د. صدام فهد الأسدي

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الخميس 17/7/ 2008

 

كيف لعبت مرافيء الغزل في رشدي العامل

د. صدام فهد الاسدي

1- الغزل
(هو فن وجداني موضوعه المرأة)([1]) وهو لغة الوجدان والعواطف ، تلك اللغة التي يعبر بها شاعر عن مكنون مشاعره وأحاسيسه الدقيقة وهو يصف مفاتن حبيبته سواء كانت تلك المفاتن حسية أم معنوية)([2])، ويرى أستاذنا الدكتور سمير كاظم خليل (الغزل ، نمط من الشعر يتضمن معنى الإعجاب بالمرأة وما يتركه هذا الإعجاب من تعلق وآثار في نفس الشاعر) ([3]). وشاعر رومانسي مثل رشدي الذي ابتدأ بقصيدة غزل وعاش حقبة حياة في بيئة ترفض اختلاط المرأة بالرجل ، لذلك حمل الحرمان سمة عبرت عنها قصائده الأولى حتى ينتقل إلى بيئته الثانية بغداد عام 1949وهو يحمل معه جراح صباه في ديوانه البكر (همسات عشتروت) الذي كانت جميع قصائده في الغزل ، وعبرت جميعها عن وصف حسي تقليدي للمرأة . والعنوانات التي حملها الديوان ( حرمان ، حنين ، شرود ، شك ،صدود ، غموض ، شوك ، فراق ) كلها تفوح برائحة ذلك البعد عن المرأة وشوقه إليها وهو يعيش في بيئة مغلقة على نفسها فصلت بينه وبين الجنس الآخر . لذا نلمس صفات وأسماء وهمية تدلل على (غريزة شاب مراهق قوله أضعاف فعله يتعلق بأوهى الأسباب في عينين خضراوين أو لقاء قصير عابر) ([4])، ورشدي ذلك الشاب الوسيم ، المرح ، الحرك ، الأنيق الذي لا يبدو أو هكذا يبدو انه ليس منا نحن الفقراء([5]). فوسامته وموهبته أنطقتاه غزلاً حسياً صريحاً في مفاتن المرأة (النهد – الوجه - الثغر) قوله :

                  وراحت تعابث في نشوة            لها جسد ليس كالاجعد
                  فمدت يداً في دلال جميل            ومرت بها فالتقت بالثدي
([6])

وقوله مخاطباً تلك التي أبت إلاّ وصف نهديها :

                  نهداك يا أضمامة الورد             ويا عبير المسك والند
                  يا رعشة تسري بأوصالنا          وهزة تنأى عن الرشد
([7])

ولا يجد الشاعر حرجاً في وصف قبلتها التي يشبهها بالخمرة في قصيدة (شرود) التي يهديها دون تحديد أسم لها ...

                  يا قبلة نارها لم تزل                  محمومة تسعر في القلب
                  كأنها الألحان سحرية                حانية تدعو على حبي
                  جنيتها كالشهد من ثغرها            في نشوة قد فرجت كربي ([8])

نحن نرى الشاعر لم يأت بجديد فالشعراء قبلة قد وصفوا القبلة بالخمرة ، ثم تغلب على قصيدة (صلاة) المكونة من ستة عشر مقطعاً استخدم فيها انتقالات مختلفة في القوافي ويبقى مضمونها محاكاة للحبيبة واصفاً الشفاه ثم يختمها بخوفه من ضياع حلمه وموته وهذه أول التفاتة شكوى بدأ بها رشدي . ([9])، ويختار الشاعر أسماء متداولة ضمن الجانب الأسطوري مثل عشتروت ، شهرزاد التي أخذها قبلة السياب والبياتي ونظن أن اختياره تلك الرموز جاء إشارة إلى جمال المرأة دون جمال القصيدة بما نحس فيها من برود في الوصف ونثرية شديدة .....

