدي إذن؟ ضاع صوته وأصبح وهماً على فراش السراب ، وجبينه لا يرى الضوء عواطفه مقيدة بجبال الموت .. إنه اليأس حقاً ..

واستمرت فجائع رشدي في ذاته وتحسره لا ينقطع فقد هجرته شريكة عمره .. زوجه أم علي وتركت أسى لا ينقطع فرثاها وهي في الحياة بديوان شعر (هجرة الألوان) ولم ير إلاّ علياً من يبكي عليه قائلاً :

أن جبينك يدنو من وجهي مثل الموت
من يبكيني لو مت سواك واغترب
يا ولدي من يكتب عن دنياك إذا غبت سواك ..

وهكذا يأخذ الموت صوته الأعلى والأكثر عند رشدي ، فكأنه لا يعرف أخيراً من هو المريض في داخله الجسد أم الروح؟ فيندفع إلى خارج ذاته ويعود إليها عبر طوره المتصل بين الذات والحلم .

عذبتك المسافات .. يا أيها الحلم
بين الهوى والجروح
هل تغار عيني وترحل عني ..
فسواء لدي الجراح التي تستفيق بصدري
ونزف القروح([8])

ووجد يده لا تقبض إلاّ الوهم فكل شيء تساوى عنده قائلاً :

سواء في الورد والشوك...
سواء طريق يضم المدانين والأبرياء
سواء هو الذل والكبرياء في زمان رديء

وأخر ما كتب رشدي قبل رحيله بليلة واحدة قصيدته (صوت من الردهة الخامسة ) ومن مقطعها الأخير .. وهو ينقل صورة تلك المرأة التي لم تفارقه حتى الموت قائلاً :

أطرقت ثم لمت خيوط الحرير ..
طرزت وردة في غطاء السرير
من يلامس نبض العبير
راحلاً للمكان الجميل المطاف الأخير ،

إنه المكان الذي ينتظره طوال خمسين عاماً .. مكان جميل وأخيراً غنى له ورثى غيره به .. ([9])

ثم يختم رحلته برسالة نثرية يكتبها في المستشفى يسأل بها سؤالاً : من هو الصوفي . هو الذي لا يملك شيئاً ولا يملكه شيء ..

ورحل رشدي ولا يملك شيئاً إلاّ حب الناس والأصدقاء وعشاق الكلمة وبقي شعره لحناً تعزفه أوتار المفجوعين ..


 

free web counter