الأربعاء 8 /2/ 2006

 


 

صراع الحضارات.....صراع الثقافات......النظريات الجديدة للسلفية الغربية

( 1- 2 )

 

الدكتور صادق إطيمش

أثارت موجات العنف التي إنطلقت في العالم العربي والإسلامي ضد الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها إحدى الصحف الدانماركية المغمورة التي أصبحت أشهر من نار على علم , تُطبع وتباع بعشرات أضعاف ما كانت عليه حتى بعد نشرها لهذه الرسوم في شهر أيلول من العام الماضي, أثارت بعض التحليلات لأسباب ودواعي هذا العنف الذي إعتبره البعض تحقيقآ لتوقعات صموئيل هنتنجتون حول صراع الحضارات ألذي برز لأول مرة سنة 1993 على صفحات foreigen affairs كمقال سرعان ما تحول إلى كتاب بنفس العنوان أعلاه . في حين إعتبره البعض الآخر كصراع بين الثقافات المختلفة خاصة تلك الناشئة في المجتمعات العربية ألإسلامية من جهة والثقافة الغربية من جهة أخرى .
إن طرح نظرية الصراع هذه بين الحضارات والثقافات وإحلالها, عن عمد وإصرار , محل واقع التنافس بين الحضارات والثقافات العالمية المختلفة أمر يرتبط بشكل مباشر بإصرار السلفية بشقيها العروبي والإسلاموي على نظرية المؤامرة التي أحالت إليها كل ما حصدته من فشل وتراجع وتخلف على كل المستويات التي سوقتها سياستها العقيمة لمواطنيها بإعتبارها السبب الأساسي لما تعانيه شعوبها من أمراض التخلف والقهر والإضطهاد . إلا أن مصطلح السلفية هذا لا يقتصر على الفكر العربي ألإسلامي فقط , بل أن هناك في الغرب أيضآ من يدعو إلى مثل هذه الأفكارالتي تصب في التيار الرافض لكل ما حققته المجتمعات في الغرب من التعايش بين الثقافات المختلفة سواءً الغربية منها أو الواردة إليها بسبب الهجرات وإنتقال ألأيدي العاملة وإزالة عراقيل ألإتصال المباشر بين الشعوب المختلفة وما تحقق أخيرآ في الثورة المعلوماتية التي جعلت الكل في متناول الكل دون أن تشكل الجغرافيا ومسافاتها وما يرتبط بهما من حساب الزمن دورآ يُذكر في ذلك. إذ يدعو هذا التيار السلفي الغربي إلى " تنظيف " المجتمعات الغربية من الثقافات الواردة والعودة "للأصالة"
الثقافية السائدة قبل التداخل الثقافي هذا.
من الطبيعي أنه لم يكن بمقدور المجتمعات الغربية الوصول إلى هذا الموقع الحضاري دون أن تُتاح لها فرصة التعرف على الغيرعن كثب أحيانآ وعن بعد أحيانآ أخرى . ويمكن القول أن تحقيق التداخل الثقافي لم يتم دفعة واحدة , بل تم على مراحل مختلفة وعبر حقب تاريخية متفاوتة كانت الحاجة الثقافية السبب الداعي له أحيانآ والضرورات ألإقتصادية أحيانآ أخرى . وبمرور السنين وبإستمرار عملية التلاقح التي شهدت المد والجزر وُلد في رحم المجتمع الغربي ما يسمى بالمجتمع المتعدد الثقافات , جنبآ إلى جنب مع نشوء وتطور الشركات المتعددة الجنسيات . لقد مهد وساهم هذا ألأمر إلى تنامي الحضارة التي أصبحت في متناول ألجميع تبعآ لما تفرضه الظروف ألإقتصادية والإجتماعية في هذا البلد أو ذاك والمستندة ليس على وتيرة النمو الإقتصادي , الذي يشكل عمودها الفقري , وحسب بل وعلى القاعدة الثقافية والفكرية التي قام عليها المجتمع الجديد المتعدد الثقافات . إذ نقل الوافدون إلى الغرب بعض مظاهر حضاراتهم وثقافاتهم التي أرادوا لها حضورآ في حياتهم الجديدة حتى وإن كان ذلك في بيئة تختلف عن البيئة ألأصلية التي نشأت وترعرعت وتطورت فيها هذه الحضارة . لم تكن هذه المسيرة سهلة في أي يوم من ألأيام . لقد رافقتها مشاكل وصعوبات جمة كان يجب تذليلها وإبعادها كخطر يهدد هذه المسيرة , برز أهمها من خلال الخوف الذي يمكن أن يؤدي إلى جعل المسيرة تسير في طريق وحيد ألإتجاه يؤدي بالنتيجة إلى ألإصطدام بالتيار القادم من ألإتجاه الآخر, وهذا ما كانت ولا زالت تراهن عليه القوى الغربية المتطرفة التي تقف ضد التلاقح الحضاري وتدعوا إلى نقاء الثقافة الغربية والعودة بها إلى عصورها القديمة والتمسك بسلفيتها ألأصيلة .

