نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. صادق أطيمش

 

 

 

 

الخميس 1/6/ 2006

 

 

 

خرائط الطائرة وخرائط البعير

 

د. صادق إطيمش  

كتب العالم الإجتماعي العراقي المرموق الدكتور علي الوردي في مؤلفه القيم " مهزلة العقل البشري " ص 178 وما تلاها قصة عاشها هو شخصيآ أثناء سفره بالطائرة إلى أمريكا عام 1946 ذكر فيها دهشته من طيران طائرته على شكل منحني للوصول إلى هدفها , إذ كان يظن , حسب قوله , بأن الطائرة كان يجب أن تأخذ الخط المستقيم في طيرانها , إستنادآ إلى نظرية إقليدس التي تقول " أن الخط المستقيم هو أقصر المسافات بين نقطتين " والتي أثبت خطأها أينشتاين بإعتبار الخط المنحني هو الذي يشكل أقصر المسافات بين نقطتين وذلك لأن الفضاء محدب . ويستطرد العالم الفاضل الدكتور علي الوردي سرد دهشته لما رآه مما إضطره إلى لجوئه إلى أحد الأخصائيين في علم الطيران ليشرح له ذلك . لقد قال له هذا الأخصائي إن ألخط المنحني أسهل على الطائرة في المسافات البعيدة من الخط المستقيم , وذلك لإنحناء سطح ألأرض . فالبشر قد إعتادوا منذ قديم الزمان على ركوب الحمير أو البغال أو ألأباعر في أسفارهم وقد أدى بهم ذلك إلى إعتبار الخط المستقيم أقصر من الخط المنحني . وهو أقصر فعلآ في المسافات القصيرة حيث يكون إنحناء سطح ألأرض فيها بسيطآ للغاية لا يحسب حسابه. أما في الطيران البعيد المدى فانحناء سطح ألأرض يدخل في الحساب . ولهذا صارت خرائط الطيران تختلف عن خرائطنا المعتادة أي خرائط الحمير والأباعر. وقد إطلعت فعلآ على هذه الخرائط الجديدة فبدت في نظري كأنها ممسوخة أو مشوهة. والواقع إنها دقيقة كل الدقة , ولم يكن المسخ إلا في عقلي أنا ألمسكين , هكذا ختم هذا العالم الجليل قصته هذه التي أدت إلى وضعه في موضع المتعلم وليس العالِم .
الجهل آفة إجتماعية قاتلة إذا ما وجدت لها منفذآ في مجتمع ما والجاهل الذي لا يعي جهله يزيد من هذا الخطر الذي يؤدي إلى هلاكه وهلاك المجتمع كله إذا لم يتم تداركه في وقته وقبل أن يستفحل إنتشار الجهل وسيطرة الجهلاء على امور البلاد والعباد . أما العالِم الذي يسعى لطلب العلم دومآ ليتعلم ما يجهله من أمور هذا العالَم الواسع الغريب العجيب وعلومه التي لا تقاس ببعد زماني أو مكاني , فإنه يظل يسعى ويسعى حتى يقضي أنفاسه في طلب المعرفة وتكييف حياته بتكَيُف مداركه , كما يعلمنا ذلك أستاذنا الجليل الدكتور علي الوردي في قصته أعلاه .
لو كنت اليوم بيننا , أيها الطود العلمي الشامخ , لكنت أول المستَهدَفين بالقتل من قبل راكبي حمير وأباعر القرن الحادي والعشرين . فجهلهم , يا سيدي , لم يقودهم إلا إلى غياهب العتمة التي لا يرون فيها غير السواد الذي لفّوا به وجوههم وغطوا به أعينهم ليؤكدوا للعالم أجمع بأنهم ليسوا جهلاء فقط , بل وأغبياء أيضآ .

