| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. صادق أطيمش

 

 

 

                                                                                     السبت 11/8/ 2012



الشعب الذي لا يثور

د. صادق إطيمش 

توقفت كثيراً عند رسالة بعث بها " واحد عمره ما كتب مقال " إلى السيد رئيس وزراء العراق يطمئنه فيها بان عدوى الثورات الشعبية سوف لن تصل الشعب العراقي وبالتالي فإنه سوف لن يثور عليك يا رئيس الوزراء . وقد ذكر صاحب الرسالة في رسالته هذه اموراً كثيرة وكثيرة جداً كان من الممكن ان يؤجج واحد منها فقط لهيب ثورة عارمة لا تبقي ولا تذر وذلك بسبب تعلق هذه الأمور بحياة الناس في العراق تعلقاً يقرر مدى آدمية وإنسانية هذه الحياة بالنسبة للفرد العراقي . وقد دلت جميع الأمور التي ذكرها صاحب الرسالة والتي نوه بها ولم يذكرها تفصيلاً حيث كتمها ولم يتطرق إليها إلا بقوله " انا اعتذر منك ومن الشعب فلم اذكر كل الاسباب التي تجعل الشعب لا يثور عليك.

ولكن الحمد لله انا وانت والشعب نعرفها، أعلم ان في جعبتك المزيد ستقدمه لشعبك، واكررها إطمئن لن يحصل شيء ولن يثور الشعب"
إذ نوهت وأشارت هذه الأمور إلى ان حياة العراقيين اليوم لا تحظى بتلك المواصفات التي ينبغي لها ان تتوفر في حياة مواطن يعيش على أرض أغنى بلد في العالم ثلث سكانه يعيش تحت مستوى خط الفقر وثلثه الآخر قد تجاوز عتبة الفقر بقليل وثلثه الثالث يتموج متقلباً بين مَن يدبر امور حياته بهذا الشكل او ذاك سواءً من خلال الراتب الحكومي او من القطاع  الخاص الذي يتقاضاه الموظف او العامل دون مصادر أخرى ، وهذه هي القلة القليلة من هذا الثلث الأخير . اما كثرته الكاثرة فهي التي تتقاضى الرواتب الضخمة سواءً عن وجه حق او كفاءة ، او بدونهما معاً ، إذ لا احد يعلم بكنه موجبات هذه الرواتب الخيالية التي تتقاضاها الطبقة ، نعم نستطيع ان نقول الطبقة ، الحاكمة وهذا الحكم لا يشمل الحكومة ومؤسساتها فقط ، بل يشمل ايضاً تلك التي تنأى بنفسها عن منصة حكم الدولة ،إلا انها تتحكم بهذه الدولة ومؤسساتها بالسر والعلن وعن قرب او بعد ، دون ان يراودها الخجل ، إذا لم نقل الخوف ، من ممارساتها التي اوصلتها إلى حياة الترف التي لم يكن يتصورها أكثر منتسبي هذه الطبقة حتى ولا في اسعد احلامهم حينما كانوا قبل عشر سنوات لا يملكون شروى نقير . لذلك فإن صاحب الرسالة أشار إلى السيد رئيس الوزراء بعدم تنفيذ قراره بتخفيض راتبه الغير مُعْلَن عنه ، كما جاء في الرسالة، فالشعب العراقي لن يثور حتى وإن إستمر السيد رئيس الوزراء باستلام راتبه دون التخفيض . أي ان صاحب الرسالة لم يجعل من الرواتب العالية ، بل الضخمة ، التي يتقاضاها البعض دون وجه حق او دون كفاءة ، سبباً لقيام ثورة يمكن ان تقوم بها شعوب أخرى لو حدثت هذه الظاهرة على ساحتها السياسية . إلا ان الشعب العراقي تجاوز هذا الأمر وذلك لإنشغاله بما هو أعظم . وهذا الأعظم فصَّله صاحب الرسالة تحت بنود وفقرات يتعالى كل منها منفرداً في عظمته وجبروته على الأعظم الأخر متباهياً بأنه وحده يمكن ان يكون سبباً بإشعال ثورة عارمة ، ولكن لدى الشعوب الأخرى ، وليس لدى الشعب العراقي.

