د. صدام فهد الأسدي

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأحد 20/7/ 2008

 

غنائية رشدي العامل المتدفقة ايقاعاً

د. صدام فهد الاسدي

الموسيقى ظاهرة بارزة في شعره فهو شاعر غنائي وقد يلجأ الى تنغيم قصائده بطرائق متعددة ، والموسيقى عنصر مهم من عناصر العمل الشعري لذا ندرسها في شعر رشدي عن طريق الوزن والقافية . والمعروف عن رشدي وغنائيته التي اشاراليها الناقد طراد الكبيسي ( رشدي ذو موهبة متدفقة عندما تجيش تملي ديواناً أو عشرات القصائد دفقة واحدة ، وخاصة اذا علمنا ان الشاعر غريزي يعتمد على فطرته وقد قرأ العروض على يد ابراهيم الوائلي في كلية الآداب لكنه لم يتعلمها ولم يعبأ بها ) ([1]).ومما أشار اليه الناقد ماتميزت به موسيقى شعره بالعذوبة وانسياب موسيقاه ، وشفافية صوره . ورشدي قد حافظ موسيقياً على دائرة العروض الخليلية في شعره العمودي ، ونراه جامعاً بين النوعين فيستخدم اضراباً لم ترد في الشعر التقليدي وهذا مادرسه قبلنا السيد ثائر العذاري في أطروحته حين قال ( يصعب تحديد انتماء هذه القصيدة هل هي من الرجز أم من السريع فالشاعر يستخدم اضراباً لم ترد في الشعر التقليدي )([2])، وقد قطع الباحث قوله هذا عروضاً بالشكل الآتي :

وريشتين من جناحه المكسور ( وريشتي – مفاعلن ) ( ن من جنا – مفاعلن ) ( حه المكسور – مفاعيلان) ويقول ان السطر مختوم بتفعيلة الهزج مع زيادة ساكن ، ونرى أن هذه القصيدة ليست الأولى عند رشدي وهي من بحر الرجز ذي التفعيلة (مستفعلن – مستفعلن – مستفعلن ) والذي يكون أحياناً مجزوءاً بأربع تفعيلات كما وهي بعيدة يرى الدكتور نعمان القاضي([3]). ولا ندري ماالذي جعل الباحث العذاري متخذاً التفعيلة (مفاعلن) وهي بعيدة جداً عن الوزن هذا ، علماً بأن أبيات القصيدة تثبت ذلك الذي ذكرناه.

رأيت وجهاً خانه الآله
تلعنه القلوب والشفاه ([4])

وتحليلنا لهذه الملاحظة أنها ليست ظاهرة عامة عند رشدي كما سماها الباحث العذاري بل ان الشاعر استخدم عدة بحور شعرية في قصائده وهذه المزاوجة بين البحور في القصيدة الواحدة تجربة موسيقية نستدل بها على ثراء موسيقى الشاعر.

وفي قصيدة ( بغداد والراية ) اعتمد رشدي على تشكيلات موسيقية متعددة في مقاطعها الثمانية فقد بدأ القصيدة بالشعر الحر ومن بحر السريع .

الصمت في جدرانك العارية([5]) .

ثم بدأ بمقطع ثان من الشعر العمودي ومن البحر البسيط :

بغداد مذ كان وشم في أصابعنا ودمية نحتويها الليل ، صبيانا

وفي المقطع الثالث عاد إلى السريع وهكذا ولع الشاعر في البحور وقد يحصل لديه تغيير في حروف الروي في القافية التي كتب بها شعراً عمودياً فقد كانت نونية ( بحرف النون) كما نقرأ في البيت السابق ثم يأخذ حرف الراء ( رويا) .