قبل مناقشة هذا الفكر السلفي الغربي دعونا نناقش تعريف مفردة " ألحضارة " . إن أبسط ما يمكن التوصل إليه في هذا الصدد هو إعتبار المفهوم الحضاري للحياة متمثلآ في توفير ألإمكانيات والستلزمات الإقتصادية والفكرية والإجتماعية لسد الحاجة الناشئة إليها لتحقيق حياة إنسانية لا تقف عند حقبة تاريخية معينة , تبني على ما قد بنته مسبقآ. الحضارة هذه عديمة الوطن إذ أنها لا تستطيع التواصل والإستمرار دون أن تتناغم مع كل ما توصل إليه العقل البشري أينما كان . العبرة ألأساسية في ألأمر هي القدرة على التواصل والإستمرار في الإبداع والخلق والقدرة على أستيعاب التطور والإستفادة منه. ولا يمكن بلوغ هذه القدرة إذا إنفرطت حلقة واحدة من هذه السلسلة التي تنمو وتزداد طولآ كل يوم , والتلاقح الثقافي المتمثل بإستيعاب ألآخر كطاقة دفع إضافية يشكل واحدة من الحلقات المهمة في سلسلة الحضارة البشرية التي نعيشها اليوم.

يقودنا هذا الفهم للحضارة للتفتيش عن هذا التعايش الحضاري في مجتمعات أصبحت توجهاتها ألإقتصادية طاغية على كل شيئ وتسم كل ما يمت إلى هذه المجتمعات بسماتها التي تضع الربح الإقتصادي وتراكم رأس المال في أولوية أهدافها المتمثلة بتوفير إمكانيات المنافسة والتجديد والتطور المستمر. إلا أن هذه المجتمعات تعلم في نفس الوقت بأنها لا يمكنها الوصول إلى هذا الهدف ما لم تتعامل مع بعض المفاهيم الجديدة المختلفة عن مفاهيم القرون الماضية التي قضتها منطوية فيها على نفسها لا تعرف الغير إلا في دياره عن بعد وليس في ديارها هي , وحتى هذه المعرفة إقتصرت في أغلب مفاصلها على التوجه ألإحتكاري ألإستغلالي متخذآ من سياسة الترهيب عمومآ والترغيب أحيانآ وسيلة لتحقيق ما كانت تصبوا إليه آنذاك. وبمرور الزمن أثبتت نفس هذه المجتمعات , بعد جهد كبير وتضحيات كثيرة , أن هذا الطريق ذو الممر لواحد لا يوصل إلى نهاية الهدف حتى وإن بدى قريبآ منه أحيانآ. فعملت على إزالة العقبات التي حالت دون السير في ألإتجاه الآخر وعملت على التعامل في مجالات أخرى مع ألأيدي العاملة التي لم تكن تألف الحياة معها إلا في مواقع العمل وأسواق لتجارة, فنشأت بذلك مجتمعات متعددة الثقافات تعمل على مواصلة المسيرة الحضارية كل في مجاله , وأفرزت أجواءً تختلف تمامآ عن تلك ألأجواء ألأحادية التي إعتادت عليها شعوبها . في هذه المرحلة من التطور الحضاري برزت في المجتمعات الغربية وعلت ألأصوات الرافضة لزوال أُحادية الثقافة حيث إعتبرت ذلك تجريد مجتمعاتها عن تراثها وإبعادها عن أصالتها الفكرية . كما جوبهت مثل هذه الأصوات بالأصوات المؤيدة للتلاقح الثقافي والتعدد الذي إعتبره البعض إغناءً للفكر الثقافي ألأحادي الجانب وتواصلآ مع التنوع الفكري العالمي . وفي خضم هذه النقاشات وتلاطم ألأصوات المختلفة برز إسم صموئيل هنتنجتون كأحد المنظرين لصراع من نوع جديد سماه صراع الحضارات والذي تناغم مع أصوات دعاة المحافظة على السلفية الثقافية والحضارية .

