| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. صادق أطيمش

 

 

 

الخميس 11/9/ 2008

 

 دعوات غير مسؤولة لإخلاء العراق من مواطنيه ألأصليين

د. صادق إطيمش

نشرت الصحيفة ألألمانية " DIE WELT " على مومقعها الألكتروني " WELTONLINE" بتاريخ 10.09.2008 مقابلة مع الأسقف Julius Hanna Aydin ، تحت عنوان " المسيحيون العراقيون يفيدون ألمانيا " جاء فيها الكثير من المغالطات والتناقضات ، إضافة إلى الإساءة إلى مشاعر المسيحيين العراقيين بشكل خاص والمسيحيين الشرقيين على العموم .

لقد إنطلق سيادة الأسقف الذي يترأس الكنيسة السورية الأرثوذوكس في المانيا من فكرة إمكانية إحياء النهضة المسيحية مجدداً من خلال فتح أبواب ألمانيا لإستقبال المسيحيين العراقيين من الطائفة الآرامية كلاجئين يُغنون ألمانيا وينهضون بالفكر المسيحي الشرقي في أوربا .

كان السؤال الأول الذي وجهه المُحاوِر Till Reimer Stoldt إلى سيادة الأسقف كما يلي:

سيادة الأسقف : تتحدث وزارة الداخلية ألألمانية عن 6000 إلى 30000 لاجئين مسيحيين من العراق من الممكن ان تستقبلهم ألمانيا . أنتم تحاولون أن تقنعوا الحكومة ألألمانية باستقبال أكبر عدد ممكن منهم . لماذا ؟

الأسقف : لأن ألمانيا ستستفيد من المسيحيين العراقيين . بالإضافة إلى ذلك لا يستطيع هؤلاء البقاء في الشرق . في العراق هم مهددون بخطر القتل من الإسلاميين الذين يريدون " تنظيف " بلادهم من المسيحيين . وفي الدول العربية المجاورة يعيش اللاجئون في فقر لا يُحتمل ،والذي لا يُنتظر تغييره على المدى القريب ، في سوريا والأردن تتجه الأرامل حتى إلى البغاء لإعالة أطفالهن .

الجواب الأول هذا وحده يحتوي على كثير من المغالطات التي جاء بها سيادة الأسقف والتي اراد من وراءها كسب عطف الجانب الألماني إلى جانب المسيحيين العراقيين والعطف عليهم بقبولهم كلاجئيين لدى الحكومة الألمانية . فيما يتعلق بالفقرة الأولى من جوابه التي ذكر فيها بأن ألمانيا ستستفيد من المسيحيين العراقيين ، سنتناولها بالتعليق مؤخراً . أما الفقرة الثانية التي بدأ السيد الأسقف يتخبط بها بين العراق والشرق فقد ذكر بأن المسيحيين مهددون بخطر القتل من الإسلامين الذين يريدون تنظيف بلادهم من المسيحيين . الظاهر ان سيادة ألأسقف لا علم له بما يدور منذ أكثر من خمس سنوات في البلد الذي يتحدث عن مسيحييه الذين يشكلون سكانه الأصليين . فالإرهاب الذي تعرض له هذا البلد ، سيدي الأسقف ، هو إرهاب أعمى لم يفرق بين مسلم ومسيحي وصابئي وأيزيدي وكلدوآشوري وشبكي ولا بين عربي وكوردي وتركماني ولا بين رجل وإمرأة او بين طفل رضيع وصبي يافع أو شاب او شيخ ولا بين أمي وعالم أو بين مثقف وجاهل . ضحايا الإرهاب البعثفاشي الإسلاموي التكفيري القومي العروبي الشوفيني هم من جميع أطياف الشعب العراقي الذي حاولت الملايين منه الفرار إلى خارج هذا الوطن الذي لم تفارقه إلا على المرارة ولم تتخل عنه حتى تحت اعتى الظروف التي مرت بها وهي بعيدة عنه . هذا الإرهاب الذي إتخذ من الدين الإسلامي ستاراً له لتبرير جرائمه ، قتلَ وهَجر وشرد واختطف من المسلمين أنفسهم آلافاً لا لذنب إقترفوه ، بل لأنهم ليسوا من العاملين مع هذه العصابات التي عبدّت الطريق لجرائمها تلك السياسة الطائفية الهوجاء لإحزاب الإسلام السياسي التي جعلت البلد مشلولاً أمام هذا المد التكفيري الرجعي ألأسود . فإن كانت هذه العصابات المجرمة لا تتوقف عن ارتكاب جرائمها بحق من يشاركهم هذا الدين الذين يدّعون إعتناقه ، فكيف بها مع من لا ينتمي إلى دينها أصلاً . والمجازر التي نفذتها هذه العصابات بحق ألأيزيديين والصابئة والشبك إضافة إلى المسيحيين شاهدة على ذلك كله . فلو تفضل سيادة ألأسقف وناشد الحكومة الألمانية والعالم كله على تطبيق روح الرسالة المسيحية الداعية إلى المحبة بين البشر ومساعدة هؤلاء البشر المُضطهَدين من قبل عصابات التعصب الديني الإسلاموي على التخلص من هذا الوباء في أوطانهم ، لا حث الناس على ترك موطن الآباء والأجداد وتفريغه من سكانه ألأصليين لينتصر الإرهاب الذي سوف لن يتوقف عند العراق . أما ان تكون حياة اللاجئين العراقيين في سوريا والأردن حياة الفقر الذي لا يُحتمل ، فهذه حقيقة واقعة ، أحسن السيد الأسقف التعبير عنها حينما تكلم عن اللاجئين عموماً وليس عن المسيحيين فقط . فحالة هؤلاء تدعو بالفعل إلى طلب العون والمساعدة من دول العالم الأخرى كي يعود هؤلاء إلى أوطانهم ومحلات عملهم وبيوتهم التي هجروها على مضض ، وليس العمل على إستمرار تشردهم في المنافي .