جبينك الفجر يابغداد مرتعشاً ووجهك الأبيض الفضي أقمارا([6])

والذي نروم قوله ان الشاعر يستخدم كل مقطع من هذه القصيدة ليمثل صوتاً مستقلاً عن المقطع الآخر فتعطي تلك المقاطع للمتلقي أشكالاً مستوية ذات موسيقية أكثر مرونة وحدة ، وقد كرر الشاعر هذه التجربة في أكثر من قصيدة ([7])، وثمة بواعث تجعل الشاعر يختار هذا الوزن دون غيره ، ولعل الرأي الذي طرحه الدكتور جابر عصفور ينفعنا في هذه الأشارة حين قال " التفت الكندي والفارابي الى متشابه الوزن الشعري مع اللحن الموسيقي من حيث تأثيرهما في السلوك فقال أن أوزان الأقوال لها ايقاعات مشاكلة لإيقاعات الألحان بمعنى ان الايقاعات الثقيلة الممتدة في الزمن تشاكل الشجن والحزن ، والخفيفة المتقاربة تشاكل الطرب"([8]).

وهذا الذي ذكرناه قد حدا برشدي على الاستفادة من امكانات السريع للتعبير عن فورته وأحزانه وكأنه أدرك ان حالته تتطلب التوجه الى نمط موسيقي مغاير .. قوله :

سمعت الريح ،
من واد الى واد تناديني
يريد سريرها المرتج ،
لو يستطيع يغويني([9])

وكأنه أخذ هذا المقطع الأول الذي كان من البحر الوافر ثم يختم قصيدته ببحر الرمل.. قوله :

حطب في باحة السجن وشباك مضاء
وبقايا لطخة سوداء كانت في شتاء([10])

ومن هذا ندرك سر تركيز واهتمام رشدي بالرجز أكثر من غيره من البحور فقد استخدمه (46) مرة ثم السريع (38) مرة والرمل (35) مرة والكامل (24) مرة والمقتضب (22) مرة . والرجز من البحور الصافية وهذا يعطينا انطباعاً أولياً بأننا سنحصل على موسيقى صافية في شعره ، ولعلنا نستفيد من قول الدكتور النعمان القاضي " الرجز بحر سهل الاستخدام وكان في العصور القديمة شعبياً وقد صعد نجمه في العصر الحديث فصار من أكثر البحور العربية استخداماً لاسيما في الشعر المرسل أو الشعر الحر"([11]). وقد أجرى الباحث ثائر العذاري في دراسته ديواني الشاعر احصائية للبحور التي كتب فيها رشدي وأشار الى أن هناك ثلاثة بحور يصعب فصلها عن بعضها في الشعر العراقي وهي ( الكامل والرجز والسريع ) وقد أجرى دراسته لقصيدة ( رسائل قصيرة) ([12])، ومن الأشكال الشعرية التي كتب بها رشدي قصيدته فأولها الشعر العمودي وقد ابتدأ به في ديوانه البكر ( همسات عشتروت) عام 1951 ، ومن بين ثمانية دواوين أحصينا للشاعر ( 32) قصيدة من الشعر العمودي عدد أبياته (805) أبيات وقد وردت تلك القصائد منفردة من الشعر الحر مرة وأخرى قد قد زاوج في القصيدة بين النوعين . والذي نروم تأكيده ان الشاعر منذ بدء كتابة الشعر وحتى آخر ديوان له قد استخدم القصيدة العمودية في الأمر الحاسم ، فعندما يكتب قصيدة وطنية أو يرثي أحد الأصدقاء أو يرثي ذاته فينساب معها وجدانه انسياباً صادقاً حتى يكتفي بالقصيدة بشكلها العمودي دون أن يأتي ببيت واحد من الشعر الحر ، وكانت دواوينه الأولى خالية من القصائد المتداخلة واكتفى بها بإفراد النوعين عن بعضها ، لكن في دواوينه الأخيرة حصل تداخل بين النوعين ، ومما أعتاد عليه الشاعر أن يقدم الشعر العمودي مرة ويحصل العكس ، أما البحور التي استخدمها فقد كان الرجز في مقدمتها .

والشكل الثاني هو المزدوج الذي زاوج فيه الشاعر بين الحر والعمودي ، فالقصائد المزدوجة (20) قصيدة مجموع أبياتها العمودية ( 154) بيتاً ، ومما نريد ذكره ان البحر الذي استخدمه الشاعر في هذا الشكل قد كان مختلفاً كما بدأنا بذكره([13]).وأشهرها السريع والوافر والبسيط والمتقارب والرمل والكامل ([14]).