في هذه الرسالة أحصيت العشرات من الكبائر التي تُرتَكَب يومياً بحق الشعب العراقي والتي يعيشها العراقيون منذ عشر سنوات تحت ظروف كان هذا الشعب يأمل منها ان تكون بديلاً حقيقياً عما عاشه وعاناه تحت ظروف القمع البعثفاشي . إلا ان هذا الأمل يتبدد ولا يتجدد يوماً بعد يوم . فالسرقات في كافة مؤسسات الدولة ، دون إستثناء ، في زيادة مطَّرَدة كماً ونوعاً وتتناسب تناسباً طردياً مع منتسبي هذه المؤسسات من المُبسملين والمحوقلين وأكثر طردية مع محابسهم الفضية وجباههم المكوية ، وهذا إن دل على شيئ فإنما يدل على الفهم الجديد المتطور للتدين الذي ينطلق من الحكمة القائلة " خير السرقة عاجلها ، فما تستطيع ان تسرقه اليوم لا تؤجله إلى غدٍ " . أو تيمناً بقول عمر الخيام " غدٌ بظهر الغيب واليوم لي " . بالرغم من تكفير هؤلاء لعمر الخيام .

والشعب العراقي يعيش حالة تنويمة الجياع ليداعب احلامه بين اليقظة والمنام ذلك النسيم العليل التي تنفثه نحوه مكيفات الهواء المنتشرة في كل زاوية من بيته ، ولا غرابة في ذلك فإنه يسكن في اغنى بلد في العالم ، وسرعان ما يكتشف إن هذا الحلم بالنسيم العليل ما هو إلا عرقه المتصبب الذي يمتزج بعدئذ مع دموع نحيبه على موت الكهرباء موتاً سريرياً تركته في حيرة من امره ، فلا هي ميتتة فتُنعى ولا حية فتُرجى . فيستمر في سكونه ونحيبه هذا دون ان يتجسد لديه مفهوم الثورة كردة فعل على ظلم أو إستجابة لصرخة إهمال او تهميش.

ويستمر نحيب الشعب العراقي وبدون ثورة ايضاً ، وكما ترويه الرسالة المطمئِنة إلى السيد رئيس الوزراء حينما يرى برلمانييه الذين إنتخبهم لا ليسرقوه بل ليرفهوه ، وهم يشتركون في هذه السرقات ليلاً ونهاراً وفي اوقات تتجاوز الكثير الكثير اوقات الصلاة التي يقيمونها النواب الأفذاذ ، ذوي عمائم كانوا او افندية ، لا بل يتجاوز ايضاً كل اوقات الزيارات المليونية وإقامة ما يسمونه بالشعائر الدينية التي لم تسلم هي الأخرى من تجارة اللصوص والمنتفعين حتى اصبح تعطيل دوائر الدولة لأسابيع عدة وإيقاف العمل في مؤسساتها المختلفة في مثل هذه المناسبات ضالة تجار السياسة الجدد في العراق الجديد ، في الوقت الذي ينبغي ان تكون هذه المناسبات حافزاً للإلتصاق بالمثل العليا والإخلاص في العمل والصدق في أداء الواجبات من قبل هؤلاء النواب الذين طالما يكررون إنتماءهم إلى أصحاب هذه المناسبات .

ويظل الشعب العراقي يمارس الشكوى وليس الثورة ، وكما تقول الرسالة الموَجَهة إلى السيد رئيس الوزراء حينما " يُقتل منه بالعشرات والمئات يومياً بمفخخات الإرهاب الذي يسرح ويمرح بفضل سيطراتك المحكمة " فيكتفي بالنواح ولا يثور .