أما السؤال الثاني الذي إستفسر فيه المحاور عن الفائدة الي سيقدمها هؤلاء إلى ألمانيا ، التي برر بها السيد ألأسقف دعوته هذه فإن جواب سيادة ألأسقف عليه يدعو إلى الشفقة على الفكر الذي يحمله رجل بهذه المنزلة التي تضعه على رأس طائفة مسيحية بكاملها ، أكثر مما يدعو إلى المناقشة العلمية . إلا أننا سنناقش هذه الأفكار مع كل ذلك . لقد أجاب السيد ألأسقف على هذا السؤال قائلاً : أولاً إن هذه العوائل هي عوائل شابة وكثيرة ألأطفال ، وهذا ما يمكن ان تحتاج إليه الدول الأوربية . وثانياً فإنهم سوف لن ياتوا بمشكلة الهوية أو الإخلاص ، حيث ان مسألة ألإنتماء غير مطروحة بالنسبة للمسيحيين الشرقيين . أطفال الآراميين الذين هاجروا من تركيا في الستينات والسبعينات يشعرون الآن جميعاً بانهم ألمان، لقد ذابوا في المجتمع.

إن الشق ألأول من جواب السيد الأسقف ينطلق ، مع ألأسف الشديد ، من الفرضية الإقتصادية التي تسعى للحصول على الأيدي العاملة الشابة والرخيصة في نفس الوقت وذلك للنهوض والإستمرار في العملية الإنتاجية السائدة اليوم في أوربا والتي هي محط إنتقاد المؤسسات الأوربية الكنسية نفسها التي تصفها بأنها تسير نحو ألإخلال أكثر فأكثر بمبادئ الفكر المسيحي الداعية إلى العدالة الإجتماعية وعلى نشر المحبة والإلفة في المجتمع وليس الأنانية في مجتمع يسود فيه الصراع على وسائل الإثراء وتزداد فيه المسافات بين الفقر والغنى . إن سيادة الأسقف يريد أن يقدم هذه " البضاعة البشرية " الرخيصة والشابة لتلتهمها الماكنة الإقتصادية مدعياً سيادته سهولة مثل هذا الإلتهام حيث أن هؤلاء المسيحيين لا يعانون من التمسك بهوية الإنتماء ، والمقصود هنا حسب المصطلح الألماني المستعمل هو الإنتماء إلى الوطن . وهذه هي الفائدة التي ستجنيها ألمانيا وأوربا منهم ، كما ذكر ذلك سيادته اعلاه .

