د. صدام فهد الأسدي

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأربعاء 16/7/ 2008

 

تموجات الصورة الشعرية عند رشدي العامل

د. صدام فهد الاسدي

(الصورة هي الميدان الذي تبز فيه مقدرة الشاعر الفنية) ([1]). ومادامت القصيدة نظاماً متكاملاً تدخل فيه الأشكال المحسوسة واللامحسوسة فالصورة (جوهرالفيض الشعري الذي يظهر ذلك التفاعل بين المرئي والمكنون وتمنح الأشياء حضوراً جديداً)([2]).
لذلك تكمن أهمية الصورة في تأثيرها وتجسيدها للأشياء وأعتمادها وسيلة للحكم على أصالة الشاعر كما يقول الناقد هربرت ريد([3]).
فالصورة في الشعر (تشكيل لغوي يكونها خيال الفنان من معطيات متعددة يقف العالم المحسوس في مقدمتها، فأغلب الصور مستمدة من الحواس الى جانب مالايمكن اغفاله من الصور النفسية والعقلية وإن كانت لاتأتي بكثرة الصور الحسية أو يقدمها الشاعر أحياناً كثيرة صوراً حسية ويدخل في تكوين الصورة بهذا الفهم مايعرف بالصور البلاغية من تشبيه ومجاز الى جانب التقابل والظلال والألوان وهذا التشكيل يستغرق اللحظة والمشهد الخارجي "([4]). ومن تعريفاتها القريبة الى الفهم (انها رسم قوامه الكلمات المشحونة بالأحساس والعاطفة والفكرة)([5])، وشاعرنا رشدي يفيد من الصورة التي يكون القرآن الكريم والحديث مصدرين لها يستلمها من أجل كشف حالته وموقفه .

فالآية الكريمة التي حكت أغواء الشيطان لأبينا آدم (ع) وما أضيف اليها من أقوال يوظفها رشدي قائلاً :

ستشقى بدرب الهوى أيهذا الصغير
ستغويك تفاحة
في طريق الخطايا
ويرقبك الليل تنسل بين الزوايا
([6])

وكذلك يتأثر بالآية التي تصف حال مريم (ع) وتصفها بالأمان والاطمئنان حين تهز النخلة فيتساقط الرطب الجني ويتحول عنده الى صمت .. أنظر قوله :

لاتهزي الجذع،
فالنخلة لن تمنح للموتى ثمارا
انها لاتمنح العذق
ولا السعف
سوى صمت العذارى
لاتهزي الجذع يامريم، ان الدمع غارا
([7])

وهكذا يتمثل قصة القرآن فيعيد صياغته بما يلائم موقفه وحالته الفزعة فيجعل صورته تقدم معنى مضاداً للقديم ومن التراث ينتزع قولاً موروثاً (اطلب العلم من المهد الى اللحد) ويقول :

هذا وطني خذني من أحضان المهد الى اللحد..
وطرز أقمطتي السمراء
([8])

فالقول تحول في نسيج ذاكرته أساساً لصورته التي أعطاها ايحاءاً جديداً منسجماً ورؤيته المعاصرة .
وحتى القصة في القرآن وخلاصته فكرتها لم تفته فيوظف الفكرة لاضاءة حالته النفسية بما يجري من استلهام وصياغة قوله من قصة ابراهيم الخليل مع ولده اسماعيل (عليهما السلام) :

أنت ياوطني عاشق
وأنا من ثراك الذبيح
([9])

وحتى اذا ماكان قوله الذبيح يريد بها مباشرة قصة سيدنا ابراهيم ويريد بها المذبوح فهو يرسم صورته في ذهنه دون أن يدخل في تفاصيل الصورة التي نقل عنها . فالسيد المسيح (ع) يتخذ منه صورة للتضحية رمزاً للأنسانية يتردد على لسانه مثلما يتردد على السنة الشعراء :

أغفى المسيح على أشواك قاتله وغار في الارض دمع القاتل العكر([10])

ويفيد من الشعر العالمي الذي أكثر من قراءاته وخاصة الشاعر بودلير ينقل قولاً من قصيدة الشرير :

أنا نثار الجرح والسكين
والطاعن الشرير، والطعين
([11])

ويأخذ من اشارته العابرة تلك الصورة ويؤكدها في القصيدة قائلاً :