الجهل بالعلم قد يمكن تداركه إذا ما سعى الجاهل نفسه أو أُقتيد برغبة أو إكراه إلى موارد العلم التي سيجدها حتمآ , إن أجهد نفسه قليلآ بالتفتيش عنها أو التعامل معها . إلا أن ألطامة ستكون كبرى إذا ما سعى هذا الجاهل إلى نشر جهله وبث أفكاره بين الناس متخذآ من الوعيد الديني تارة والتهديد التكفيري أو ألإرهاب البعثفاشي تارة أخرى , كما يجري اليوم في وطننا العراق , لإجبار الناس على ركوب الحمير والأباعر والبغال في حلهم وترحالهم متمثلآ بذاك السلطان العثماني ألذي خاطب الناس محذرآ بقوله : أتتركون حمير ألله وتركبون الشمندفر. والمقصود بالشمندفر القطار. وهذه الطامة الكبرى , ألإصرار على الجهل ونشره أيضآ حتى بالقوة, نراها تكبر وتستفحل في وطن الحضارات , وطن العلم والكتابة , وطن أولى القوانين وقبلة طالبي العلم, في وطننا العراق المستباح اليوم من قوى الظلام والجهل وأجواء التحجر الفكري والتكلس العقلي التي لا يعرف هؤلاء الجهلاء والمجرمين بعدآ آخر غيرها في هذا العالم الذي لفظهم ولفظ أفكارهم المقيتة ونفوسهم الشريرة قاذفآ بها في مزبلة التاريخ , وما نعيشه اليوم هو العفونة المنبعثة من مزبلة التاريخ هذه التي لم تتفتت قذاراتها بعد التي لا تستطيع الصمود أمام قوانين التعفن الطبيعة التي ستؤول بها إلى هذا المصيرعاجلآ أم آجلآ .
ومع ذلك نقول إن أمر هؤلاء الجهلاء ألأغبياء يمكن تدبره بتكرار المحاولات لجرهم إلى طريق القرن الحادي والعشرين وإنتشالهم من غياهب ظلمات القرون ألأولى إذا ما حاولنا التواصل معهم بالحوار والتكرار , والتكرار يعلم الحمار كما يقول المثل . إلا أن هناك أسباب عدة تحول دون ذلك . أولها خروج هؤلاء ألأوباش من فصيلة البشر, ولهان ألأمر أيضآ لو أنهم إنخرطوا في الصنف الحيواني , إذ أن كثيرآ من الحيوانات يمكن تدجينها وتلقينها وتعليمها أيضآ , إنهم قد أنخرطوا في محيط الجمادات التي لا تعي ما يدور حولها من تقلبات ألأجواء وتغير الطبيعة والتحول الذي يعيشه الكون في كل ثانية من عمره . إنهم أحجار جامدة تدفع بها ريح صفراء عاتية نحو الهاوية التي ستنتهي إليها حتى وإن بدت وكأنها تعصف بما تمر به بإنحدارها هذا . وثاني هذه ألأسباب هو شدة الجُبن والخوف والهلع الذي ينتاب هذه الحثالات بحيث أنها لا تستطيع أن تسفر عن وجهها لا لأنه أقبح من القبح نفسه فقط , بل ولأنها بكشفها عن هذه القباحة ستكشف عما يخفيه أللثام ألأسود أو ألأخضر أو بأي لون آخر عن معدن صدئ لا ينفع معه جلي الصفار مهما بلغ من مهارة في صنعته. فإننا نعيش إذن ظاهرة جاهل مجهول فقد كل ما يتصل بالحياة السوية من شرف وحس إنساني جعله يتخبط بين سقوط جهل الطالبان ألأفغاني وإنتكاس قمع حرس الثورة الملائي ألإيراني وإنحطاط ألبعثفاشية على أرض العراق , فذهب ليجمع من قمامة التاريخ نماذجآ من كل هذه القذارات ليرمي بها في طريق العراق الجديد الذي ما زلنا ننتظر بزوغ فجره رغم المآسي ورغم العتمة التي يريد لها الجهلة المجهولون أن تطيل ليلها الكئيب على ربوعه .