ألإشكال الدائر حول هذه النظرية يتلخص بعدم رفضها أو قبولها تمامآ كما هي عليه وبالصيغة التي طُرحت أو فُسرت بها. أما لماذا لا يمكن نفيها تمامآ , فمرد ذلك إلى أنها تطرح أفكارآ تنطلق من التطور الحضاري ألإجتماعي والسياسي والإقتصادي السائد الآن والذي يشهده العالم خاصة بعد إنفراد القطب الواحد بالتحكم بمصير العلاقات بين الدول وبالتالي بين المجتمعات .

يحاول هنتنجتون شرح تصوره عن الثقافة في مجتمع ما, فيعتبرها الإستجابة الروحية للتراث والتي لا يمكن عزلها عن ألإمتداد التاريخي لحضارة ذلك المجتمع وما نشأ عنها من ثقافات عميقة الجذور. وإنطلاقآ من هذا المفهوم يدعو الغرب , وهو محقٌ في ذلك , إلى التخلي عن تسويق ثقافته بإعتبارها ثقافة صالحة للغير وإحترام ثقافة الآخرين المنطلقة من تراثهم أيضآ . ثم يتطرق بعدئذ إلى النتيجة التي تتبناها نظريته , والتي تشكل موضوع الخلاف معه , وهي حتمية التصادم بين هذه الثقافات إن لم يسلك تطور العلاقات بينها السبيل الذي دعا إليه .

إن الخلاف مع هذه النظرية هو خروجها بالنتيجة الحتمية لتصادم الثقافات الذي سيولد تصادم الحضارات , وهذا ما لا يمكن حدوثه إذا ما حاولنا فهم هذا التصادم على أنه يتعلق بالمصالح السياسية والإقتصادية بالدرجة ألأولى , وإذا ما علمنا ان التواصل الحضاري والثقافي العالمي سوف يستمر, وقد يفتر تارة ويشتد أخرى , ولا يمكن التوقف عنه , إذ أن مثل هذا التوقف يعني إنقطاع السلسلة الحضارية المتواصلة منذ ألأزل. أما التنافس بين الحضارات والثقافات فسيستمر حتمآ طالما إستمر التواصل بين بعضها البعض حيث سيشكل هذا التنافس الحضاري الثقافي قوة الدفع العاملة على التطور الدائم والإبداع المستمر.

إن المتتبع لتطور العلاقات بين أمم وشعوب ألأرض منذ بدء الخليقة وحتى مرحلة غزو الفضاء التي نعيشها اليوم , لا يجد في الغالب إلا مظهرآ واحدآ من مظاهر الصراع الذي يتجلى غالبآ بالصراع على ضمان وسائل البقاء وعلى ضمان الرقي بها نحو الأفضل دائمآ . فماذا تعني وسائل البقاء هذه ؟ إنها تعني بالدرجة ألأولى إمكانيات توفير متطلبات الحياة المادية التي تساعد ألإنسان على التفكير والخلق والإبداع . وقد جرى صراع ألإنسان هذا مع الطبيعة أولآ ثم تطور إلى صراع مع الطبيعة وبين البشر أنفسهم بعد أن أصبحت الموارد المحلية لا تفي بمستلزمات الحياة الجديدة , وهكذا إستمر الحال حتى أصبحت البشرية تخوض صراعات قاتلة تبلورت على أشكال عدة من العبودية والإستغلال والإستعمار . إنها الغريزة الطبيعية لدى ألإنسان والتي تقوده , في أغلب ألأحيان , إلى إشباع حاجاته المادية أولآ كي يلبي بواسطتها حاجاته الروحية ثانيآ . من الطبيعي أن لا تنطبق هذه المعادلة على أولئك الذين تخلوا عن وجودهم المادي ونذروه للوجود الروحي , إلا أن هؤلاء المتصوفة والزهاد لا يشكلون القاعدة , بل ألإستثناء , في هذه الدنيا .


موقع الناس     http://al-nnas.com/