د. صدام فهد الأسدي

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الخميس 24/7/ 2008

 

الموت عند رشدي العامل شجرة متفرعة الاغصان

د. صدام فهد الاسدي

كما جاء في العمدة على شدة الجزع يبنى الرثاء)([1]) نلمح من خلال القول اصطباغ شعر رشدي بالحزن والأسى لا تمثل المراثي موضوعاً واسعاً في شعره ، ولكن توجد مرثيات لدى الشاعر كتبها في رثاء أصدقائه كما يذكر الناقد حاتم الصكر: ( كان يدهشني وفاؤه للموتى من أصدقائه والبعيدين ، وكأن يسجل أدق الذكريات وكأنها أمام عينيه ، كأنه يرى موته وغيابه فيهم أم أنه كان يستثير بهم شعره أي حياته الباقية ) ([2]) .

ويقول أحمد الشايب عن الرثاء " فن الموت ولغة الحزن ومجال اليأس ومعرض الوفاء . والحزن والكوارث ومدعاة إلى العظة والاعتبار لذلك يكون أسلوب المراثي رقيقاً ليناً "([3]) . ورشدي شاعر ما عرفت مثله شاعراً عذبه الحزن تتساقط أحزانه كما تتساقط أوراق الخريف وقارئ فصائده يلمس وخزة الألم والأسى والحزن وهذا كله ما جاء من فراغ ، فالظروف التي عاشها في صباه ، وحدة قاتلة وسجناً ونفياً وغربة ثم أتجه للخمرة كبديل ينسيه الحزن وضياع زوجه وحرمانه منها وأخيراً غربة ولده علي .. كل هذه كافية لإعطاء الشاعر الحق في هذا الحزن.

كان يتفاعل بألم مع شعراء الرثاء وكما يصور صديقه حارث لطفي وفي ذلك قائلاً : ( كان يلقي علي الشعر بلغة حزينة وإذا كانت القصيدة من المراثي يمكن أن تشعر أن سكيناً تمزق أوتار القلب )([4]) .

والمعروف عن رشدي كما يصفه الناقد فاضل ثامر ( كان حساساً مصنوعاً من نسيج رقيق من الأعصاب المستفزة وهو إضافة إلى ذلك يمثل موهبة الشاعر الحقيقي المطبوع "([5])

ونرى إن قراءات رشدي وتأثره بطرفة بن العبد وعلي محمود طه المهندس وإبراهيم ناجي والياس أبي شبكة وشعراء المهجر .. كل هذا يحدد أصبحت لديه روافد غذت فكرة بطابع الحزن والحرمان منذ أن أصدر ديوانه الأول (همسات عشتروت) عام 1951 ويرى طراد الكبيسي قائلاً : (بلغ ذلك التطور النفسي لرشدي ذروته في ديوان(عيون بغداد والمطر ) عام 1962 متمثلاً ذلك الإحساس بالوحدة"([6]) .

وبقدر ما يمتلك الشاعر من شدة الانفعال والإحساس وعن هذا (موهبة جيدة في الشعر)([7]) .

ولولا هذا الحزن ما بعثت شاعرية رشدي والشاعر الحزن فيقول (إن الحزن هو التميمة \التي تقي الشعراء أمراض الجنون أو الموت أعني النضوب) ([8]) .

( وكان رشدي عاجزاً عن كبت الأنفعال ولكنه بصبره يبدو قادراً على تحمل الجرح وكان يدخر الحزن لشعره والمرح لأصدقائه) ([9]).

وفي ديوانه الأول لمح رشدي للموت والخوف من نتيجته النهائية في الحياة وهو يبحث عن المصير فيقول :

أبعد غد أهو مسك الختام
ويسدل على المشهد
بفاسقة يستبد الردى
كما ينزل الموت بالعابد([10]) .