وقد استخدم البيت المدور ، انظر قوله :

غير ان الفؤاد أرعبه اليأ س فماتت خواطري في لساني

وقوله :

سوف يعدو عليك في ظفره النا بي على جيدك الجميل فنامي([15])

والقافية كالوزن فهي عنصر مهم في بناء القصيدة وتوجيهها المعنوي وتمثل مع الوزن مقومات العمل الشعري ، وشاعرنا رشدي صاحب الغنائية المعروفة يستخدم قافية متنوعة ، فمرة قافية موحدة تأخذ روياً واحداً لايتغير مهما قصرت القصيدة أم طالت ، وهذا النوع قليل في شعره وعدد قصائده فيه (31) قصيدة وبعضها قوافي تكون متشابهة في حرف الروي وبعضها بقافية متحركة ، مثال ذلك قوله :

بل الخريف جراحي فهي ساكنة ونام بين ضلوعي موقف النارا([16])

وقوله ضمن القافية الساكنة :

مررت بي وأغرورقت عبرة ها أنت في دوامة الآخرين ([17])

وقوله أيضاً :

وألقت بمنكبها في ارتخاء تلمس في الظلمة الحاشية ([18])

ومنها القافية المطلقة التي تتبع الف الإطلاق كما عبر عن أهميتها الدكتور علي عباس علوان قائلاً : ( وهي قواف استحسنها القدماء وأجاد فيها الشعراء ليسرها ولسهولة مخرجها ) ([19]).

ومن قوافي رشدي قوله :

بغداد مزرعة للموت آمنة تحيك للفرح المجنون أكفانا

ويستخدم رشدي قافيتين مختلفتين في قصيدة واحدة ويتغير حتى حرف الروي ويجمع بين اللام والراء الساكنتين([20])، وبين النون مع ألف الاطلاق ([21])، وحتى الياء المضمومة بالرغم من ندرتها وصعوبتها فقد استخدمت في قوافيه([22])، أما الشكل الثالث فهو الشعر المدور الذي أهتم به رشدي آخر حياته ، وقد وصف الناقد طراد الكبيسي ذلك قائلاً : " ان ظاهرة التدوير موجودة في مرحلة الخمسينات عند رشدي وغيره من الشعراء ولم تكن تكتيكاً متقصداً كما ظهر في قصائد السبعينات في تجارب عدد من الشعراء وإنما هي تجزأة الشطر ليس على اساس التقطيع العروضي بل على أساس المعنى ولا أعتقد ان الشاعر لديه تكتيك مقصود بل من قبل الجانب المعنوي والتأثر في المحاولات الأخرى التجديدية في الشعر المرسل الذي يطلق عليه ( ظاهرة الجريان ) لأكثر من سطر حتى يكتمل المعنى والايقاع "([23]).

ومن خلال اطلاعنا ومتابعتنا نتاج الشاعر بقصائده المنشورة وغير المنشورة لم نعثر الاّ على قصيدة واحدة بعنوان ( تذكارات)نشرها الشاعر في مجلة الأقلام قبل وفاته بشهور قليلة . يقول فيها :

أحلم أن أنسى في وجهك وجه الزمن المذبوح
وأنسى لون الجرح المتلأليء في الشفتين
فمن يوقض طفلاً يغمر أهدابي بالليل وذاكرتي بالنسيان

أما الشعر الحر فهو شكله الآخر بعد العمودي وقد نشر قصائده الحرة في ديوانه الأول ( همسات عشتروت ) عام 1951 ، وهذا يعني انه يستحق الريادة في هذا اللون الشعري الذي تنافس الشعراء على ابوته في بداية الأربعينات كالسياب ونازك والبياتي ، وعلى الأقل أنه قد عاصر الرواد الكبار وتأثر بهم وخاطبهم ببعض قصائده وأهدى لهم بعضها ، وقد بلغ عدد قصائده الحرة (210 ) قصيدة ،عدد مقاطعها (618) مقطعاً .