شهرزاد أغنية تستعاد
ترجيع أنغامها ترف في كل واد
([10])

وما دام رشدي يعيش في وسط جامعي فلا بد من امرأة تلفت نظره فيبث لواعجه عن طريق الشعر لذا نجده يذكر صديقه حميد سعيد في قصيدة كلمات وهي تحكي تعلق الشاعر بأمرأة يشاركه صديقه الإعجاب بها وتزداد لديه وطأة الوصف كثيراً فيبرز مفاتنها ويبوح بصراحة قائلاً : في قصيدة – إلى امرأة لا أسم لها :

وأنطرحي شيئاً بلا معنى
شيئاً ، ترابياً بلون الموت والشقاء
تمضغك الأذرع في اشتهاء
والأنفس المسروقة الذعرا
فيك ترى لذتها الكبرى
فلتغرقي في أذرع العشاق
في أذرع ، فارغة الأشداق
([11])

وتحرقه الحسرة على جمال يذهب به الموت دون أن يفوز بمتعته ويرفض أن يتحول جمالها طعاماً للدود دون أن يطعمه هو .. أنظر قوله :

                  وبعد غد سوف تذوى النهود             مضت ذي الحياة ولم تعد
                  أتذوى أيذري الجمال الفتى               أيذهب ذا الموت بالخرد
                  أيدفن ذا القلب قلب الرجاء               ويقبر ذا الجسم في ثهمد
([12])

ويتخذ رشدي من نرجسية عمر بن أبي ربيعة مثالاً فهو يقرأ له كثيراً ويعيش شخصيته وتصرفاته فعندما كان عمر يصف المرأة العاشقة ونلمس ذلك في قوله :

                 وأنظر في القلب انكاره                وأسمع من فيك ماذا تريد([13])

ونلمح في هذا الغرض أن رشدياً يضمن غزله أحاديث مغامراته وصورا من حياته أثناء سفره إلى صوفيا عام 1970 قائلاً في قصيدة (أوليكو) :

لمسة كفين
ذراعين
عيون أمرأة تعرى
في برد هذا القمر الشاحب
([14])

ويبلغ له عنفوان اللذة والعاطفة الحادة وكأن ما يحدثنا به ليس تخيلا بل حقيقة وأمرا واقعا ، فهل تسمى هذه اللقاءات غزلا أو حبا كقوله :

تخبرني عن رابع عن خامس عن عدد الرجال
وتومض العيون لي شاحبة تعال ، نبحر في شواطئ المحال
([15])

وأي جوع يسفر به وعطش ولذة حارقة عندما يختم القصيدة قائلاً :

وانطفأت وحيدة وانهمر الشلال .

وقد استنتج رأيا ربما فات الآخرين بأن رشديا لم ينشد اللذة الجسدية الصاخبة عندما يصورها بهذا الحال وإنما كان يغيظه أن تتحول البراءة إلى بغي فلم يكن رشدي دنيئا عندما صور هذا بل كلن يحذرها من الوقوع في نقطة ضعفها وترددها .

قال الشاعر:

لأنني أخشى عيون النساء
تمرح فيها الرغبة العمياء والكبرياء
أطعمت للنار بقايا حنين
([16])

واستمر رشدي بوصفه الحسي وبرودة العاطفة وعدم استقراره على محطة عشق ثابتة حتى عام 1960 عندما وجد شريكة العمر_أم علي- التي لم تستمر معها علاقته فانفصلت عنه في مطلع السبعينات لظروف اقتصادية قاهرة ولبعض التصرفات غير الصحيحة التي يتصرف بها رشدي مثل إدمانه المستمر على الخمرة ولكن صديقه حارث لطفي وفي يضيف رأياً أخر خطيراً في هذا الانفصال (إن البرودة الجنسية عند رشدي أودت بزوجه أن تطلب منه الانفصال)([17]) . ونجد مصداقية ذلك في قصائد كثيرة منها تلك القصيدة التي خلع فيها ثوب عمر بن أبي ربيعة وارتدى عذرية جميل بثينة فكثرت مفردات العتاب والشوق والدموع وتمجيد الماضي حيث قال :

ستكونين لغيري
أدري أن امرأة لا تحمل حزن العالم
لا تعرف طعم الحب


وقال في مقطع آخر من القصيدة :

