موقع الناس     http://al-nnas.com/

ما العمل......؟


د. صادق إطيمش

السبت 5/8/ 2006

تناولنا موضوع ألإرهاب الذي أفرزته الساحة السياسية العراقية الجديدة المليئة بأحزاب وتجمعات غريبة عن العمل السياسي الذي كان يعيشه الشارع العراقي قبل وجود هذه ألأحزاب وحينما لم يكن لها صوت أو إسم يُذكر طوال عقود النضال الوطني. وظاهرة تنامي الإرهاب خاصة في الفترة ألأخيرة تدل , بما لا يقبل الشك , على أن القائمين على أمور البلاد والعباد من هذه ألأحزاب التي لها الباع الطويل الآن لا قدرة لهم على التصدي لهذه الظاهرة , التي يساهم بعضهم بنشاط ملحوظ فيها , والتي تحصد أرواح العراقيين يوميآ لا تفرق بين إمرأة ورجل ولا بين شاب وشيخ ولا بين طفل وراشد. فهل هذا من التدين بشيئ يا ترى...؟ أي دين هذا الذي يسمح لمنتسبيه أن يغامروا بحياة الإنسان , أي إنسان , فيجعلون منها جسرآ للوصول إلى ما يريدون الوصول إليه من أهداف سياسية بحته لا علاقة لها بالدفاع عن الدين أو ترسيخ العقيدة أو إنقاذ المذهب كما يدّعون . هذه الشعارات التي طالما تتبجح بها اليوم جميع ألأحزاب الدينية على الساحة السياسية العراقية , مهما إختلفت مذاهبها وتعددت مرجعياتها وتباينت مصادرها . تسييس الدين ...هذه الطامة الكبرى التي أُبتلي بها الشعب العراقي المغلوب اليوم على أمره , وهذه الأحزاب الجاهلة بالعمل السياسي الذي حولته من العمل بقوة المنطق لإقناع الخصم السياسي إلى العمل بمنطق القوة المسلحة المتمثلة بنشر عصابات ألإرهاب لقتل من يخالفها في الفكر. إن أقل ما يمكن أن يوصف به هذا التوجه لإستغلال الدين بتسييسه هوما يأباه كل دين سماوي ينقل رسالة إلاهية تأبى أيلام الناس واسترخاص دمائهم والتلاعب اللاأخلاقي بمستقبلهم والإستهانة بحياتهم , هذه الحياة الهبة التي وهبها ألله عبده , فانتزعوها هم منه رغبة بتنفيذ أمر هذا الشيخ أو ذاك ألإمام من فقهاء الإرهاب وعلماء ألإختطاف وشيوخ الشعوذة وعصابات التهجير الذين يتنكرون , بأعمالهم هذه , للدين الذي به يتشدقون . إن تعصبهم ألأعمى الذي يقودهم لإمتشاق السلاح ضد الرأي ألآخر قبل مناقشة الفكرة التي يمثلها هذا الرأي ينطلق من عقيدتهم الراسخة التي لا يوجد فيها غير الصحيح المطلق الذي يدّعون تمثيله والخطأ المطلق الذي ينسبونه إلى من يخالفهم ألرأي . وإستنادآ إلى هذه القناعة التي لا تتناسب وتعاليم أي دين ولا تسلك طريق أية رسالة سماوية يسلكون طريق ألإرهاب الذي يشكل بدوره الحاضنة المثلى للإرهاب المقابل . وهكذا يتعرض الشعب العراقي للقتل والدماروالتهميش والإزدراء والتهجير لا من قبل عصابات التكفير ومجرمي البعثفاشية المقيتة فقط , بل وكذلك أيضآ من قبل مليشيات وعصابات ألأحزاب الدينية التي سيطرت على الساحة السياسية بكل الوسائل التي باتت معروفة اليوم أكثر من أي وقت مضى , وهي وسائل لم تكن جميعها نظيفة وشريفة بأي حال من ألأحوال , والمفارقة العجيبة في ألأمر أن بعض أحزاب عصابات ألإرهاب هذه تشترك في الحكومة التي يفترض فيها المواطن العراقي حمايته وحماية عائلته والسهر على راحته وتوفير إحتياجاته وليس عكس كل ذلك . فحينما يُقتل ألإنسان العراقي فإنه يُقتل بسلاح ألأرهاب السياسي البعثفاشي ألديني او بسلاح الإرهاب التكفيري أوبسلاح العصابات والميليشيات التي جعلت من الدين بضاعة للتجارة في أسواق الكسب السياسي على الساحة السياسية العراقية الجديدة . هذا ألإرهاب الذي يتعرض له ألإنسان العراقي اليوم , أي كان مصدره , يسعى في نهاية المطاف إلى تحقيق نفس ألأهداف مهما إختلفت الوسائل المستعملة والجهات المُنفذة لهذا ألإرهاب . إنه يسعى إلى إحتكار السلطة السياسية والتمسك بها خلافآ لتعاليم الدين ألأسلامي الذي يتبجح الإرهابيون جميعآ بالتمسك بها والتي تنص على التداول :" وتلك ألأيام نُداولها بين الناس " _ آل عمران 140 _. وإنه يسعى إلى فرض قيادة دكتتاتورية فردية تتمثل بشخص قائد منقذ مصون وغير مسؤول عما يقوم به من إنتهاكات لحقوق ألإنسان وإستهتار بكرامة المواطن وجرائم ضد من لا ذنب لهم , ولنا في النظام البعثفاشي المقبور وغيره من ألأنظمة المقبورة في أفغانستان والسودان ومن في طريقه إلى القبر من هذه الأنظمة المقيتة في العالمين العربي والإسلامي أمثلة على ذلك . ومن الطبيعي أن يجر مثل هذا الحكم الفردي الذي يبرر جرائمه بالتفويض ألإلاهي تارة أوابالإستحقاق النضالي تارة أخرى إلى تعطيل العمل المؤسساتي الذي لا غنى لأية دولة حديثة عنه . فأفكار القائد أوالمرشد أوالأميرأو الزعيم هي الدولة وهي المؤسسات وهي القانون , ومن يفكر , مجرد التفكير , بغير ذلك سيجعله جلاوزة السلطان يكفر بذلك اليوم الذي ولدته فيه أمه . وهو يسعى أيضآ إلى قتل الثقافة وتهميش الفكر المتنوروملاحقة المثقف وذلك من خلال تقديس ونشر فكر الفرد القائد وتقديم التخلف الفكري على ألإختلاف في الفكرالذي هو سمة طبيعية في كل مجتمع بشري جعله ألله مختلفآ بإيمانه وبالتالي بطباعه ولغاته وأسلوب تفكيره وطريقة حياته المنبثقة من هذا ألإيمان . والقرآن الكريم يذكرنا بذلك دومآ : " ولو شاء ربك لآمن من في ألأرض جميعآ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " _ يونس 99 _ . فكيف يجيز شيوخ الإرهاب وفقهاء القتل فرض آراءهم على ألآخرين بقوة السلاح في الوقت الذي منع ألله فيه رسوله محمد _ ص _ من إكراه الناس على ألإيمان ؟ ويسعى هذا ألإرهاب المقيت إلى تفتيت أللحمة ألإجتماعية , خاصة العراقية , التي ما فتتها الإختلاف الديني ولم ينل منها التفاوت المذهبي أو ألإنتماء القومي ويسعى , بإسم الدين الذي يجهل كنهه , إلى إطفاء وهج أنوار الطيف الشمسي العراقي بالقوة والإكراه والتبجح الكاذب بالدعوة للأمة الواحدة المرسومة في تصورات شيوخه ومفلسفيه الظلامية فيكشفون بهذه الدعوة الكاذبة وهذا النفاق الصريح عن مدى إبتعادهم عن المبادئ الدينية الحقة وعن تنكرهم لإرادة ألله التي جعلت ألإختلاف مشيئة إلاهية : " ولو شاء ألله لجعلكم أمة واحدة " – النحل 93 - . وهو يسعى بالتالي إلى قوقعة المجتمع وعزله عن عالم الحضارة الإنسانية والتقدم العلمي ليعيش منكفأ على نفسه يجتر الماضي جاعلآ من الخصوصية , التي لم تكن في يوم من ألأيام عائقآ أمام الإنسجام مع الحضارة الإنسانية , جدارآ لملصقات الأفكار المستوردة والحضارة الغريبة عن التراث , في الوقت الذي لا يتوانى فيه فقهاؤه وشيوخه ومرشديه وأمراؤه وجلاوزته عن إستخدام منجزات هذه الحضارة المادية ومكتسباتها العلمية كالمنجزات المعلوماتية مثلآ لنشر أفكارهم الظلامية وأعمالهم ألإجرامية أو التمتع بما أغنت به هذه الحضارة الإنسانية جمعاء من وسائل الراحة والترفيه في مجالات الحياة اليومية كافة من سكن ونقل وإتصال وفي مجالات الطب والبحث العلمي والإكتشافات الفضائية الجبارة , لا بل ولا يتوانون من إستخدام حتى وسائل التدمير التي أنتجتها هذه الحضارة من أسلحة متطورة ووسائل التدمير والقتل المختلفة لنشر الأفكار الظلامية بالوسائل التي يدّعي فيه شيوخ ألإرهاب رفضها بإعتبارها ليست من نتاج ألأمة التي يريدون أن يكونوا قادتها , فهل هناك كذب ورياء أكثر من هذا...؟ وهل من يتوجه لهم من أُولئك المنفذين لخطط القتل والذبح والإختطاف بسؤال كهذا يومآ ما....؟