ومن الظواهر الفنية التي لمسناها في قصيدته العمودية التصريع التي ترتبط ارتباطاً بإنتاج القصيدة وبجهد الشاعر نفسه في ابداعه والأهتمام به في المطلع الذي يصطدم به المتلقي . ومن التصريعات التي وردت في قصائده العمودية :

لقاءاتنا في الليالي الخوالي وماضي الهوى لخيال خيال

وقوله :

ومضت تجر بلا هواد قلباً تجلبب بالحداد([24])

ونحن ندرس القوافي ، فمن خلال إحصائية الحروف الأبجدية قد وجدنا أنه استخدم تلك الحروف أكثر من غيرها وحسب الترتيب ( الراء ، النون ، الدال ، اللام ، الباء ، الميم ، الهاء ، التاء ، الهمزة ، الياء ، الفاء ، السين ).

ونلاحظ بدقة أن الحروف المتقدمة لقوافيه هي ( الراء النون ، الدال ) ([25]).

ومما لاحظنا ، أيضاً أن الشاعر عمد الى تنويع قوافيه بشكل مستمر وقد استخدم القافية المقيدة الساكنة لشدة القلق في داخل نفسه ويريد أن يستقر بالسكون مع القصيدة على الأقل .

والتكرار الذي حصل في قوافيه داخل القصيدة الواحدة لم ينتبه اليه .. أنظر قوله :

وسامر يتحرى وجه ربته تدب أعراقه الحمراء انسانا
من ألف عام يشد القيد أوردة منا ونمنح في الظلماء انسانا ([26])

وقوله :

بغداد في غبش الاعراس ذاهلة عيناك ترقد في أعماقها النار
ماذا تقول اذن في كل زاوية ثياب عرس يغطيها الدم النار([27])

وقوله :

الثورة البكر والأهواء جامحة والموت والحب والميلاد والثار
بغداد صيحة ليل في حناجرنا اذا أردت أطل الحقد والثار([28])

وقد يكرر اللفظة عندما يغير مقطعه حيناً ولكن بعض الأحيان في القصيدة نفسها يكرر اللفظة في الثانية ذات الروي المتشابه([29]) ومرة يجلب مفردات قلقة يستخدمها كقافية يضطر الى تسكينها مثل قوله :

تطوين ذي الأرض الصلود من الوهـــاد
أو ما ذكرت لقــــاءنا بالأمس ولن يعاد ([30])

فالفعل كما نراه منصوباً بلن والثانية دال مكسورة.
ولعله وقع في ظاهرة الأقراء التي لمسناها ودرسناها في الشعر الجاهلي وعن سر ولع رشدي في القوافي قال الناقد فاضل ثامر([31]) : ( نجد في قصيدة ( حديقة علي ) تطريباً واسرافاً عاطفياً وفيها عبارة غريبة للقافية والروي بالأمكان اعادة كتابتها بطريقة عمودية تماماً ، ونجد مثل هذا الولع المسرف في القوافي قوله :

الطائر المذبوح
غنى على ربابة الجروح

وللناقد محمد صابر عبيد رأى في ولع رشدي بالقوافي ( أما ولع رشدي بالقافية فهو أمر ليس بالجديد لأن القافية وسيلة مهمة من وسائل تصعيد الغنائية والموسيقى الخارجية في القصيدة لذلك فقد لا يوافق أحياناً في ضبط التزامن الإيقاعي بين الموسيقى الداخلية والخارجية لكنه على العموم من أنجح شعراء جيله في تكتيك القافية ) .

وقد عاب الناقد فاضل ثامر الشاعر بتكرار القافية قائلاً : ( مما تميزت به بعض قصائده الدوارة المتكررة النابعة من بؤرة شعرية واحدة حتى يعتبر طول القصيدة فضفاضاً وغير مبرر وقابلاً للاختزال إلى قصيدة اعتيادية) ([32]) .

ومما نراه في رشدي عند استخدامه القافية إنه يختار نوع القافية المناسبة لغرضهِ الشعري كي ينسجم مع ما في ذهنه من معان ولعله يريد أن يجعل من قافيته متحكمة في مجرى البيت ومعناه لذلك مال إلى التصريع في استخدام الحرف نفسه رويا لمطلع قصيدته . واستخدم رشدي كذلك نظام القافية في قصائده الحرة فمره كتب قصيدته على أساس المناوبة بين قافيتين مردوفة وغير مردوفة بروي واحد قوله في قصيدة موعد :

في الساعة الرابعة
أصغيت للدقات .. كانت بيننا ساعة
كانت عيوني الناس ملتاعة
كانت نداءات نساء الفضل للباعة
صخابة مسرعة([33])

ومن الوظائف المهمة التي تؤديها القافية إعتمادا على الأثر الذي تحدثه في نفس القارئ من أثر كما سماها الباحث ثائر العذاري ( الفاعلية النفسية) ([34]) .