أحرث في منعطفات الشوك
أزرع ورداً ضاحكاً ..
وأبكي
أسوح بين دروب الشك
مامر بي
([12])

ويتأثر بالصورة التي قالها الشاعر الفريد دي موسيه قائلاً :

دعي ساعة البرج تحصي للدوق
أيامه الملولات
دعينا نحصي القبل على ثغرك العاصي
([13])

وتأتي صورته موازية صورة موسيه، قائلاً :

كنت في آخر الليل أحصي على شفتيك القبل
عدت أحصي نجوم السماء


ومن مصادر صورته الشعرية ذالك الخيال التصويري الذي تقترب صورته من الرسم فهو يصور حالته بالطائر المأسور الذي فر الى جزيرة بعيدة .. أنظر قوله :

الطائر المأسور فر الى جزيرة النسور
خلف عشاً موحشاً مهجور
وريشتين من جناحه المكسور
([14])

ونجد الألوان والظل تجتمعان في صورته ولوحته الفنية في صورة مرئية رائعة، أنظر قوله :

الشمس غائبة وراء الأفق،
تحجبها الجبال
الشمس رائقة بلا دفء
وخبز الأرض يبرد في السلال
والشمس نائمة
ويغزو النمل أرصفة الشوارع، والعناكب
تتسلق الجدران تنسج في زواياها الجبال
([15])

ولعل القارئ عندما يقرأ الأبيات يلمس تلك الخطوط والظلال والصور المكثفة، فحالات الشمس (غائبة، زائفة، نائمة) يربط معها ثلاث حالات من الصور كل صورة تستغرق حداً معيناً فالخبز يبرد والنمل يغزو والعناكب تتسلق..
وهكذا ترتدي صورته، ثوباً جديداً لصورة مثيرة الانتباه، ومن يتأملها يدرك ذلك المنظور الفني الذي يهتم به الرسامون في تنظيم ظلال لوحاتهم :

أعرف أن القلب يظل :
حيث تدور الشمس،
ولا يغريه الظل
أدري أن الزنبقة الحمراء تطل
ترنو للحقل، وتنظر قطرة ماء،
في البستان
([16])

ومما نراه في صورة شعرية أخذها من الواقع كما يشير الى ذلك الدكتور محسن اطيمش (ان الصورة الشعرية التي يكون الواقع مصدرها انما هي أكثر أنماطها شيوعاً لها محوران الريف والمدينة) ([17]).
فرشدي أخذ من الريف المتمثل بقريته الصغيرة التي نشأ فيها مصدراً لصورته في قوله :

أصيح .. لاتلعبوا
دعوا عظامي، لحظة تستريح
دعوا عيون الجريح،
تشدها إغفاءة، تهرب،
في البحر، في ظل شراع .. وريح
تمضي بها، تحملها تذهب
([18])،

ومرة يستمد صورته من المدينة المشحونة بالخوف والرعب قائلاً :

الريح تثلج في مدينتنا
وعيونك السوداء في الباب
وطني ...
أحس القيد يخنقه
شعبي ....
أجل في حضن سرداب
السوط نام على ظهورهم ...
والنار تأكل خضرة الغاب
([19])

ومن تلك الصور نلمح ادانته الى السلطة والحكم الجائر، ويؤكد رشدي على صورة الفقر التي يعيشها في ظلال المدينة حيث ينعم غيره بالكثير قائلاً :

فليس أقوى أن ترى الحياة
كما تريد،
حقل اغنيات
غداً،
اذا نهضت
أو بعيد ألف عام
زاوية هانئة، وبيت
([20])

أنواع الصور الشعرية :
الصورة عنده حسب مادتها أما أن تكون بصرية أو سمعية أو شمية أو ذوقية أو لمسية أو حركية أو انتقالية أو باطنية وكل هذه التشكيلات من عمل الحواس الخمس .
ومن صوره البصرية قوله :

قال رأيت الصبر بعينيها،
واللوعة في شفتيها
والثوب الأسود مرخياً،
فهربت الى الصحراء
([21])


ومن الصور السمعية قوله :

دع الموت يعصف في سمعنا ودعنا بعالمه البارد([22])

وقوله :

اصغ السمع الى الريح تناديك وتسري
من الليالي السود خلف السور
تستجمع صوتي .. تقتات الشجر المصفر
والريح تدوي


ومن صوره الشمية قوله :

