| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. صادق أطيمش

 

 

 

                                                                  الأربعاء 16/1/ 2013



الأزمة ... مسرحية عراقية بعدة فصول

د. صادق إطيمش 

مَن يراقب المسرح السياسي العراقي منذ سقوط دكتاتورية البعث عام 2003 وحتى يومنا هذا يجده مسرحاً فعلاً تتعاقب فيه الأدوار ويتناوب فيه الممثلون لعرض عدة فصول لمسرحية واحدة اسمها الأزمة . اما ديكور هذا المسرح فقد برع مخرج هذه المسرحية في تصميمه ليعطيه ابعاداً وألواناً تتناسب والفصل المعروض بكل معطياته الذاتية والموضوعية. إن هذا المخرج البارع لهذه المسرحية المتعددة الفصول الدائمة العرض على المسرح السياسي العراقي هو صاحب السمعة التي اخذت ترتفع في الأونة الأخيرة وكل ما يرافق هذه السمعة من صعود جديد ومستمر هو المدعو ألإسلام السياسي .

قد يتحاشى البعض تسمية ألإسلام السياسي  كمسبب  فعلي للأزمات ، وكما يبدو الآن ليس في العراق فقط ،  وهذا التحاشي او التجاهل سوف لن يوصل اي ناقد او محلل مسرحي لوضع هذا الفصل او ذاك من هذه المسرحية الطويلة في موضعه الصحيح .

فالإسلام السياسي حينما يخرج فصل إستغلال الدين مثلاً فإنه يختار ممثلين قديرين حقاً بلباس يتناسب وموضوع الفصل ومكياج بارع ترى فيه وجوه بلحى تطول او تقصر حسب الدور المراد القيام به ووجوه تغيرت عما كانت عليه بالأمس القريب ، إذ برزت على جباهها بقع متختلفة الأحجام والألوان ، أحادية الموقع او مزدوجته ، داكنة او فاتحة . إلا ان كثيراً من المتفرجين لم يدركوا غرض المخرج من ذلك . فهو يريد ان يثبت للجمهور ، وإن لم يقل ذلك ، بأن ممثليه يجيدون هذا الدور حقاً والشاهد على ذلك " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " . وهو لم يقل ذلك صراحة ، بالرغم من الإشارة إلى القصد على جباه الممثلين ، حيث انه ، وكصاحب مهنة عريق ، يخشى بعض الناقدين المسرحيين الذين سيواجهونه بكيفية تفسير اثر السجود هذا على وجوه شباب دخلوا سن المراهقة تواً ؟ فاستغلال الدين إذن هو فصل واحد من مسرحية طويلة او حلقة في سلسلة مترابطة من النصوص المسرحية التي حرص مخرجها الإسلام السياسي ، وببراعته في تغيير الألوان والأدوار وتكييف النصوص حسب الطلب ، والأهم من ذلك كله تجاوب الممثلين معه ، على ان تجري إعادة هذا الفصل لمرات عديدة اخرى وعلى اي مسرح ، حيث ان المخرج لا مشكلة لديه مع التغيير الزمكاني الذي يمكنه ان يتجاوب معه ذاتياً وموضوعياً وحسب الطلب .

تختلف هذه المسرحية عن المسرحيات الإعتيادية المتعددة الفصول والتي يجري فيها عرض الفصول بالتناوب . وإن جوهر الإختلاف هذا يكمن في التناسق في عرض جميع فصول هذه المسرحية وبشكل متناسق مع بعضها البعض وفي نفس الوقت وعلى نفس المسرح . إنه لمخرج قدير حقاً هذا الإسلام السياسي الذي يستطيع ان يلعب على كل هذه الحبال مرة واحدة . ومن حقه ان يفخر بهذا التلون الذي برهنت التجارب على إجادته له. فهو يسعى دوماً ولتحقيق هذا التناسق الجمعي في العرض ان يجد القواسم المشتركة بين الفصول المختلفة بحيث لا يمكن الإستغناء عن اي فصل على المسرح السياسي العراقي ، إذ ان مثل هذا الإستغناء سيتبلور عنه الخلل في العرض الذي يقدمه المخرج ، وهو لا يريد لعمل مثل هذا ، مسرحية الأزمة ، ان يصيبه اي خلل .