ورشدي يقدم نظام التقفية القائم على تداخل بين الالفاظ ، انظر قوله :

لعبنا معاً ثم متنا معاً
غريبتين كل على أرض سجن
وحيدتين في كل وجه وتر
يحز وقد غاب عنه المغنى يحز الحجر
صديقين كنا معاً([35])

فالذي يقرأ المقطع يحس بشعور يبقى عالقاً في النفس نتيجة رغبتها في عودة القافية التي يعد بها السطر المقرؤ حتى إذا وصل القارئ إلى نهاية السطر الرابع بدء شعوره بالتفاؤل ومما نراه [أن معاً] الأخيرة هي تقفية لكلمة معاً الأولى التي ما برحت تنظر صاحبتها .

وعندما تكون القصيدة مؤلفة من عدة مقاطع يأتي رشدي بقافية معينة تؤذن بانتهاء المقطع وقد نظر الباحث ثائر العذاري الى هذه الظاهرة عيباً اذ أنها تعود بالقصيدة الى الشكل اللامتناهي([36]). وهذه قد استخدمت قديماً في أساليب الموشحات ويؤكد رشدي هذا في قصيدته ( رغبة ليلية) ([37]).

فالقصيدة تبدأ ( يازهرة واحدة ) يختم بها مقطعه الأول ثم ينهي بها قصيدته مع اختلاف حرف الروي قائلاً :

يزهرة واحدة ...
لاتهبينا الصمت ان النهار ..

وينظر رشدي في دلالات الكلمات المستخدمة في نظام القافية ، أنظر قوله :

وعندما مدينة متعبة
تريد أن تستريح
تريد أن تدفن في الليل ضحاياها
تريد أن تلثم ، قبل الدفن ، موتاها
تهرب من أعيادها الزرقاء ، عيناها
من أجل عيد المسيح
من أجل جريح يصيح ([38])

فقد استخدم ( متعبة ، تستريح ، ضحاياها ، موتاها ، المسيح ، يصيح )وعنده الكلمات مابها من دلالات تحمل القيم التي أرادت السطور عرضها .

وغالباً مايشاق رشدي قافية من مفردات أبياتها وهذا مايعرف ( رد العجز على الصدر ) . أنظر قوله :

وغريب يأويه في الليل بيت ويغاوي صباحه الغض بيت([39])

وقوله :

عجب يرود البحر طرف ويعود للصحراء طرف ([40])

وقوله :

يحوك ولايدري اذا رحل الدجى فمن أي خيط للصباح يحوك([41])

ويملك رشدي ملامحاً موسيقية أخرى يمكن تسنيتها كما يريد النقاد ( المناسبة ) وهو أن يأتي الشاعر بكلمات متزنة انظر قوله :

أنا أكره النبع الشهي اذا تمرغ فيه قحف
وأبارك الدم في العروق اذا تمرد فيه ضعف
ماشئت عصف جهنم أو نفخ فردوس ولطف([42])

فقد ناسب بين ( تمرغ ، تمرد ) ، ( قحف ، ضعف ) ، ( عصف ، لطف ) .
ومن المظاهر الموسيقية في شعره الايقاع الذي يستخدمه بعض الأحرف في كل بيت شعري يحد تكرارها أصوتاً وايقاعات موسيقية معينة يهدف الشاعر من خلالها الى اشاعة جو خاص ينسجم مع انفعالاته النفسية الى التأثير على سامعيه فضلاً عن اظهار قدرته الفنية في رسم صورته الشعرية . فعندما يعبر عن تجربة خزينة يستعين بموسيقى خافتة لبجرس فيستخدم حروف المد المتكررة ليضفي حزناً وجواً كئيباً . أنظر قوله :