حينما جرت محاكمة قاتل الكاتب المصري فرج فودة أمام إحدى المحاكم المصرية سأل الحاكم القاتل عن سبب قتله لهذا الرجل , فأجاب القاتل : لأنه علماني . فسأله الحاكم : وماذا يعني ذلك ..؟ فأجاب القاتل : لا أعلم . فقال له الحاكم : كيف تقوم بجريمة قتل دون أن تعرف السبب..؟ فأجاب القاتل : ألشيخ قال لي ذلك . فكم شيخآ عندنا اليوم في العراق يا ترى من ينشرون هذا الظلام الأسود ....؟ وكم من الجهلة المنفذين للجريمة من ألذين يستغل فقهاء الإرهاب جهلهم هذا للزج بهم في إتون الجريمة ...؟

لا نريد أن نتنكر للظواهر التي أفرزتها أحداث الشارع السياسي العراقي بعد سقوط البعثفاشية والتي قد تعتبر من الظواهر الطبيعية المتوقََعَة في مجتمع طغت عليه , ولقرابة أربعة عقود من الزمن , هيمنةُ فئة لم تعرف غير الجريمة وسيلة للوصول إلى ما كانت تسعى إليه من إذلال للمواطن وإنتهاك للقيم والأعراف وسلب لخيرات الوطن . لقد سعت هذه الفئة الباغية وبكل ما كان تحت تصرفها من إمكانيات بشرية , مشتراة أحيانآ ومُجبَرة في أكثر ألأحيان , وإمكانيات مادية مسروقة من أموال الشعب العراقي , لتغييب المواطن , الذي بات مشغولآ بتوفير خبزه اليومي, عن القرار السياسي , إذ أصبح يتلقى ليُنفذ مذعنآ صاغرآ , والويل كل الويل لمن يتجرأ على غير ذلك . لقد خلقت البعثفاشية المقيتة مجتمعآ لا يفكر بأبعد من يومه إذ ان الغد مجهول لا يضم بين طياته خيرآ , فكان اللهاث وراء لقمة العيش هو الشغل الشاغل وتجنب كل ما يمكن أن يثير شكوك زمر الذئاب البعثية السائبة , الأسلوب الوحيد الذي يمكن أن يُجنب الإنسان كثيرآ من الويلات .
إننا نرى اليوم إمتدادآ لنظرية البعثفاشية المتمثلة بالتنفيذ دون المناقشة , ونرى أن شيوخ ألإرهاب ومنظريه لا يبتعدون كثيرآ عن أسلوب البعثفاشية بإرتكاب الجرائم والإستهانة بكرامة المواطن والسطو على أموال الشعب , فهم جميعآ في ذلك سواء لا يفرقهم مذهب ولا تحول بينهم وبين جرائمهم هذه عقيدة . فهل هم من نفس تلك الطينة النتنة التي نشأت عليها البعثفاشية ....؟
وبعد سقوط البعثفاشية في وطننا تبلورت معطيات جديدة على الساحة السياسية العراقية تشابكت فيها ألإنتماءات القومية مع ألإصطفافات المذهبية والقناعات السياسية , فتبلورت من خلال هذا الإشتباك لدى المواطن العراقي ردود فعل آنية لا تنسجم وواقع الشارع السياسي ألذي ألِفَه الناس منذ أمد بعيد والذي تمَثَل بصياغة الموقف السياسي من خلال القناعة ببرنامج هذا الحزب أو ذاك دون أن يكون هناك توَجه عاطفي أو كسب مصلحي ذاتي يؤثر على هذا الموقف , بل بالعكس إذ طالما كانت مثل هذه القناعات السياسية سببآ مباشرآ للقمع والإضطهاد والتشرد . وبالرغم من ألشذوذ عن هذه القاعدة بشكل واضح أثناء التسلط البعثفاشي , ولكل قاعدة شواذ كما هو معروف علميآ , وخاصة في العقدين ألأخيرين من عمر النظام المقبور, إذ أصبح ألإنتماء الرسمي للحزب الحاكم لا يشترط القناعة لدى المنتمي فصار حصيلة حاصل يومي لكل مواطن يريد العيش بين أهله وذويه بأمان بعيدآ عن الملاحقات اليومية والإستفسارات الدائمية التي كان جلاوزة البعث يثقلون كاهل المواطن بها في كل مجال من مجالات حياته الخاصة والعامة . نقول بالرغم من ذلك فقد ظل الشارع السياسي العراقي يتطلع إلى يوم الخلاص المقترن بقناعة سياسية حيث يشير إلى ذلك اليوم , بوضوح أحيانآ وبصمت أحيانآ أخرى, ذلك الرفض الذي كان يواجهه النظام البعثفاشي بين فترة وأخرى تجلى في المحاولات الثورية الرافضة التي قمعتها عصابات النظام وجيوشه بوحشية وهمجية .