وكان تساؤله المستمر كيف يأخذ الموت بالفاسقة والعابد وكيف تكون النهاية واحدة ونستطيع أن هذه التلميحات هي تصورات وجودية حاصلة نتيجة تأثره بما يقرأ بالرغم من إنه كان لا يستقر في حياته والإيمان عنده كان ضعيفاً بالإضافة إلى تشككه في يوم القيامة وانصرافه إلى الخمرة والاتجاه السياسي القريب من الإلحاد والصراعات التي تعرض لها .. كل هذه جعلته متسائلاً عن الحياة والموت ولا جدوى لهما . فلماذا يتمسك بالحياة ، وما الذي يحصل بعد موته .

أترى يختلف الأمر بعيشي ومماتي
فلقد عشت وحيداً هائماً بالفلوات
وسأذوى أتداعى للوحوش الناهشات([11])

ثم يسأل ما هي نتيجة الإنسان :

أليست حفرة ؟
لم تزل تنتظر الشاعر في الفجر ، وسره
- غير حفرة .. بعض حفرة
أي سر في الدجى يكتم سره .

وأكد كثيراً على كلمة الفناء الذي يراه الموت من يخطف كأس الحياة الثمينة ويحطمها .. قوله في قصيدة صلاة :

قد خبت شعلة أحلامي سيطويهن قبري
ومضى بي لفناء لظلام الموت عمري ([12])

وأصبح الموت أمامه الغائب الحاضر الذي أخذ جزءاً كبيراً من تفكيره وشعره الذي عبر عنه بصورتين أحدهما صورة الموت القبيح ويقف ضده متعلقاً بالحياة وهذا أمر طبيعي من حق الإنسان أن يعيش حياته ويخاف نهايته فكثرت في قصائده كلمة الموت ويتمنى أن لا يقترب منه الموت (وليت الموت لا يدنو) . ثم يشبه الموت بسيل زاحف..

أحس الموت يا أختاه يزحف دونما رحمه
أحس العالم المفقود
في عيني بلا ألوان
أحس الموت يقطر في فمي سمه([13])

ويصور الموت وحشاً ماداً مخلبه للقبض عليه واقتلاعه وكأن الموت لن ينطفئ في عينيه ومضه قائلاً :

لن ترى أهدابك السود ، عيونه
عبثاً مخلبه يمتد ، أو ترنو عيونه
وكأن الموت إذ يعدو على الأحياء ، غيله
لن يرى غاباتك السود ، فيغتال جديله([14]) .

ويضع صورة ضخمة للموت (المنطبق الأحداق ) (كهوف الموت) ويصوره فأساً مثلمة اللسان في قصيدة المنفى قائلاً :

ناموا بلا أحلام ، وكأن الموت يأتي ، حين يأتي فأساً
مثلمة اللسان
وطعنة ...من غير صوت
تطأ الجباه
فتشجب الأضواء في ضفة العيون
ويئن عند الصدر بركان ، من الدم ، في الجفون([15]) ..

ونلمح عند استعمال الأفعال التي تعطي دلالة الفناء (يطوي – يقطر- تشجب)، والصورة الثانية الموت الجميل الذي تراه السيدة نازك الملائكة في دراستها شعر الشابي (يذكر الموت يتحدث عن الجمال والحياة والشباب والأمل والربيع)([16]) ، ورشدي يلتفت إلى هذا السياق ذاته فكيف يضحك الموت كما يضحك القمر قائلاً :

ستموت ويضحك كالموت القمر
أما الشارع ينفجر([17])

وأية رغبة تلك حينما يلثم الموت .. قوله :

أريد أن أندس في صمتي ..
ألثم حتى رعشة الموت([18]) .

ويرى الموت عالماً يتحقق فيه ما يفقده فيه من عالم الواقع وعنده تنقلب كلمة الفناء إلى وجود فماذا نلمس من تحليل قائلاً :

زارني الموت .. ما ألعن الموت ، ما أبعد الموت .. ما أقرب الموت
ما أجمل الموت يدنو
ما أبعد الخطوات القصار([19])..

