| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. صادق أطيمش

 

 

 

                                                                                     الجمعة 16/12/ 2011



هل فشل المشروع الأمريكي في العراق ؟

د. صادق إطيمش 

تتزايد التعليقات المحلية والإقليمية والعالمية حول معطيات الإنسحاب العسكري الأمريكي من العراق وما يترتب على ذلك من النتائج التي يحللها البعض كدليل على فشل السياسة الأمريكية في العراق .

إذا إنطلقنا من تفسير الفشل والنجاح للسياسة الأمريكية في العراق من وجود او عدم وجود قوات عسكرية على ارض العراق ، فإن هذا التقييم سيظل ، من وجهة نظري ، ناقصاً إذا لم يتم ربطه بمجمل السياسة الإستراتيجية الأمريكية بشكل عام وليس من خلال الحراك اليومي لهذه السياسة . وإذا ما اردنا التعمق في الأمر بشكل أكثر فما علينا إلا مقارنة ما كانت عليه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط قبل غزو العراق عام 2003 وما هي عليه الآن .

حينما نناقش الإنسحاب العسكري تكتيكياً فإنه والحالة هذه خطوة تريد السياسة الأمريكية من وراءها ان تؤكد خلو العراق من التواجد العسكري الأجنبي وبالتالي حصوله على الإستقلال حسب المفاهيم الكلاسيكية للإحتلال والإستقلال وحسب ما تريد تحقيقه الساحة السياسية العراقية اليوم لتجعل من كل ذلك ورقة رابحة تلوح بها كدليل على إهتمامها بالشان الوطني. إلا ان تطور العلوم والخطط والآلة العسكرية في القرن الحادي والعشرين يعطي مثل هذه المصطلحات في الإحتلال والإستقلال مفهوماً آخر قد لا ينسجم والمفهوم الكلاسيكي لهما . هذا بالإضافة إلى ما حققته السياسة الأمريكية على الأرض فعلاً والذي يؤدي إلى النظر إلى موضوع الإنسحاب هذا والتواجد الجغرافي للجيوش بمنظار آخر أمر وارد جداً .

من خلال ما يقارب من التسع سنوات التي مرت على الإحتلال الذي أسقط نظام دكتاتورية البعث الذي جاء به القطار الأمريكي نفسه عام 1963 ، إتضح حتى لمن لا يفقه بعلم السياسة بأن السياسة الأمريكية قد تتخلى عن قواعدها العسكرية في العراق لأسباب تكتيكية، إلا ان إستراتيجيتها السياسية لا تسمح لها بالتخلي عن العراق سياسياً واقتصادياً وهذا ما تحقق من خلال توفر المعطيات التالية:

أولاً: لقد كانت القاعدة العسكرية الأمريكية في قطر تشكل ، قبل غزو العراق ، أكبر تواجد عسكري امريكي في الشرق الأوسط ، إن لم يكن في العالم اجمع .أما بعد الغزو فقد أصبحت هذه القاعدة بما جرى عليها من تحديث وتوسيع ليست نقطة إنطلاق للقوات الأمريكية المتواجدة عليها فقط ، بل ولتلك القوات التي إنسحبت من العراق لتتمركز في الكويت . وإذا ما أخذنا التطور العسكري اليوم من مختلف جوانبه بنظر الإعتبار، فإن قطر والكويت لا يشكلان بعداً جغرافياً يُذكر عن العراق الذي سيظل في متناول العسكرية الأمريكية في أي وقت تقرره هذه العسكرية .

ثانياً: السياسة الأمريكية باعتبارها تشكل القيادة العسكرية لحلف الناتو أصبح لها وجود مكثف ليس في المشرق العربي من خلال قطر والكويت فقط ، بل ان تدخل قوات الناتو في إسقاط دكتاتورية القذافي ودورها الذي أصبح ذو تأثير على العملية السياسية في ليبيا ، يجعل لهذا التأثير إمتداداً على المغرب العربي عموماً . وكحصيلة حاصل تصبح المنطقة العربية برمتها تحت تأثير السياسة العسكرية الأمريكية المباشرة وغير المباشرة .