وتحققت آمال الشعب العراقي وجاء يوم الخلاص فعلآ وإنطلق المارد العراقي فورآ مُعبرآ عما كان يكبته لسنين عديدة عن طريق التجمعات والأحزاب والصحافة ووسائل الأعلام الألكترونية التي ربطته فورآ بالعالم أجمع وأنفتحت آفاق جديدة مملوءة بالأمل بحياة افضل وبمستقبل واعد . ولعبت ألأحزاب والقوى السياسية التي قارعت البعثفاشية داخل وخارج الوطن دورآ فاعلآ في ألأحداث المستجدة , إنطلاقآ من قناعاتها السياسية التي بلورتها من خلال لقاءاتها ومؤتمراتها السرية والعلنية داخل الوطن وخارجه حول تصوراتها المستقبلية للوطن بعد سقوط البعثفاشية . وتحققت فعلآ بعض ألآمال التي كان المواطن يصبو لتحقيقها متمثلة بحرية الرأي وحرية الصحافة وحرية التجمع والتظاهر وإنعدام ألأجهزة المخابراتية التي كانت تلاحق المواطن أينما حلَّ وإلى أين إرتحل , وكثيرآ من المكاسب الأخرى التي جاءت وكأنها نتيجة طبيعية لإنهيار نظام دكتاتوري مقيت . وأصبح المواطن ينظر لتحقيق إنجازات أكثر في ظل هذا الوضع الجديد الذي إنعكس فيه المشروع السياسي , قبل أن تُضيف بعض القوى السياسية , وخاصة الدينية منها , عاملآ أو عوامل أخرى جديدة على برامجها الحزبية الجديدة التي عكست من خلالها توجهات لم يُستشف منها التوجه السياسي المُعلن قبل السقوط فعلآ , بل أُضيفت إلى ذلك قناعات جديدة تصدرت النشاط الجديد , وضعت ألإنتماء القومي والمذهبي والعشائري والمناطقي أمام ألإنتماء العراقي. لقد جرى التشديد على هذا ألإتجاه الجديد من قِبَل بعض ألأحزاب والتجمعات , القديمة منها أو التي تشكلت بعد سقوط البعثفاشية , حتى أصبح ألإنتماء القومي وألإصطفاف المذهبي السمة الغالبة على الشارع العراقي وموضوع الجدل والنقاش بين الناس . لقد قاد تراجع القناعات السياسية أمام التعصب القومي والإصطفاف المذهبي ألذي إتخذ أشكالآ عنصرية وطائفية في حالات كثيرة إلى ألإزدواجية في الموقف . فالقناعة السياسية أمر مبدئي لا يستطيع ألإنسان الإستغناء عنه بسهولة, إلا أن الفرز الجديد خلق إنتماءات قومية ومذهبية جديدة أصبحت حديث الساعة الذي لا يمكن تجاهله أو حتى رفضه من قبل البعض في أحيان كثيرة . لقد أظهرت نتائج ألإنتخابات العراقية الديمقراطية ألأولى في الوطن مدى خطر مثل هذه ألإصطفافات الجديدة على الشارع السياسي العراقي والنتيجة التي أدّتْ وستؤدي إليها لو إستمرت فعلآ على هذا المنوال لفترات إنتخابية أخرى . كما أوضحت نتائج هذه ألإنتخابات أيضآ أن القوى الديمقراطية العَلمانية هي القوى الوحيدة المتضررة من هكذا توجهات وإصطفافات لسبب واحد بسيط يتلخص بأن هذه القوى ظلت تعمل حسب قناعاتها السياسية بالدرجة ألأولى وإستنادآ إلى برامجها المُعلَنة قبل سقوط البعثفاشية وبعده . إضافة إلى ذلك فإن كثيرآ من الديمقراطين العلمانيين تأثروا , كأشخاص , بالفرز القومي المذهبي الجديد على أرض الوطن والذي لم يكن معروفآ سابقآ بهدا الشكل الذي حَوَّلَ مثل هؤلاء ألأشخاص إلى وضع الفكر الديمقراطي العلماني جانبآ لوقت ما والتوجه نحو تشكيل أو مساندة تنظيمات ترعى الإهتمام بشؤون هذه القومية أو تلك او مصالح هذا المذهب أو ذاك .