وتستمر الرسالة في ذكر العشرات الأخرى من مبررات الثورة التي يعرفها الشعب العراقي جميعاً في مجالات الخدمات والعمل والسياسة الداخلية والخارجية وانتشار العصابات والمافيات الوزارية والبرلمانية في سوق المولدات الكهربائية والصناعات النفطية والمقاولات المليارديرية  والمليشيات الطائفية والإصطفافات المشبوهة حزبياً وعشائرياً وقومياً ومناطقياً وتناحرات حزبية اصبحت تعكس مسرحية هزلية اكثر منها عملية سياسية والكثير الكثير الذي يمكن الإطلاع عليه من محتوى هذه الرسالة . هذه الأمور التي يقف منها الشعب العراقي ، كما يعبر عن ذلك صاحب الرسالة ، موقف المتفرج المنتحب وليس الثائر المنتفض .

ردة فعل الشعب العراقي هذه التي يصفها كاتب الرسالة التي يطمئن فيها السيد رئيس الوزراء ببعد شبح الثورة تذكرني بحادثة حدثت في العهد الملكي البائد . فمن المعروف في ذلك العهد الأسود ، الذي يحاول البعض تبييض وجهه القبيح اليوم وهم ينظرون إلى إسوداد أكثر عمقاً في وجه النظام الحالي ، دون ان يفتشوا بين ثنايا التاريخ  عن مسببات السواد هنا وهناك ، وما الفرق بين سواد اليوم وسواد الأمس ، وهذا ليس موضوع حديثنا الآن ، أن الإقطاع في ذلك العهد الملكي كانت له اليد الطولى بالتحكم بوضع الفلاحين وذلك من خلال العرف العشائري الذي وضعه الإقطاع لنفسه في تلك الفترة من تاريخ العراق ومن خلال القوانين الرسمية التي وضعها النظام لخدمة هذا العرف وسهولة تطبيقه وترسيخه .  ومن اهم هذه القوانين هو قانون دعاوى العشائر الذي يستعيد انفاسه اليوم ولو بشكل غير رسمي . لقد عامل الإقطاع في العهد الملكي الفلاحين معاملة السيد للعبد في عهد العبودية . وحينما إستطاع بعض الإقطاعيين من إقامة دعوى قضائية على مجموعة من فلاحية لزجهم في السجن والتخلص منهم ، أُحيل هؤلاء الفلاحون إلى المحاكم فعلاً ومثلوا امام الحاكم لإصدار الحكم عليهم . وبما ان ذلك العهد الدكتاتوري يتبجح بديمقراطيته دوماً فقد سمح لأحد المحاميين الوطنيين بأن يتطوع للدفاع عن الفلاحين . وفي يوم المحاكمة وقف الفلاحون في قفص الإتهام وبدأت الجلسة وسُمح للمحامي بإلقاء دفاعه . وبدأ المحامي بتعداد المآسي التي يتعرض لها الفلاحون من قبل هذا الإقطاعي الذي ألصق بهم التهم المختلفة وكيف كان يعاملهم ويستغلهم ويحرمهم من حصصهم في المحاصيل الزراعية ويعتدي على كراماتهم وعوائلهم والكثير الكثير مما كان يلاقيه الفلاحون من الإقطاع . وأثناء إلقاء المحامي لدفاعه شاهد الحاكم احد الفلاحين وهو يبكي وينتحب ، وأخذ نحيبه يزداد ونشيجه يرتفع كلما إستمر المحامي بإلقاء دفاعه وذَكَرَ المآسي التي يعيشها الفلاحون . وهنا اوقف الحاكم المحامي واستدار نحو الفلاح وسأله : لماذا تبكي ... إن هذا المحامي يدافع عنك ؟؟؟ فأجابه الفلاح : سيدي كل هذا صاير بيه وآنه ما ادري ...

والشعب العراقي يدري " إشصاير بيه ... وشراح يصير بيه بالمستقبل " إذا إستمر فقط على النحيب ولم يزح كل مَن ساء ويسيئ إليه من مراكز القرار ، فقد خبرهم جميعاً خلال هذه السنين العشر ولُدِغَ من جحورهم أكثر من مرة ، فهل مَن يعتبر ذلك ... وانتخابات مجالس المحافظات على الأبواب ؟؟؟

free web counter