أخطو فوق العشب،
ألمس أعذاق النخل،
وألثم عند ضفافك أغصان القصب الاخضر والورد
أشم النسرين
([23])

وقوله :

مرت ونثت غيمة حولــها ورداً، وذرت طيبة العنبر
وارتعشت في صحونا سكرة أواه، لو تثاءب المـئزر


ومن الصور الذوقية قوله :

أنا أكره النبع الشهي اذا تمرغ فيه قحف ([24])

ومن الصور اللمسية :

متى ألم الدفء في الكفين
وألمس اليدين
توسدان التعب النائم في جبينك الذابل
([25])

وقد يجمع عدداً من الصور .. قوله :

ترحلين اليوم .. خذي صوتي تذكاراً
وخذيني للبحر،
أشم طراوة رمل الجزر المنسية
أقتات الملح
وأرضع ثدي الماء
وأعلك طعم الصبار
([26])

ومادامت الصورة أداة تعبير فلها وظائف تؤديها ضمن البناء الشعري فتكون فاعلة ومؤثرة في بلورة الأفكار والعواطف وقد تؤدي الصورة دورها فتكون فاعلة تضيء وتخبو سريعاً وتكتفي بالتصوير، فالشاعر يذكرها وينصرف الى مضمونه، أنظر قوله:

يضم في طياته شيئاً صغير
كالخير في أعماقهم أو كالضمير
كالشوك في الوادي الوعير
أوراقه يبست كأحشاء الفقير
([27])

وفي صوره نجد حشداً من التشبيهات وكأن الصورة فيها ظلت جهداً شعرياً لخلق وصف فقط وقد ينساق رشدي مع التصوير الشعري الى حد بعيد حتى يكاد أن ينسى جوهر فكرته وتسمى هذه الظـاهرة (الانسياق مع الصور الشعرية على حساب الموضوع) ([28])، في قوله :

لقيتك ها أنا وحدي
وأنت نقية كالماء
وأنت غريبة كالظل في الصحراء
وأنت شهية كالخبز في الأيدي
([29])

وقوله :

وحيدا، كالظل،
خفيفاً كالظل،
قريباً كالظل،
بعيداً كالظل أتيت الى الصحراء
أنت الواحة والماء
([30])

ويحشد رشدي صورته تشبيهات ومجازات، أنظر قوله :

رخية خطاك مثل الشمس في مطافها الأخير
تجمع في سلتها الألوان والظلال
ومثلما حكاية أتعبها التجوال
ينسجها المسافرون بين البحر والرمال
ومثل ضوء شاحب مرتجف غزير
([31])

وما دامت الصورة من نتاج خياله فالتشبيه أحد صور الخيال الذي يهدف الى نقل الأثر النفسي للمشبه من وجدان الشاعر الى وجدان المتلقي، قوله :

وحدك تطوي العمر مستوحشاً مثل شراع ظل في البحر
كشــمعة ذابلة في الدجـى تغرق بالوحدة والصبر
([32])

ونعرف ان بناء الصورة عن طريق التشبيه يحتاج الى جهد وهذا لايتعب منه رشدي، أنظر قوله :

واهنة خطاك مثل نجمة أخطأت الدار([33])

ولكي يضخم صورته يشبه بشيئين .. أنظر قوله :

لكن وجهك صامت كالقبر كالليل الحزين([34])

لذا يتكرر المشبه به عنده بإصرار .. قوله :

وانطرح الحقد على وجهه
يحبو بلا رجل
كالموت، كاللعنة، كالسل
([35])

والاستعارة عنده من عناصر الخيال وأداته الرئيسة التي ترتبط بواسطتها الأشياء المتغايرة وغير المرتبطة وتزاوج الصور التي تتآلف منها جميع الاستعارات هو الذي يمنح الاستعارة قوتها([36])، وفي صوره شاعت الاستعارات الكثيرة مثل (باقة ظن) (قارورة الأسرار) وغيرها([37]).وقد يتخذ من أعضاء جسد الانسان صوراً مجسدة مثل (كف الضحى)، (جبين السنابل) وغيرها([38]).

ومن صور استعاراته الجميلة :

كانت ترقب كل صباح
لحظة يلثم ضوء الشمس جبين الورد
([39])

فما أبعد الشمس عن الورد وهو يحمل الاستعارة التصريحية جمالاً شعرياً.