لقد أدى كل ذلك إلى :

1. ممارسة القوى التي تراهن على ألإصطفافات القومية والمذهبية تأثيرآ عاطفيآ آنيآ على قطاعات جماهيرية واسعة من خلال تخليها عن جزء من برامجها السياسية التي كانت تنادي بها قبل سقوط البعثفاشية وتحولها إلى التركيز على المشاعر القومية والمذهبية العاطفية حيث أدى ذلك إلى أن تعيش الساحة السياسية العراقية أجواءً لم تكن معروفة مسبقآ لدى المواطن الذي أصبح يتعامل مع مفردات جديدة تتردد على ألسنة الناس وكأنها أصبحت العلامة الفارقة والهوية الجديدة للمواطن العراقي , فطغت العاطفة على المبدأ وبرز ألإصطفاف الفئوي على حساب ألإصطفاف الفكري .

2. إستغلال العواطف الدينية والمشاعر القومية التي ظل المواطن العراقي يتعامل معها بشكل طبيعي فطري طيلة العقود الماضية من حياته وقلما شكلت , وخاصة الدينية منها , مؤشرآ واضحآ ومؤثرآ في توجهاته السياسية والفكرية وعلاقاته ألإجتماعية والإقتصادية . لقد تم إستغلال العوطف هذا , وبكل أسف , من قِِِِبل قوى كانت تعمل بالأمس ضمن التوجه السياسي الديمقراطي في صفوف المعارضة العراقية للبعثفاشية , مستندة في توجهها ألإستغلالي الجديد هذا على ميليشيات وعصابات قوى جديدة برزت على الساحة السياسية العراقية مستفيدة من تغيير الوضع السياسي الذي لم تتعامل معه هذه القوى يومآ ما, إذ لم يكن لها وجود على الساحة السياسية العراقية , فسعت إلى إثبات وجودها بمنطق القوة لأنها لا دراية ولا علم لها بقوة المنطق .