فما الذي يريده من قوله (ما أجمل الموت) أنه يراه جميلا ينهي معاناته ويقول في قصيدة بطاقات :

هو الموت الذي نحلم فيه عندما نحلم
فبأسراره البيضاء وبأهدابه السوداء
دعينا مره نحلم([20])..

وقد يجمع بين الصورتين الجميلة والقبيحة ويحصل تداخل بينهما .. أنظر قوله :

هل أن طريقي للموت
وأن الموت طريفي للحب
وإن زهوري حقل للشوك والصبار .

ويبرر رشدي موقفه هذا قائلاً :" لدي عالمان الحب والموت يمتزجان ببراءة يعانق أحدهما الآخر .. إن الحب لا يثقل كاهلي ، كما الموت الذي أحسه عذاباً عندما يأتيني برفق إنه قانون لا قبل لنا بدرئه ولذا ينبغي أن نقبل هذا القانون باعتباره سنة من سنن الطبيعة ، والموت يأتي على غير انتظار كما هو الحب إنها شريعة فيها غموض ولا أستطيع تفسيرها ، إن هذا الاقتراب المدهش بين الرغبة المذهلة في الحياة التي يعيشها الإنسان عندما يقترن انه بكائن أخر وبين المغادرة النهائية لهذا العالم يستبد بذهني إلى فرحة أفكر من خلالها إن الحب هو الموت"([21]) .

ويرى الحب كائناً وفناء الكائن الآخر وكما يؤكدها حالة ولادة تشكل داخل التكوين الشعري ، يقول:

زارني الموت.. ما ألعن الموت
ما أبعد الموت..
ما أقرب الموت..

ويفسرها قائلاً : عملية ولادة بيولوجية شعرية ، تلك الولادة عسيرة أحياناً تمر بمرحلة من الرعب ، الوليد يتشكل من الأرتعاشات والجزع والموت واللعنة والفرح المكبوت في بعض الأحيان([22]). فتتوزع في أغلب قصائده كلمة الموت على مساحات واسعة وقد تختفي أحياناً وراء خلفية غير مرئية كما يعبر عنها ويتحرك داخله دم الولادة التي تحدث عنها ، وهو الموت الذي يسكنه " إنه التمزق في زمن صعب"([23]).

ولعل رشدياً كان مؤمناً بمقولة الشاعر كيتس (الموت مكافأة الحياة الكبرى)([24]) وينظر الموت هو العدم النهائي الرائع فعندما يسأله عنه عادل كامل (لا أعتقد أن الموت في الأخير سوى رماد .. الموت بالنسبة لي هو العدم النهائي الرائع) ([25]) .

وعندما يرد الموت لدى الشاعر يربطه دائماً بقضيته كشاعر ملتزم بحب الوطن وإن الموت عنده لا يحضر مجرداً وإنما يقرنه بفكرة اجتماعية يوصي بها ولده عليا :

لا تركع يا ولدي حتى للموت..([26]) .

ويقرن الموت بتحديه لصراعاته السياسية ..

إني أرهن يا ولدي كل حياتي
هل يبقى القيد أسير يدي /أم يأسر كف الموت([27])..

ويعد الموت حقاً وعدلاً وينادي ويطلب أن تكون الحياة عادلة كالموت .. لنسمع قوله :

يدك اليمنى بلا كف وعيناك بلا لون
وأمواتك من غير قبور
في كهوف الموت جوعى
يسألون الله ضرعاً
ويموتون من الموت فلا يعطى لهم غير البخور([28])..