آواه لو أقوى على البكاء
أواه لو أعرف أسرار خيانة النساء
([18])

إنه سر يعرف الخيانة ولكن كان يكتم ذلك وهو يعلن باعتراف وبصوت عال ذلك دون أن يشعر ، ويرى الناقد حاتم الصكر ويتساءل (هل تكفي خيانة أمرأة واحدة لتدمير العالم كله)([19]) ، ولم يستقر لرشدي قلب وبدا ينزع إلى القصيدة الحزينة لغياب المرآة وبدا يوجه إليها الاتهامات :

من أجل نقود التاجر
طعنت امرأة قلب الشاعر
([20]) .

ويندفع إلى مصارحتها بحقيقة مشاعرها حين ترتبط بغيره ، أسمع قوله :

هل يحجب عنك جدار الرجل الثاني ..
يا نافذة الأمس المفتوحة ..

ولكن يحتج ويصرخ عليها مناديا أتستذكر الخجل ..

هبني فقدت البكاء ..
فكيف خلعت مع الآخرين رداء الحياء ...
عندما أحزن أو أضحك لا أذكر إلاّ القبلات ..
كل ما مر على حبك مات
([21])

ويريد أخيراً أن يخرج بحكمة يعلنها أمام الجميع ..

(مجنون من يحسب إن امرأة تعشقه وحده )([22]) .

ونرى رشدياً قد اتجه اتجاهاً جديداً لتعويض خسارته فاختلق أسماء جديدة وهمية لكي يغيض زوجة أم علي ، ويتفق مع ما قلناه رأي السيد رياض قاسم (أراد رشدي إنشاداً مستديماً لوجه من أحب وغادر حتى وضع أسماء عن الصورة التي ذهبت) ([23]). لذا وجدنا الأسماء المتعددة – سعاد – عالية – خلود .. ([24])، قد بدلت في لغة قصائده وكل موضوعاتها تدلل على الوحدة وأتدرج إلى متكأ ... لذلك وجد في الحديقة مكاناً مناسباً لإطلاق شعوره ، واستقر رشدي يحلم بعد أن فقد امرأته الحقيقية .. وظل يبحث عن امرأة لم ينجح معها أبداً .. ولعل الرأي الذي أطلقه صديقه حارث لطفي وفي يناسب ما نراه ..

(تجربة رشدي مع امرأة فاشلة وهذا ما يعرفه الجميع إلى أنه في العموم كان مثار شفقة ممزوجة بالإعجاب بالنسبة للمرأة ، وحتى آخر أيام حياته كانت له صلات مع امرأة لا تتعدى حدود الحديث والنظرات والجلسات الهادئة) [25]). ولكن الحلم لم يخرج معه بحصيلة سوى الوهم والألم في قوله :

يا ظبية .. من أي فردوس قطفت أزهار ألليلك الأبيض
لأطفال العالم الكبار ..
([26])

ويشير إلى ذاته بالطفل وتبقى هذه المرأة المجهولة يطلب منها أن تحول جسده المريض إلى مشط لشعرها قائلاً :

ويأخذ إذ يرحل تذكارا من جسدي المهزوم
يأخذ من رفات العينين وبوح الشفتين
لعبا للأطفال وأمشاطا للنسوة في الأعراس ..
([27])

ويصل إلى أحلى وأعذب ما يراه في المرأة .. ضحكتها قائلاً :

ضحكت عيناها يا سيدتي ..
لا أروع من ملهاة يبدعها عالمنا المفتون ..
فالضحك كما تدرين جنون ..
والعقل كما قال الحكماء جنون ..
وجنون الناس كما أخبرنا العراف فنون


ثم غاب رشدي (غيبة المتصوفين بطريقة شعرية لا يدركها إلاّ من يموت حباً وشعرا) ([28]) .

ورحل وكان يتلذذ بمصاعبه بصوفية لا يجيدها سواه وحين حاصره الرحيل ارتضى أن يرحل بالطريقة نفسها بهدوء ووداعة مكتفياً أن يجعل بكرم من مصاعب رحيله دعابة) ([29]) .


 

free web counter