3. تشتُت القوى الديمقراطية العلمانية التي لا تزال تمارس نشاطها السياسي من خلال برامجها السياسية التي تبنتها قبل سقوط البعثفاشية وبعده . لقد تبلور هذا التشتت من خلال التوجه الجديد لتشكيل تنظيمات جديدة تتعامل مع الواقع الجديد الذي إتسم ببروز الإنتماءات القومية والطائفية على حساب القناعات السياسية . فانخرطت قوى سياسية ديمقراطية , على شكل أفراد أو جماعات , في خضم هذه ألإصطفافات تماشيآ مع الوضع القائم الجديد وتحقيقآ لتطلعات أتباع هذا المذهب أو ذاك أو هذه القومية او تلك . فأضافت إلى ألأحزاب أحزابآ وإلى التشتت تشتتآ فضعفت الساحة السياسية العراقية المبدأية أمام تلك الساحة القومية المذهبية الطائفية العشائرية المناطقية .

إن الخطر الناجم عن إستمرار هذا التشتت للقوى الديمقراطية العلمانية يكمن في إمكانية ديمومة التوجه القومي الطائفي العشائري السائد ألآن وإتخاذه موقعآ ثابتآ على الساحة السياسية العراقية كبديلٍ عن القناعات السياسية البرنامجية المبدأية . ويمكن القول أن الظروف الموضوعية الفعلية لا زالت متوفرة على صعيد الشارع السياسي العراقي الآني لمُضي القوى القومية والمذهبية الطائفية على إستمرارية هذا النهج وكسب الناس إلى جانبها عاطفيآ ودينيآ , تمامآ كما تسترت وراء هذه الشعارات في ألإنتخابات الماضية بعد أن أفرغت جعبتها من شعاراتها السياسية التي كانت تتبناها أثناء عملها ضمن تنظيمات المعارضة العراقية سابقآ .وبعد أن سمحت لنفسها أن تتعامل , على حساب مبادئها , مع قوى طارئة على العمل السياسي المبدأي جاهلة بعلم السياسة أوقعتها كما أوقعت نفسها في غياهب التمحور الطائفي الذي يعيش المواطن العراقي نتائجه اليوم التمثلة بالإحتراب والقتل على الهوية الذي يمارسه الإرهاب المذهبي تمامآ كما يمارسه ألإرهاب البعثفاشي التكفيري ضد المواطن العراقي الذي وقع ضحية ألإرهابيين من أولئك وهؤلاء .

إن الخطر ألأدهى يكمن في ظاهرة إستفحال هذا ألإرهاب وإستغلاله لهذا الوهن على الساحة السياسية المبدأية ولجوء الساسة الجدد الجهلة بالسياسة وإصرارهم على ممارسة سياسة الجهل بكل المعطيات السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية التي يمكن أن تؤدي إلى إيجاد الطرق والوسائل المحلية والإقليمية والعالمية للنهوض بالوطن من مخلفات العهد البعثفاشي ألأسود إلى ألسير في صفوف عالم القرن الحادي والعشرين .
فما ألعمل إذن...؟ لا طريق سوى وحدة ألتيار الديمقراطي العلماني العراقي على برنامج سياسي يضع المواطَنة العراقية وسبل تحقيقها بإباء وكرامة في المقدمة وقبل كل شيئ ... إن ألقومية والطائفة والمذهب أنتماء ذاتي ثانوي والعراقية إنتماء عام أساسي ومركزي يجب ان تكون له ألصدارة في العمل السياسي . ولا يمكن تحقيق هذا ألإنتماء بكل مفاصله إذا لم يقترن ذلك بالعمل الديمقراطي الذي يجعل من العراق وطنآ لأهله مهما كثُر عدد قومياتهم أو دينهم او قََلَّ ومهما تنوعت مشاربهم السياسية وتباينت مواقعهم ألإجتماعية . وحدة التيار الديمقراطي العراقي مهمة لابد من تحقيقها لإبعاد شبح الطائفية الرهيبة والتعصب القومي العنصري وإرهاب أعداء الشعب والوطن الذين لا قدرة لهم على إستخدام قوة الحجة والمنطق فلجأوا إلى حجة القوة والعنف لنشر الظلام الدامس والفكر المُبتذل . وحدة التيار الديمقراطي العراقي لا تعني التفريط بحقوق ألأديان والقوميات والطوائف , بل بالعكس تؤكد على إحترامها وإزالة كافة العراقيل التي تُعيق ممارستها او تحول دون نموها وتطورها بالشكل الذي يضمنها للجميع دون إستثناء وبالشكل الذي يستوعبها ضمن الكيان العراقي الواحد . وحدة التيار الديمقراطي العراقي يجب ان تكون المهمة ألآنية , إذ بدون هذه الوحدة ستتبعثر أصوات الديمقراطين العلمانيين بين طوائفهم ومذاهبهم وقومياتهم , وسوف لن يستفيد من هذا التشتت سوى أولئك الذين يراهنون ويعملون على تحويل العمل السياسي بالعراق إلى صراع بين ألطوائف والمذاهب والقوميات , يراهنون على تحويله إلى صراع عاطفي كبديل عن الصراع البرنامجي المبدأي , يراهنون على تسويق المشاعر القومية والدينية لإستغلال عواطف الناس , وخاصة البسطاء منهم ,كما فعلوا في ألإنتخابات الماضية , لإمرار مشاريع شوفينية طائفية لا تُحمد عقباها ولا يستطيع أن يتعامل بها ومعها إنسان القرن الحادي والعشرين . فإن لم يتم تدارك هذا ألأمر عاجلآ فسوف لا ينفع الندم آجلآ ولا النقد والنقد الذاتي , وسوف لا نستطيع التخلص من هذا المأزق إلا بعد وقت طويل وطويل جدآ .