ولماذا يبقى الموتى من غير قبور بعد جوعهم وموتهم ، وكيف يصف اللقاء بهذا الوطن عندما يموتون زمناً ويتحسر لذلك اللقاء قائلاً :

غرباء نحن متنا زمناً ثم جئناك ، فيا بؤس لقانا([29])

ويشير فوزي كريم قائلاً :" أنت تقرأ في سنة 1962 للشاعر (مرثية العام الجديد) ، (مرثية للأحياء) عام 1968وفيها تزدحم المذكرات من المنفى والرسائل من المنفى والهرب حيث المنفى إلى الداخل/والموتى لا يبتسمون وقد يندفع هذا الحزين اليائس الحزن واليأس والسياسيان إلى تأمل ذي صبغة وجودية وعدمية حيناً آخر" .

أن تستفيق القبور وان تلبس الميتين
كفن الآخرين
أن يستعير الاله الكفن
من عظام الملائكة والمرسلين
ان تسترد الثمن أعين الخاطئين
ان تسترد الثمن فتات الطعام من الميتين
ان تستعير القبور قبضة من بذور
من طعام الاله ومن جزية الفاتحين ..

ويعلق فوزي كريم قائلاُ "تفتقد القصيدة للعين الفاحصة إلى أية علاقة منطقية بين صورها أو حتى مفرداتها .. فالقبور كفن الآخرين والإله يستعير الكفن ، أن الجهد غير التلقائي الذي يبذله رشدي يتجاوز كمية إمكانية الطاقة النوعية المتوفرة في تجربته"([30]) .

ونرى فوزياً قد ظلم (الشاعر) في حكمه هذا وفق الشاعر تماماً بذلك الجهد والانسياب الأيقاعي وتوفر الوحدة الموضوعية الهادفة التي أراد بها التلميح للموقف السياسي والإشارة إلى الظلم الإجتماعي الذي يصبه الزمن على الإنسان العاجز ..

لذلك يلتجئ إلى الوطن قائلاً :

وطن المدافن لا تقل جاءوا غداً تأتي الإشارة ..
كفن وجمجمة مهشمة الجوانب في مغارة ..

ويعمم حالة الزمن عندما يخاطب الوطن قائلاً :

وطن المدافن والبحار الملح والكتب المباعة
حيث الحياة عليه عبء والنساء بضاعة

ويتشكك بالموت وما بعده .. هل يوجد انبعاث .. وهذا ما أكده صديقه حارث لطفي وفي سابقاً حيث قال الشاعر :

الموت المنطبق الآفاق
من يحلم بعد الموت .. أن ترجع يوماً أن تأتي
أن تحلم بالأزهار في المدن الضائعة الأسوار([31]).

ويعتبر الحياة والإيمان خطيئة قائلاً :

خطيئة عمري إني بمعجزة الطين وصدقت بأن الأرض تدور
وإن وراء الليل نهار
وأودع عندك هذا الخجل المر يأتي أحياناً ..
وعيون رفاقي أغمضها الموت([32]) ..

وبالرغم من شكه وقلقه إزاء الحياة والموت فقد كان مؤمناً بحتمية الانتصار وعدم الهزيمة قائلاً :

الشارع ينتصر والموت
قصتي لن يستطيع الموت ..
حتى الموت أن يساب مني
شغفي بالأرض والإنسان الجديد([33]) ..

ولذلك يرى الدكتور عبد الوهاب العدواني في دراسة قصيدته الرحيل-هذا الانتصار قائلاً : ما أروع أن ترى وطنك في حالة موتك وقد خلوت من كل قدرة على الإحساس بالأشياء([34]). يصل رشدي إلى ما بدأ به عندما قال: "أنا في دنياي لغز وكذا كل الحياة" .

وخير قول ذكره بهذا الصدد عبد الرحمن طهمازي "في شعر رشدي تنتابنا الدهشة في كل لحظة ، تدير المفاتيح ولم تفتح مغلقاً بعد"([35]) .

حتى انتهى رشدي بحكمه ينهي رحلته مع الموت قائلاً :

في العالم لاشي سوى الوهم
وأغصان الموت
وجوع الفقراء([36]) ..

وهنا اعتبر الموت شجرة متفرعة الأغصان ، ترى من هم موتاه ، ومن هم الذين رثاهم .



 

free web counter