ثالثاً: لقد مهدت السياسة الأمريكية في العراق لتدَخُل حلف الناتو الذي تقوده ، وبشكل غير مباشر في الشأن العراقي من خلال دخول تركيا كعضو في الناتو وحليف السياسة الأمريكية. إن الدور الذي تلعبه السياسة التركية في الوقت الحاضر في كثير من الدول العربية يشير بكل وضوح إلى دعم السياسة الأمريكية لهذا الدور . والدليل الذي لا يقبل الجدل على هذه القناعة هو تواصل الهجمات العسكرية التركية على القرى العراقية في كوردستان ، وكوردستان منطقة عراقية ، والعراق تحت الحماية الأمريكية ، فلماذا إذن لا تقوم السياسة الأمريكية بواجبها الدولي الذي يلزمها بالدفاع عن العراق ضد الهجمات العسكرية التي يتعرض لها من قبل القوات التركية ؟ إن ذلك يعني ان تركيا تلعب اليوم الدور الأمريكي في المنطقة وقد بدأت به بوجود القوات الأمريكية على ارض العراق وسوف تستمر به بعد خروج هذه القوات رسمياً منه . وهذا ما سيكون له دور في سياسة ملئ الفراغ الناشئ في العراق والذي تتصارع حوله ثلاث قوى رئيسية هي تركيا وإيران والسعودية . وهذا ما سنعود إليه لاحقاً .

رابعاً: وهنا يجب ان لا نتناسى الدور الأردني الذي لا تراهن عليه السياسة الأمريكية فقط ، بل والسياسة البريطانية في المنطقة ايضاً . لقد دلَّت على اهمية هذا الدور الزيارة الأخيرة التي قام بها ملك الأردن عبد الله الثاني إلى إنكلترا والذي دار فيها ضمن ما دار من الأحاديث موضوع ربط المنطقة الغربية العراقية بالمملكة الأردنية ، والله أعلم .

خامساً: لقد ترك الأمريكان في العراق أكبر سفارة لهم في العالم تضم أكبر طاقم " دبلوماسي " لهم في السفارة الأمريكية في بغداد مجهز بأحدث الوسائل المخابراتية والإعلامية والخبرات التي تشمل كافة المحاور التي تتبناها السياسة الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة .إن لتواجد كهذا على ارض العراق يطرح السؤال المتعلق بأهمية او عدم أهمية وجود قوة عسكرية امريكية واضحة المعالم على ارض العراق مباشرة .

سادساً: لقد ادى الإنحياز الأمريكي الكامل إلى جانب السياسة التركية في العراق إلى خسارة القيادة السياسية الكوردية في كوردستان العراق لرهانها على الصداقة الأمريكية التي كانت تعول عليها لما يمكن له ان يتطور في مستقبل كوردستان العراق بحيث اصبحت هذه القيادة مجبرة على التنسيق مع السياسة التركية التي اصبحت تشكل الضمان الأساسي لوجود أو عدم وجود إقليم كوردستان ضمن جمهورية العراق . كما ترتب على ذلك إنتهاج القيادة السياسية في كوردستان الجنوبية سبيل التعاون والتنسيق مع العسكرية التركية لقمع الحركة التحررية للثورة الكوردية في كوردستان الشمالية . وبذلك تحقق واحداً من اهداف السياسة الأمريكية المعادية للثورات الجماهيرية التقدمية ، والثورة الكوردية في كوردستان الشمالية واحدة منها .

هذه بعض المؤشرات التي تقود إلى تقييم السياسة الأمريكية المستقبلية في العراق إستناداً إلى ما حققه غزو العراق بالرغم من الخسائر البشرية والإقتصادية الكثيرة التي تحملتها الولايات المتحدة الأمريكية من جراء ذلك . فالربح والخسارة بالنسبة لمفهوم الرأسمالية العالمية التي تقودها السياسة الأمريكية اليوم لا ينظر إلى ما فقدته هذه السياسة ، بل إلى ما ستجنيه إقتصادياً من كل ذلك في المستقبل .

وضمن ما يتعلق بموضوع جلاء القوات الأمريكية من العراق ومدى تأثير ذلك على مجمل العملية السياسية فيه سلباً أو إيجاباً يندرج موضوع ملئ الفراغ العسكري الذي سيخلفه هذا الإنسحاب والتداعيات السياسية التي قد تنشأ عن ذلك .