طقلنا ذلك المستحيل
ذلك القادم المستحيل
كان طفلاً وديعاً جميل
يتقي دربنا
حين يدنو الينا
حين يأتي الينا ، يميل ([43])

فحروف المد ( الياء ) ترتبط بايقاع حين ومشاعر حائرة كما يرى الدكتور ابراهيم أنيس " حروف المد أكثر صلاحية للتغني بها ، مما قد يجعل الأبيات التي تضمنت أكبر عدد منها أجدر وقعاً في الأذن "([44])،ونجد حروف المد كذلك تتناسب مع أحزان رشدي وغير حروف المد أيضاً مثل حرف النون في قوله :

ونهاجرُ داخل أنفسنا
تهرب من دمنا
ننأى في أعيننا
تنأى عنا أعيننا
نبحث في أعراق الموتى عن آخر مرفأ([45])

فالكلمات يبدو فيها حرف النون أكثر من عددها وقد تأتي التاء ( ست) مرات في ( ست) كلمات ، انظر قوله :

ستظل تغني تحلم تبكي تضحك ترقص قلب القيثار([46])

وتنسجم عنده حروف أخرى كالسين والشين ، قوله :

صوتك يهمس لايهمس
يمضي كالضوء
ويسدل فوق الشباك ستارة
وجهك مسكون بالحزن وبين عيونك شارة([47])

فهل هذه جاءت صدفة " اذ تلتقي الحروف الصامتة بهذا الإيقاع ، فالشاعر يتناغم بإحساس داخلي وإيقاع نفسي خاص بفطرته وإبداعه الشعري ، وثمة حروف متشابهة تتداخل في قصائده مثل قوله :


تأتي إلينا
تركع الجارية الشقراء
فيرحل الخجل
وجهك مصبوغ على عجل"([48])

انظر الى حرف الجيم وكيف تتناسق في داخل البيت ومثله قوله :

في كل عطفة فجر من مرابعنا يزكو دم في ربيع العمر معطار([49])

فالفاء ( في ، عفه ، فجر) والراء ( فجر ، مرابع ، ربيع ، العمر ، معطار) والميم ( مرابع ، دم ، عمر ، معطار) .

وحين ترتب الحروف أبجدياً لم يفته بإيقاع جميل ، أنظر قوله :

أوراق البستان وأشجار الورد
عيون الأطفال صفاء الماء([50])

فالحروف ( س، ش، ط، ص) جاءت مرتبة بإيقاع يتناسب مع إحساسه الذاتي ورغبته في توصيل حسه وشعوره . وللبديع اللفظي صلة وثيقة بموسيقى الألفاظ وقد أمتلك رشدي مهارة في تنسيق كلماته ومن ذلك البديع الجناس لما له من أثر في وحدة الجرس اللفظي ويأتي بعد الوزن والقافية كما يؤكد ذلك الدكتور يوسف حسين بكار([51])" الجرس اللفظي ويأتي بعد الوزن والقافية ويدخل في الجناس والطباق وسائر المحسنات اللفظية مع تركيب الكلام ، كما إن لكل من الجناس أثره في وحدة الجرس والطباق يظهر أثره في تنويع هذه الوحدة ".

انظر قوله في الجناس :

أشعر أني أوسد رأسي كف العراء
وأصرخ ملء جبيني هبيني هبيني العزاء([52])

فقد جانس بين كلمتين (العراء ، العزاء)(هبيني ، جبيني) وهذا مايسنى جتاس التحريف، ومن جناس الاشتقاق قوله:

زرعت في الضفة الأخرى عطايانا فأثمر الشجر المعطاء طغيانا([53])

فقد جانس بين ( عطايانا ، ومعطاء) .

والتصريع صورة أخرى من صور الإيقاع الداخلي الذي وظفه رشدي في قصائده مثل قوله :

ومضت تجر بلا هواد قلباً تجلبب بالحداد([54])

فقد جاء التصريع في كلمتي ( هواد وحداد ) في آخر الشطر والعجز .