وعلى سبيل المثال يسعى الإسلام السياسي (المخرج) إلى ربط الفصل المتعلق باستغلال الدين مع فصل الإثراء الفاحش الذي يراه جمهور المتفرجين على هذه المسرحية ، وجميع الممثلين على المسرح ، بدون إستثناء ، يمارسونه بجد منقطع النظير وبمهنية عالية  ، مع عرض واضح جداً لكثير من الوسائل والطرق التي تؤدي إلى مثل هذا الإثراء . هذا العرض يجعل كثير من المتفرجين في حيرة من امرهم لما يمكن ان يتحقق في مدة زمنية لا يصدقها كل ذي عقل سليم . ومما يحيرهم اكثر عبقرية هذا المخرج في إكتشاف كثير من طرق ووساءل الإثراء الفاحش هذا والتي لم تخطر على بال احد من جمهور المشاهدين . وما يُبهر المتفرجين اكثر هو قدرة المخرج على خلق التبريرات سواءً بالآيات المحكمات والمتشابهات أو بالأحاديث المعنعنة . ولا يخفى على هذا المخرج من إعطاء فصل الإثراء الفاحش هذا الهيئات المناسبة للمثلين على شكل كروش وعروش .

ولكي يكون فصل الإثراء الفاحش هذا مكتملاً بكل اوجهه الفنية والموضوعية ، فلقد عمد مخرج المسرحية ، ألإسلام السياسي ، إلى توزيع ادواره على الممثلين بشكل يحقق التوازن الفني المطلوب في مسرحية كهذه . وقد جرى توزيع الأدوار هذه ضمن فصل ربطه المخرج بحكمة ودراية التجربة في مثل هذه المور سماه فصل الطائفية . ومصطلح الطائفية هذا قد يكون غريباً على مسامع بعض المتفرجين على المسرح السياسي العراقي ، إلا ان المخرج القدير لمسرحية ألأزمة هذه إستطاع ان يعطيه ابعاداً ربطته بشكل محكم بالفصلين السابقين ، إستغلال الدين والإثراء الفاحش ، بحيث ان من يريد ان يفهم معنى الطائفية حقاً فعليه ان يكون قد هضم واستوعب معنى هذين الفصلين ليتمكن من متابعة المخرج ، الإسلام السياسي ، فيما يقصده بالطائفية وكيفية توزيع الأدوار على الممثلين والإنسجام في هذا التوزيع ، تماماً كالإنسجام في إيقاعات العازفين على الآلات الموسيقية المختلفة في الفرقة الموسيقية .

وفي إلتفاتة ذكية من المخرج حاول فيها ربط فواصل التاريخ التي قضى الزمن على بعضها بفصول الحاضر فأدخل فصلاً سماه بما كان الناس يرددون حوله ما قاله الجواهري الكبير : ظننا أنهم قُبروا ، سماه العشائرية . وبالرغم من إختلاف الزي الذي اعطاه لهؤلاء الممثلين الذين خلع عنهم ملابسهم القديمة ليتشحوا بوشاحهم الجديد ، فإن آثار اللباس القديم مازالت بادية على ملامح وجوههم وعلى هيئة لباسهم الذي ظل البعض جاهلاً بطريقة تنسيقه حتى بدا وكأنه يريد ان يكون شيخ عشيرة فقط ، دون الإهتمام بكل مستلزمات هذه المشيخة  ، وكما قلت أعلاه ، التي عادت تمشي الهوينا بعد ان كادت تلفظ انفاسها الأخيرة في الرابع عشر من تموز عام 1958 . فصل العشائرية هذا بدى وكأنه ضم ممثلين غير كفوئين لهذا الدور . وهنا تبرز كفاءة المخرج الذي خطط لإعطاء هذا التصور إلى جمهور المتفرجين ليوهمهم بأن هؤلاء الممثلين قادرين على إقتناص اي دور مطلوب على هذه المسرحية وبكل فصولها ، حتى صنف هؤلاء إلى مجموعات لم تضم شيوخ العشائر فقط ، بل وتضم التوابين ايضاً والمجاهدين والنادمين والعائدين والإرهابين والمقاومين والمسبحين والمحوقلين ووزع عليهم الواناً مختلفة من الألبسة البيضاء والخضراء والسوداء ، ولم يجعلها تعتمد على اللون الزيتوني فقط الذي كان اللون الوحيد الشائع بينهم .