مسألة ملئ الفراغ هذه لا تتعلق بإنسحاب القوات الأمريكية بشكل رئيسي بقدر تعلقها بنوعية وماهية وقدرة السياسة العراقية التي ستمارسها القوى السياسية الحاكمة الآن . لا توجد دولة في العالم لا تنظر إلى مصالحها الآنية والمستقبلية وسلوك افضل الطرق لتحقيقها . ولا تشذ دول المنطقة المحيطة منها بالعراق او التي لا تحادده عن هذه القاعدة .فالصراع بين تركيا وإيران على إقتسام الكعكة العراقية بدى يتبلور منذ سنين طويلة ، يُسَخِر فيها كل منهما إمكانياته المختلفة لتحقيق هذا الهدف . ودول الخليج ، خاصة تلك الحاقدة منها على العراق حكومة وشعباً كالكويت مثلاً ، لم تترك مجالاً إلا وتصب فيه نار حقدها على العراق. والنظام السعودي ونظام البعث في سوريا سبق وان تعرف الشعب العراقي على مساعيهما الإجرامية في قتل الشعب العراقي وإجهاض تجربته التي بدأ حكام هذه الأنظمة الهزيلة يرتجفون من إمكانية نجاحها لتطيح بعروشهم وكروشهم . هذا على نطاق الدول التي ضمت إلى جانبها ليبيا القذافي المقبور ويمن علي عبد الله صالح المدحور. اما على الصعيد المحلي فإن ملئ الفراغ هذا ستواجهه العصابات والمليشيات والمنظمات العسكرية التي لا زالت ترفض ان يكون السلاح بيد الدولة فقط . فهي تنتظر الإشارة من مموليها وآمريها في السعودية وإيران للتحرك والإنتشار على هذه البقعة من العراق او تلك ، حسب ما تمليه عليها هذه القوى المساندة والمؤسسة والممولة لها ، وفي الوقت الذي تراه مناسباً لذلك. فمختصر القول إذن هو ان ملئ الفراغ الذي ستتركه القوات الأمريكية المنسحبة يعتمد على وجود حكومة قوية تستطيع توجيه سياسة ملئ الفراغ ، التي يريد ان يمارسها الغير في غير مصلحة العراق ، ضمن سياقات معينة تثبت فيها هذه الحكومة بثقلها الجماهيري وبقدرتها السياسية والعسكرية والإقتصادية بانها اهل لقيادة هذا البلد وحمايته وتحقيق مصالح اهله . فهل ان حكومة لعبت فيها المحاصصات السياسية والشراكات الوزارية التي تبلورت عنها تقاسم خيرات البلد وثرواته بين لصوص ومزورين وإرهابيين ، حكومة تعتاش أحزابها على الإحتراب الطائفي والتخندق العشائري والتعصب القومي والتحيز المناطقي ، حكومة باعت الهوية العراقية ووزعت على العراقيين ، شاءوا ام ابوا ، هويات الدين والمذهب والعشيرة ، حكومة يعيش منتسبو أحزابها الحاكمة من نواب ووزراء في بذخ وترف لم يعرفه معظمهم قبل سقوط دكتاتورية البعث ، في الوقت الذي يظل فيه الفقراء الكثيرون في هذا البلد الغني بكل شيئ لا يجدون ما يسد رمق أطفالهم ، وغير ذلك الكثير من مآسي أحزاب تسلقت على الدين لتلغي كل المبادئ القيمة التي جاء بها الدين في العدل والمساواة. فهل إن حكومة كهذه قادرة حقاً على امر مثل هذا ؟

إن ما يلجأ إليه البعض من الإهتمام بالصراع اليومي بين الحزبين الرئيسين الأمريكيين الجمهوري والديمقراطي وجعل هذا الصراع السياسي بين الأحزاب التي تتنافس على السلطة وكأنه خلاف على إستراتيجية السياسة الأمريكية ، لا يعطي مثل هذه السياسة الأهمية القصوى التي تسير بمجملها آلة الإدارة الأمريكية وتوجيه مصالحها البعيدة المدى.

ليس هناك أدنى شك بمعاناة الإقتصاد الأمريكي من إنتكاسات خطيرة وضعت السياسة الأمريكية سواءً الحاكمة منها او التي خارج الحكم في مآزق حرجة داخلياً وعالمياً . إلا اننا لاحظنا في نفس الوقت إستمرار هذه السياسة بتبني ذات الأهداف الإستراتيجية الأمريكية سواءً كان الجمهوريون او الديمقراطيون هم الموجهون الأساسيون لهذه السياسة . إنها سياسة تخطط لها وتتحكم فيها وتنفذها المؤسسات بالدرجة الأولى وليست الأحزاب الحاكمة ، وبذلك تظل إستراتيجيتها ثابتة بغض النظر عن الحزب الحاكم . إنها سياسة السيطرة والتحكم بمصير الشعوب وبالتالي بمصير العالم أجمع ليس من خلال القوة العسكرية ، التي أصبحت اليوم ثانوية فعلاً ، بل من خلال التحكم الإقتصادي والهيمنة السياسية التي كانت ولا زالت تشكل الثوابت الأساسية للسياسة الأمريكية .

 

 



 

free web counter