وإلى جانب التقسيمات الإيقاعية يستخدم الطباق ويتلاعب برصف الكلمات مما يكشف عن طاقته التعبيرية التي تمثلت فيما يستجمعه من عناصر بعمق تضادها شكواه من الحياة أنظر قوله : ما أطول هذا الليل وما أقصر ذلك الفجر([55]) وقوله :

ما كان أبخل جرحي حين أحلبه ما كان أكرم جرحي حين أنساه([56])

وتظهر كلمات الطباق واضحة (أطول – أقصر - أبخل – أكرم) كلها تشد إيقاعه بربط عضوية بين الكلمات وهذه عملية الإبداع في انتفاء أسم التفضيل على وزن أفعل يتميز بها كثيراً وهو يلعب بألفاظه بطاقة تعبيرية تزيد موسيقاه ، عذوبة ورنينا .

وهكذا يستخدم رشدي تكرار الألفاظ والحروف لإحداث النغمة الموسيقية بحركات متجانسة حيث تشكل ضربات موسيقية معبرة عن نفسية الشاعر ، وقوله في استخدام الحرف (في) قائلاً :

في الليل أراه .... في الصبح أراه
في السجن أراه ... في الموت أراه([57])

ويستخدم الكلمة لإعطاء نغم جميل ، أنسى وجهك ... أنسى جرحك .. أنسى ظلك([58]) .

ويستخدم العبارة ليستفيد من الجانب الإيقاعي قوله وجهك المتعب لا ترفعه في الفجر اليا ، وجهك الغاضب لا ترفعه يلوي لي ذراعا ، وجهك العالم لا تغرسه في شفتيا([59]) .

ويستخدم تكرار المقطع الذي يوقف فيه المعنى لبدء معنى جديد كما ترى السيدة نازك الملائكة([60]) ، (اضمن سبيل إلى نجاحه أن يعمد الشاعر إلى إدخال تغيير طفيف على المقطع المكرر والتفسير السايكولوجي لجمال هذا التغيير إن القارئ وقد مر به هذا المقطع يتذكره حين يعود إليه مكررا في مكان أخر من القصيدة ).

انظر قوله ثورة :

إبعدي إبعدي وخلي شجوني ودعيني معذبـا في أنينــي
أبعدي أبعدي فما فــؤادي غير ذكرى من سالفات السنين([61])

ثم يبدأ المقطع الثاني (ابعدي – أبعدي فإن فؤادي) ، وكذلك المقطع الخامس (أبعدي أبعدي فما الحب لهو) ، وهكذا الإيقاع الذي يكرره في كل مقطع يرن في أذن الشاعر فيكتبه ويجعل السامع والقارئ متأثراً بمدى إحساسه وكأنه يريد يؤكد بهذا الإيقاع المتكرر أثر بعدها عنه (أبعدي – أبعدي) .

ومن أساليب الشاعر استخدام ظاهرة البتر([62]) بنوعية بتر الألفاظ والتركيب جاء قوله:

وكانت المخالب الضريرة الباردة الجهمة ، وكانت الظلمة تريد أن ... وإشراق الصباح([63]) ، فماذا تريد ، لقد حذف كلمة ، وانظر قوله :

ووجهك طفلاً وكان الذين تعرفين
بعينيك ذاك الشعار الذي تعرفين
ذكرتك ......... أواه لو تذكرين([64]) .

ويبدو إن الشاعر قد أراد حذف أسمه ولو ذكره لما استقام إيقاعه الشعري ، ومن بتر المعنى قوله :

هل يعرف بواب المدن الخلفية
أين تروح امرأة نصف الليل .. ([65])

وقوله :

أخبرني الشتاء إنك تتدفئين الان
على موقد آخر([66])

ويريد بهذا البتر إثارة انتباه وترك القارئ مفكرا في نتيجة الأمر وفي إيقاع متناسق، ونستخلص من دراستنا لموسيقى شعره إنه أهتم بالوزن كثيراً ليس كإطار بل كبناء تعبيري أتى من اشتقاقات الشاعر وصياغاته معتمدا على أساليب بلاغية ومستخدما ألفاظاً مناسبة لأحداث النغمة الموسيقية وقد استخدم تقنيات رائعة في تكرار الألفاظ مهتما بالجانب الصوتي في اقتناء الحروف التي يحس بها متناسقة في مواقعها .


 

free web counter