لقد حرص المخرج القدير هذا ، ألإسلام السياسي ، ان يحافظ على وحدة واستقلالية كل فصل وخصائصه وامتيازاته في نفس الوقت الذي وضع فيه قاسماً مشتركاً بين كل هذه الفصول ليربطها ربطة فنية محكمة بفصل يتناسق فيه الأداء بين كل الممثلين في فصولهم المستقلة عن بعضها البعض والمرتبطة رباطاً فنياً موحداً بالفصل الذي سماه المخرج بالفساد . ونظراً لأهمية هذا الفصل كأرضية تقوم عليها كامل مسرحية الأزمة هذه ، إذ بدونه لا يمكن للمتفرج ان يفهم المسرحية على حقيقتها ، فقد كان من الضرورة الفنية ان يتكون فصل الفساد هذا من عدة مشاهد يشير كل منها إلى نوع الفساد الذي يعنيه ومدى إرتباطه بالممثلين في جميع ادوارهم . فجعل من مشهد الفساد الإداري والمالي على المسرح السياسي العراقي ظاهرة تكاد تكون ليست ذات اهمية تُذكر ، لأن مثل هذا المشهد سبق وان تكرر في مسرحيات اخرى ولم يكن خصوصية المسرح العراقي فقط . إلا انه ركز ، وبحق ، على اهمية الفساد الأخلاقي الذي كان يجب على بعض الممثلين ان يمارسوه ، ولا نقول كلهم ، لحكمة في عقل المخرج . إذ انه فتش عن الممثلين الأكثر اهلية لمشاهد الفساد المختلفة . فقد كان حريصاً على ان تشمل مشاهد الفساد كل انواعه . فأخرج لنا مشهد فساد الضمير وفساد الأخلاق وفساد العقول وفساد التصرفات والتعامل مع الآخرين وكل انواع الفساد الأخرى التي شملت التزوير والإغتصاب والكذب والإحتيال والغدر والخيانة والتملق ، هذا وغيره الكثير الذي ربط فيه هذه المشاهد والفصل الذي يضمها ، فصل الفساد ، بالفصول الأخرى ربطاً محكماً ، بحيث لا يمكن للمتفرج العراقي على هذه المسرحية ، الأزمة ، ان يعزل  اي ممثل في الفصول السابقة عن كل المشاهد التي ضمها هذا الفصل .

في الحقيقة تطول الكتابة عن هذه المسرحية ، إلا ان المهم فيها هو الدرس الذي يمكن للجمهور العراقي المتفرج إستيعابه منها .

نتذكر جميعا ما كانت عليه الساحة السياسية العراقية في إنتخابات عام 2005 وكيف كان الجو السياسي مشحوناً بالطائفية الذي اصبح العلامة الفارقة للإنتخابات البرلمانية التي جرت في ذلك الوقت . لقد اصبح الإنتماء الطائفي وبالتالي الإنحياز له كلياً هو السمة الغالبة حتى لدى كثير من المثقفين ومن حملة الفكر السياسي الذي لا يمت إلى الطائفية بصلة ولا حتى إلى الدين بشكل عام . إلا ان التوجه الإنتخابي تمحور حول الدعاية الطائفية التي لصقها فقهاء السلاطين بالفتاوى الدينية والحلال والحرام والمرجعية الدينية وغير ذلك من وسائل استغلال الدين لأغراض سياسية لا دينية ، وهذا هو ديدن الإسلام السياسي ليس في العراق فقط ، بل واينما وجدت هذه العصابات التي جعلت من الدين الإسلامي مهزلة بين اديان واقوام الأرض كافة .