كما يجب على التيار الديمقراطي الموحد أن يبلور منهاجآ وبرنامجآ سياسيآ وإجتماعيآ وإقتصاديآ وثقافيآ موحدآ ينطلق من أسس علمية رصينة تلبي حاجات الجماهير التي أصبح ألأمان في مقدمتها ومن أول أولوياتها والذي لا يمكن تجاوزه في كل تخطيط قادم , إذ على توفيره بشكل ثابت ورصين يتوقف التطور الأقتصادي والتقدم العلمي والفني والنهضة الثقافية وتطور العلاقات مع العالم ومجمل السير في ركاب حضارة القرن الحادي والعشرين .

ومثل هذه البرامج لا يمكن تحقيقها إذا لم تنهج الدولة العراقية الجديدة المنهج العلماني الذي ينظم حياة ألإنسان العراقي بما ينسجم وتطلعاته المستقبلية بالعيش ألآمن الكريم والتمتع بما توصل إليه العلم الحديث في مجالات الحياة كافة , مثله مثل الشعوب الأخرى التي سلكت هذا الطريق فاستفادت وأفادت . وهنا قد تبح ألأصوات الطائفية الرجعية الجاهلة ولا تتوقف عن القدح بالعلمانية وإلصاق كافة التهم بها , هذه التهم التي لا تخرج ألا من جوف أمي لا يعرف حتى أن يتهجى هذه الكلمة أو من ظلمات فكر متسلق على الدين يريد الوصول إلى التحكم برقاب الناس من خلال ألإرهاب والقمع والقتل والتهجير والإبادة. إن العلمانية التي ألصقوا بها كل ما يجول بمخيلاتهم الظلامية من أوصاف كاذبة ونعوت يخجل حتى من النظر إليها كل ذي فكر سليم ما هي إلا : " الحماية الحقيقية لحرية الدين والعقيدة والفكر وحرية الإبداع , وهي الحماية الحقة للمجتمع المد ني ولا قيام له بد ونها . إن ألذين يتحد ثون بإسم ألإسلام عن المجتمع المد ني ويرفضون العلما نية يقعون في تناقض مبدئي , واقل منهم تناقضآ أولئك الذين ينادون صراحة بالدولة الدينية المؤَسسَة على _ ألحاكمية _ . خطر الخطاب الإسلامي بشقيه المدني والديني أنه يحوّل الدين إلى مجرد وقود سياسي , وبذلك يحرم المجتمع من الطاقات الروحية والأخلاقية للدين . ومن اجل هذا يلجأ إلى تزييف المفاهيم وعلى راسها العلمانية حيث ينتقل من مسألة فصل الدين عن الدولة إلى تعبير فصل الدين عن المجتمع , وهكذا يقوم بعملية خداع دلالي عن طريق هذه النقلة غير الملحوظة غالبآ . ألعلمانية في سياقها التاريخي وفي دلالتها الفكرية لا تعادي الدين , ولكن بما أنها تعتمد على مبادئ كلية هامة فهي التي تحررالإنسان حتى من الإضطهاد الديني . من أهم مبادئ الفكر العلماني أنه لا سلطان على العقل إلا العقل , ونقصد بذلك العقل كفعا لية ونشاط باستمرار , وليس العقل بما هو معقولات ثابتة كما يتوهم ألإسلامويون .......إن معاداة العلمانية والهجوم المستمر عليها في الخطاب الديني المعاصر يرتد – في أحد جوانبه – إلى أنها تسلبه إحدى آلياته ألأساسية في ألتأثير ويرتد – في جانب آخر – إلى أنها تجرده من ألسلطة المقدسة التي يدعيها لنفسه حين يزعم إمتلاكه للحقيقة المطلقة . ورغم إستنكار الخطاب الد يني لموقف رجال الكنيسة في بدايات عصر النهضة ألأوربي من العلم والعلماء , فإن موقفه في الحقيقة لا يختلف عن ذلك الموقف الذي يستنكره نظريآ .........وقد حاول الخطاب الديني مؤخرآ أن ينفي عن هجومه على العلما نية معاداة العلم والمعرفة العقلية , فلجأ إلى حيلة تكتيكية كشفت – عكس المراد منها – عن تهافت هذا الخطاب وتناقض مقولاته ومنطلقاته . لجأ بعضهم إلى إعادة إختزال الحركة عن طريق ترجمة المصطلح الدال عليها إلى – ألدنيوية – بدلآ من العلمانية غافلآ عن أن مثل هذا التوجيه يضع الحركة ألإسلامية المعاصرة في الجانب النقيض للمفهوم من الدنيوية وهو ألأخروية , ألأمر الذي يتناقض مع المنطلق الرئيسي لهذه الحركة , والذي يذهب إلى أن ألإسلام دين ودنيا "
 (1)