وقوله :

خلني مرة واحدة أستعير الندى
من جفون الزمان
([40])

ومن عناصر الخيال أيضاً الكناية التي يترك فيها ذكر الشيء ويذكر مايلزمه لينتقل من المذكور الى المتروك . أنظر قوله :

كيف نبكي دموع النسور وكيف نداري الخجل([41])

فنرى ان دموع النسور كناية عن الدمع الكاذب وأن النسور لاتبكي بل يريد الإشارة الى الضعفاء، ومن أنماط صورته الشعرية الصورة المفردة التي يعرفها الدكتور عز الدين اسماعيل (هي الجملة المفيدة التي تقدم تركيبة عقلية وعاطفية في لحظة من الزمن)([42]).

ومن الصور المفردة التي صاغها رشدي بواسطة التشخيص قوله :

سوف أمضي وتلتف بي الدروب الملفعة
أراقب الليل عندما ينسج الفجر مصرعه
([43])

وقوله :

أيقظني الفجر فشاهدت القرط وثوب العرس
وخاتمك الأبيض عند الباب
([44])

وقوله :

لو أشرف الفجر على بابنا
يسرق منا ليلة أخرى
([45])

في النصوص المارة نجد القرائن (ينسج – أيقظني – أشرف) خصائص يقوم بها الانسان وقد شخص لغيره في صورته المفردة .

وقد يعتمد في بناء صورة المفردة على تراسل الحواس " حيث يتم خلع وظيفة حاسة على حاسة أخرى كأن يسمع بالعين ويرى باللسان ويذوق باللمس"([46]).

انظر قوله : عيناك تشربان لون الضياء الأبيض المطلول..
وقوله : الطائر المذبح يشم لون عشه فتستفيق الروح .
وقوله : أحلم أحياناً بنبض الصوت في الأشياء .
وقوله : أشم صوتاً ضارعاً يخنقه النحيب([47])

وهكذا ينمي رشدي وظائف جديدة للحواس يتفاعل معها بصورة مجازية فالعين تنظر ولا تتنفس ولكنه يشركها مع الجرح قائلاً :

وعيون الفجر والمبضع في الفجر تتنفس([48])

ونعجب كيف يشم الرقص بعدما شم الصوت في قوله :

أشم الرقص في خطواته الأولى
وطعم الجلنار
([49])

وقد يشم الشيء المعنوي غير المحسوس . أنظر قوله :

أن أحسب العمر كفاً بضةً وفما مستوفزاً وأشم المجد في عاري
([50])

الصــورة المركبة
والصورة الأخرى لديه هي المركبة التي تعرف " مجموعة من الصور البسيطة المؤتلفة التي تستهدف تقديم عاطفة أو فكرة أو موقف مع قدر من التعقيد أكبر من أن تستوعبه صورة بسيطة فيلجأ الشاعر الى خلق صورة مركبة لتلك الفكرة أو العاطفة أو الموقف"([51]).

ولعلنا نجد في قصيدة (تذكارات) مانبتغيه من صوره المركبة الصور ترتبط ببعضها وعندما نحذف بعضاً منها يختل بناؤها، أنظر قوله :

أحلم أن أنسى في وجهك الزمن المذبوح
وأنسى لون الجرح المتلألئ في الشفتين
فمن يوقظ طفلاً يغمر أهدابي بالليل
وذاكرتي بالنسيان
ومن يسقي في صحرائي أزهار الصبر
تعبت وأيبست الريح ندائي
([52])

ولو نستمر في كتابة القصيدة لما انتهت صورها المركبة . أنظر المقطع الثاني :

آه من عشق يترك طعم الموت اليفين
على شفة أرقها الوجد
وآه من ولد شاب ولم يفطم بعد
وآه من زمن يجمع وجه المقتول وكف القاتل
فوق سرير النسيان ...