اليوم ومع قرب إنتخابات المجالس البلدية في المحافظات ، ومع تزايد شعور قادة الإسلام السياسي هذا الذين اصبحوا خلفاء لدكتاتورية البعث الساقطة فاستمروا كما كانت تلك الدكتاتورية المقيتة  يتحكمون  بالبلاد والعباد حتى وصلنا إلى ما هو عليه العراق الآن الذي جعل الجمهور العراقي يعظ على ألأصبع البنفسجي نادماً على إيصال مثل هذه العصابات المتطرفة دينياً وقومياً وعشائرياً ومناطقياً إلى حكم البلاد والتحكم بمصائر الناس وبالتنسيق مع كل العصابات الأخرى التي تقاسمت معها الغنيمة العراقية بأي إسم آخر يحمل الشوفينية والتطرف بين حروفه . مع وجود وتنامي هذا الشعور على الشارع العراقي والذي قد يفضي إلى كنس مثل هذه القاذورات عن الساحة السياسية العراقية يساعده في ذلك وجود بديل ديمقراطي ممثلاً بقوى التيار الديمقراطي العراقي الذي خرج عنوة على هذه الساحة التي اراد القائمون عليها ان لا يخرج بهذه الإندفاعة الوطنية التي إستعادت للهوية العراقية مكانتها في المجتمع العراقي ، رافضاً للهويات الأخرى كهوية اساسية بديلة عن الهوية العراقية . مع كل هذه التطورات التي بدت تبرز بين العراقيين ، دبت الخشية والخوف إلى القوى الحاكمة لتفكر بانقاذ الموقف الذي قد يفلت من يدها وبالتالي تكون النتيجة التي لا تحمد عقباها في وضع سياسي جديد ستكون اول قوانينه التي يسنها هو قانون : من أين لك هذا ، الذي سيزيل الغطاء عن حاوية الجيفة القاتلة المغطاة الآن بكل حيل وأكاذيب ودجل وافتراء الإسلام السياسي وفقهاءه . هذا الشعور جعل من مفكري الإلتصاق بالحكم المهدد بالضياع ان يجدوا طريقة ما لإنقاذ الموقف . وبعد جهد ولأي توصلوا إلى إعادة مسرحية الصراع الطائفي التي قدموها سابقاً إلى الجمهور باعتبارها الطريق الوحيد لوصولهم إلى مراكز السلطة . وها هم يعيدون اليوم نفس هذه المسرحية البائسة من خلال خلق الأزمات التي تبلورت بعدئذ إلى تحقيق هدفهم النهائي بإثارة النعرات الطائفية على اوجها ليتخذوها عصاً يتوكأون عليها لتعينهم على البقاء في مناصبهم التي إبتزوا من خلالها الشعب والوطن لعشر سنين مضت ولم تمتلأ بطونهم من السحت الحرام بعد .

ايها الناس لا تجعلوا رقابكم مرة اخرى بيد مَن ركب عليها ليثري نفسه وبعض اهله وزبانيته ومقربيه وليترككم ، انتم ناخبيه ، بين انياب الفقر وجوع البطالة وظلام الأمية وفقدان الأمن وانتشار الفساد وشيوع التزوير والكذب وتفشي الرشاوي وقهر الفتاوى الشيطانية الغريبة العجيبة وغياب الخدمات بكل انواعها واشكالها بحيث ان مطرة واحدت اغرقت بغداد ومدن اخرى . فهل تريدون حقاً إستمرار كل هذا بسبب الإنتماء الطائفي ولا تسعون إلى تغييره من خلال السير خلف راية الهوية العراقية التي تحملها القوى الديمقراطية العراقية وكل الخيرين من بنات وابناء هذا الوطن الذي سوف لن يغفر لكم رفضه لهويته واتباعكم الهويات الفرعية الأخرى التي لا يقف ضدها الديمقراطيون العراقيون ، إلا انهم لا يريدونها بديلاً عن هويته الوحيدة ، الهوية العراقية .

free web counter