هكذا عرَفَ العلمانية , وبإختصار شديد , المفكر الإسلامي المتنور والعالم الأكاديمي الدكتور نصر حامد أبو زيد الذي نصب له فقهاء السلاطين في مصر محكمة تفتيش إسلاموية في أواخر القرن العشرين بعد أن تخلت المسيحية عن هذه المحاكم السيئة الصيت والتي نصبتها لفرض سيطرة الكهنوت الديني في القرون الوسطى .
إن لدى القوى السياسية العراقية العلمانية الديمقراطية طاقات وإمكانيات هائلة وخزينآ ضخمآ بين كافة مكونات الشعب العراقي الذي يتطلع لها بدوره وينتظر مساهماتها الفعلية الواقعية على الساحة العراقية السياسية والفكرية والإجتماعية والتي تستطيع بواسطتها أن تقدم نفسها كبديل حقيقي لتلك القوى التي تتلاعب بعواطف الناس دينيآ وقوميآ والتي تجعل من ألإنتماء العراقي مسألة ثانوية , وكل إنسان يعلم ما أدت إليه تجارب الشعوب الأخرى التي فُرضت عليها الممالك والجمهوريات الدينية المتطرفة والقومية العنصرية . القوى السياسية العراقية العلمانية الديمقراطية مدعوة لأن تعبئ نفسها بكل ما تمتلكه من خزين شعبي وفكري لخوض المعركة السياسية الديمقراطية على ساحة العراق الجديد التي ستكون هي ألمُستَهدَفة فيها لأنها البديل الوحيد للتشتت الطائفي والتعصب القومي والتمحور المناطقي والعصبية العشائرية القبلية الجاهلية .


(1) - لاحظ هنا إستعمال مصطلح " ألخطاب الديني " وليس مفردات الدين أو العقيدة التي يحاول ألإسلامويون توظيفها لإيصال مفردات خطابهم إلى ذهن الجمهور. وللإطلاع أكثر على ماهية هذا الخطاب أنظر كتاب : نقد الخطاب الديني : تأليف الدكتور نصر حامد أبو زيد , من منشورات مكتبة مدبولي , القاهرة .