فالصورة المفردة تجمعت وكونت صورا مركبة تواصلت الصلة بينها وهكذا تنهض لديه القصيدة مع حشد من الصور المترابطة التي لايمكن أن تكون كل صورة مقصودة لذاتها.
ومن صوره المركبة في الطبيعة قوله :

يخرج الصمت من بيته في الصباح
يعانق برد الأزقة
يبكي له الورد
تبكي الحمامات
يسأله النهر هلا تعود الى بيتنا
ايها الطفل كل الحمامات طارت لأعشاشها،

انظر الى الأفعال المضارعة المتحركة (يخرج، يبكي، يسأل)، وقد تميل صوره المركبة الى السرد والإطالة، وأنظر قوله :

تلك رائحتي ورائحة المدن المستقرة في الدم
ثدي الطفولة
والجمر في الموقد الحجري،
وشتوية في الازقة،
والضوء، ضوء الفوانيس نحوي يشير
يلوح لنا من زجاج الشناشيل وجه،
كما الحلم يدنو ويرحل،
([53])

ويركز رشدي على قصيدة الحدث في نمط صورته المركبة معتمداً على هواجسه الشخصية ناقلاً الأثر الذي يعانيه بدقة ..

فكما صاغ السياب صورة مومسه العمياء نجد رشدي يتخذ صورة أخرى لاتبتعد عن مضمون السياب ..

لاتلمسني الليلة أرجوك،
فأطفالي خلف الباب، وأنت الرجل الآخر
ارجوك الليلة لاتلمس صدراً ارضع أطفالي طعم النوم
ولا تقرب زنداً هدهد، نصف الليل مخاوفهم، أرجوك
الليلة
لاتقرب شفة لثمت في الفجر عيون الأطفال ينامون
([54])

فكانت مومس بدر صرخة اجتماعية وموقفاً سياسيا يدين به فكرة الاحتلال ورشدي نجد مومسه تفضح ضياع المرأة بسبب العوامل المادية وهو يكشف سر المرأة التي تمارس الدعارة قائلاً :

هل يعرف بواب المدن الخلفية
أين تروح المرأة نصف الليل
([55])

وقد يتراكم هذا لنمط من الصور عند رشدي وهو يريد بها تقديم صورة مأساوية لما يكشفه من زيف السلطة قائلاً :

أبكي، يسخر مني السوط،
وتضحك أقنعة شوهاء
...... غمزتلي جمجمة عوراء
هب لي عيناً واحدة،
سأدلك، لوعدت
الى باب الأحياء
([56])

وتزداد صورة التكثيف والتلخيص التي سماها الدكتور أطيمش([57]) (صفة التكثيف والتلخيص) فيلجأ الى انتقاء المفردات التي تسهم بتكوين صورته الشعرية المركبة لإبراز اجوائه الأسطورية والايحاء بالمناخ الذي يكمل القصيدة، قائلاً :

آن أن تستفيق القبور وأن تلبس الميتين
كفن الآخرين
آن أن تستعير الكفن من عظام الملائك
والمرسلين
آن أن تسترد الثمن
أعين الخاطئين
آن أن تسترد القبور
فتات الطعام من الميتين
([58])

وقد علق الناقد فوزي كريم قائلاً ([59]):
ان بنية القصيدة تبدو كما لو كانت مأخوذة بانسياب موسيقاها التي تمنحها شيئاً من الشرعية ولكنها للعين الفاحصة تفتقد الى أي ملائمة منطقية بين صورها أو حتى مفرداتها الشرعية تلبس الميتين كفن الآخرين والآله يستعير الكفن من عظام الملائك والمرسلين، ان الجهد غير التلقائي الذي يبذله رشدي في هذه القصائد تتجاوز من كمية أمكانية الطاقة النوعية المتوفرة في تجربته، ولابد أن نرد عايه قائلين : ان وسيلة رشدي تحتكم الى الصورة عبر تراكم الصور فيستخلص المناخ الذي يريد التوصل اليه، وان الأفكار التي طرحها تقف على منطق معقول، فهو يريد أن يتساءل عن ذلك العالم الغريب وهذا من حق الشاعر ..
وربما يعني بصورة تلك الحكايات التي كانت تروي لنا كيف كان الناس يدفنون موتاهم ويرمون الزاد اليهم أثناء الموت . وهكذا يقترب رشدي بصورة من الاستغراب بالأسطورة فلم يكتف بالحدث والمعاني بل يلتفت الى مكونات الصورة، فأسطورة سيزيف المعروفة ينقلها في قصيدة (اللعبة) قائلاً :

الصخرة السوداء ياسيزيف تفلتها يداك
فتخض أوردة وتسحقها ... وتشحب مقلتاك
الصخرة السوداء ياسيزيف .. قد تعبت خطاك
الصخرة السوداء .. تفلت ان تقطعت الشباك
([60])


 


 

free web counter