لا ادري في أي قرن يعيش سيادة الأسقف الذي يسمح لنفسه ومن موقعه هذا بإهانة المسيحيين عامة والمسيحيين العراقيين خاصة حينما يجردهم من الشعور بالإنتماء الوطني ويلغي إرتباطهم بأرض آبائهم وأجدادهم التي وُجدوا عليها قبل ان تطأها ألأقوام المختلفة ألأخرى . لقد اصابني هذا القول شخصياً بالصميم قبل ان يصيب اي مسيحي آخر، واعتبره إهانة لكل عراقي وليس للمسيحيين العراقيين بشكل خاص ومسيحيي الشرق عموماً . لذلك فإنني اجد في الرد الوافي على مثل هذه الأقاويل والإتهامات سبيلاً لتعريتها ومساعداً على عدم الإنزلاق بها من قبل الآخرين الذين يجهلون او يتجاهلون تاريخ العراق وشعوبه المختلفة منذ أن طلعت بلاد الرافدين على الدنيا وحتى يومنا هذا .

لدي الكثير الكثير ما اقوله حول ذلك يا سيادة القس ، إلا انني لا اريد ألإطالة تجنباً لملل القارءات والقراء ، خاصة اولئك الذين لا يرغبون الخوض في بحور التاريخ . وانصح السيد القس بالرجوع إلى كتب التاريخ ، إن يكن يجهلها حقاً ، للوقوف على حقيقة وجود المسيحيين في العراق ومدى إرتباطهم بهذا الوطن ، ناهيك عن المسيحيين في البلاد العربية الأخرى التي لعب فيها المسيحيون الدور القيادي في الميادين السياسية والتربوية التعليمية والصحية ، لا بل وحتى الإقتصادية في كثير من الأحيان . فالمسيحيون الفلسطينيون مثلاً تزعموا النضال الوطني الفلسطيني منذ الغزو الصليبي الذي عرف كنهه المسيحيون الفلسطينيون على أنه لا علاقة له بالدين المسيحي بالرغم من إتكاءه عليه ، تماماً كما يفعل تجار الإسلام السياسي اليوم حينما يبررون جرائمهم بحق الآخرين باتكائهم على الدين الإسلامي . ولا زال هؤلاء المسيحيون الفلسطينيون اليوم في مقدمة صفوف النضال الوطني ضد الغزو الصهيوني الجديد لبلادهم حيث قدموا آلاف الضحايا على هذا الطريق . وها هم المسيحيون اللبنانيون الذين لم يتنازلوا عن هويتهم الوطنية وعن أرض آباءهم وأجدادهم رغم كل المآسي والحروب والإقتتال الذي تعرضت له هذه الأرض . وها هم الأقباط المصريون الذين لم تفل عزيمة وطنيتهم والتصاقهم بوطنهم مصر كل التصرفات الهمجية التي يلقونها من متأسلمي الجاهلية الجديدة واعمالهم المشينة التي تعرضت لها دور عبادة الأقباط ، سكنة مصر الأصليين. أما في العراق فهناك إجماع تاريخي شبه عام يؤكد على بدء إنتشار المسيحية في العراق في العقود الأولى لظهورها ومنذ ذلك الوقت والعراق مدين لكثير من المنظمات والفرق والطوائف المسيحية على إختلافها بوجود الكثير من المؤسسات الصحية والتعليمية. حيث أسس الدومنيكان مثلاً اول المعاهد الدراسية في العراق بدءً من المدارس الإبتدائية وحتى المعاهد العالية مؤخراً . وقد إستوجب كل ذلك الإهتمام بنشر المعرفة والعلوم من خلال دور النشر والطباعة التي كان للمسيحيين قصب السبق فيها . كما ان المؤسسات الصحية والمستشفيات والمستوصفات التي أسستها الطوائف المسيحية المختلفة في العراق لا يمكن التنكر لها حتى من قبل ابسط الناس إطلاعاً على ذلك . أما تاريخ العراق الحديث فإنه لا يمكن ان يتجاهل ألأسماء اللامعة من المسيحيين العراقيين التي رافقت الوجود الحديث لهذا البلد وساهمت مساهمة كبرى في تطوره . فعالم اللغة يوسف داوود والمؤرخ هرمز رسام والفنان المسرحي نعوم سحار والرياضيون عمو بابا وجورجيس إسماعيل ، وبالمناسبة فإن عمو بابا قد عُرِض عليه اللجوء إلى دولة أوربية فرفض ان يغادر وطنه العراق ، بالرغم من تعرضه لمطاردات الأوباش من عصابات الإسلام السياسي ، وهو في هذا العمر المتقدم. كل هذه الأسماء اللامعة والأسماء الأخرى التي لا تقل عنها لمعاناً وشهرة والتي قدمت كل ما لديها حتى أرواحها في سبيل القضية الوطنية العراقية ، وتاريخ الحركة الوطنية العراقية ، وخاصة اليسارية منها ، يشهد على ذلك ، كما تشهد عليه سوح النضال الوطني العراقي التي سالت عليها دماء العراقيين جميعاً والمسيحيين في مقدمتهم . هذا إضافة إلى الكثير الكثير ما يربط المسيحيين العراقيين بوطنهم ( وللمزيد في ذلك لا بأس من مراجعة الكتاب القيم للباحث الدكتور رشيد الخيون المعنون " ألأديان والمذاهب بالعراق ، من منشورات دار الجمل ). ثم يأتي السيد ألأسقف ليجردهم عن الشعور بالمواطنة هكذا بكل سهولة ، وكأن هذا التاريخ العميق الجذور في ارض العراق لا قيمة له في أفكارهم ولا علاقة له بمشاعرهم . إتق الله يا سيدي الأسقف وادعوا إلى ألإلفة والمحبة بين الناس كي يساعد بعضهم بعضاً على تجاوز هذه المحنة ، وليس على إقتلاعهم من هذه الجذور التي يصعب إقتلاعها فعلاً . ثم انك تخالف رسالة السيد المسيح ، يا سيدي ألأسقف، حينما تدعو إلى قبول المسيحيين الآراميين فقط ، اما المسيحيون الآخرون فلا يهمك شأنهم . فأين هذا من رسالة المسيح....؟ إلا ان من يقرأ أجوبة السيد ألأسقف لتبرير هذه الدعوة فإنه سيجد السبب ألأساسي لذلك والذي لخصه سيادته بقوله : نحن نحتاج بشكل مستعجل جداً إلى تقوية مجموعتنا الكنسية التي تؤدي عباداتها باللغة الآرامية , لغة السيد المسيح ، لذلك فإننا نحتاج إلى المسيحيين العراقيين الآراميين ، وإلا فإن هذه المجموعة التي تتناقص هنا ستختفي . وهذا ما يذكرني بالفكرة الصهيونية التي نفذتها حكومات العهد الملكي بالعراق بالتعاون مع الحكومة البريطانية بتهجير اليهود العراقيين إلى إسرائيل عنوة وذلك لإيجاد شعب لدولة بدون شعب . فالسيد ألأسقف يخاف على إستمرار وجود كنيسته هو بالذات هذا الوجود الذي يترتب عليه وجود منصبه حينما يدعو إلى قبول المسيحيين الآراميين كلاجئين في ألمانيا ، أما الباقون من البشر المسيحيين وغير المسيحيين فلا شأن له بهم .

سيدي الأسقف : دعوتك هذه خطرة جداً وتقود إلى إخلاء العراق من سكنته الأصليين ومن مواطنيه الذين ضحوا بكل شيئ من أجله عبر تاريخهم الطويل فيه. كما ان إنتقاصك من وطنيتهم وتأكيدك على عدم معاناتهم من مشكلة الإنتماء أمر يتطلب إعتذارك منهم ومن العراقيين كافة الذين يرتبطون بابناء وطنهم المسيحيين بهوية هذا الوطن الذي لا يريدون بديلاً عنه ، حتى وإن هاجروه تحت هذه الظروف التي لن تدوم . كما ندعوك إلى سحب هذه الإتهامات من ألأقوال التي ادليت بها إلى المجلة أعلاه ، وبذلك تكون قد أنصفت نفسك قبل أن تُنصف الآخرين.


سيتم أرسال نسخة مترجمة إلى الألمانية من هذه الرسالة إلى المجلة التي نشرت المقابلة أعلاه ، عملاً بحرية الحوار .



 

free web counter