موقع الناس http://al-nnas.com/
ما بعد الجعفري !
سهر العامري
الخميس 6 /4/ 2006
في البلدان العربية كثير ما يفزع الحكام للشارع طلبا
للنجدة ، ذلك حين يضيق عليهم الخناق ، وحين يلوح خطر محيق بهم وبسلطتهم ، خطر قادم
ممن أوصلهم الى سدة الحكم ، وأجلسهم على كرسيه ، وهذه القاعدة ، قاعدة لجوء الحاكم
الى الشارع ، صارت مطردة في في أغلب البلدان العربية ، وصار حاكم هذا البلد يتعلمها
من بلد آخر ، أو يتعلمها من حكام سبقوه للكرسي ذاته ، رغم أنه كان لوقت قريب معارضا
لسياساتهم ، لكن لا ضير عنده في أن يقوم هو بإخراج تمثيلية كتلك التي سبقه إليها
غيره من أولي الحكومة والحكم ، ومسرح هذه التمثيلية هو الشوارع دائما ، وكل
الممثلين فيها هم من الناس الفقراء ، أو من المغلوب على أمرهم ، أو من أولئك الذين
يرددون الهتافات ، ولا يفقهون ما يقولون !
ويحضرني هنا مثال عن حادث طريف وقع أمامي ، وذلك حين خرج الناس في مدينتنا ذات صباح
في تظاهرة ، وبتحريض من حزب البعث الحاكم ، وقد كان جل المشاركين فيها من فقراء
الناس المجبولين على الخروج بهذا الدافع أو ذاك ، وكان من بين الخارجين زميل طفولة
لي ، كان هتاف مظاهرات منذ قيام ثورة الرابع عشر من تموز في العراق ، وكثير ما كان
يهتف وقتها بسقوط حزب البعث ، وذلك حين يعتلى أعناق المتظاهرين ، صائحا بكل ما أوتي
من قوة : ألا فليسقط حزب البعث العربي الاشتراكي ! لكنه اليوم يخرج في مظاهرة
ينظمها حزب البعث الذي عاد ، وحكم العراق من جديد ، ولما عرف عن زميلي ذاك أنه من
الهتافين في المظاهرات ، صاح كالعادة بأعلى صوته : ألا فليسقط حزب البعث العربي
الاشتراكي ! وهو ذات الهتاف الذي كان يهتف به في عهد لم يكن لحزب البعث فيه سلطة في
العراق ، ونسى أنه يسير اليوم في مظاهرة يرعاها حزب البعث نفسه الذي يهتف هو بسقوطه
، وأمام المئات من المتظاهرين ، ولهذا صاح به مسؤول منظمة الحزب ذاك ، والذي كان
يسير في جانب من المظاهرة ، وبخبث واضح ، قائلا :
ـ مالك ! ألم تتناول أنت طعام الفطور بعد ؟
رد عليه ، عُبيد ، وكان هذا اسمه : نحن لم نعرف من الأمر شيئا ، في الأمس كان يسقط
، وفي اليوم يعيش ! ويعني هو بهذا الذي يسقط ويعيش هنا حزب البعث .
ولعمري أن تمثيلية المظاهرات هذه ، لو كانت تدفع شرا عن أحد لدفعت عن صدام قضاء
الأمريكان الذي انقضّ عليه من البر والبحر والسماء في وقت واحد ، وألجأه الى حفرة
في الأرض ، لكن إبراهيم الاشيقر ، الملقب بالجعفري ، عاد ولعبها من جديد ، وبذات
الإخراج ، وبنفس الممثلين ، وعلى خشبة المسرح ذاتها ، فقد حمل فقراء الشيعة في
مدينة الثورة من بغداد ، وفي بعض المدن الأخرى ، صورا للجعفري ، وراحوا يهتفون له
بذات الحناجر التي هتفت لغيره من قبل .
والغريب في الأمر أن الجعفري وأتباعه يعرفون عن يقين أن تمثيلية ، مثل هذه التمثيلة
التي مثلوها ، ما نفعت صداما من قبل ، ولا حمته من الغضب الأمريكي الذي رأه الجعفري
بأم أعينه في عيني وزيرة الخارجية الأمريكية ، كوندليزا رايس ، الزائرة للعراق قبل
أيام من الآن ، وذلك حين أبلغ ، وبشكل واضح وصريح ، ومثلما اعترف هو بذلك لصحيفة
الغارديان الانجليزية ، بوجوب الترجل من على صهوة كرسي الحكم ، فهو لم يكن ذلك
الفارس الذي تريده أمريكا للعراق بعد أن جربوه لسنة ويزيد ، لأنه أظهر من الإخفاق
والفشل الكثير ، فلا أمن ، ولا أمان حل في العراق ، ولا رزق طيب ، وعيش محمود رأت
الناس فيه ، أولئك الناس الذين ظل الإرهاب يأكلهم ، وظلت حراب الميليشيات تنهش بهم
، وفي ظروف قاسية يطاردهم غلاء المحروقات ، وشحة لقمة العيش ، وضيق ذات اليدين .
ذاك جانب ، وهناك جوانب أخرى رهن الجعفري نفسه لها ، وباختياره هو ، وقد أرادها
منها أن تكون عونا له ، فصارت وبالا عليه ، فهو لم يفهم ، على ما يبدو ، حق الفهم
علاقة العراق بالأمريكان اليوم ، ولهذا ، وفي ظل التنافس على المنصب دار ظهره هو
للذين حملتهم أمريكا على ظهور دباباتها معه الى العراق من المنافي ، وراح يوثق
علاقاته التحالفية بمنبوذين من قبل أمريكا ، هما مقتدى الصدر من داخل العراق ،
وحكام إيران من خارجه . ومثل سوء التقدير ذاك فهم الجعفري أن الديمقراطية هي أن
تفوز بصوت واحد ، ونتيجة انتخابات شابها الكثير من التزوير ، وعمليات قتل وإرهاب ،
وأنها هي : أن تأتي أمريكا بقواتها الجرارة ، وبملايين دولاراتها الى العراق لتسقط
صدام ، ومن ثم لتنصب الجعفري حاكما بدلا عنه ، وهذا على هدي من النظرية الساذجة
التي سادت في أوساط الأحزاب الشيعية في العراق قبيل إسقاط صدام ، والقائلة : ( دع
أمريكا تسقط صداما ، لنحكم نحن العراق عن طريق الديمقراطية فيما بعد للأكثرية التي
عليها الشيعة في العراق ) ، هذا مع أن الجعفري قضى شطرا من حياته يتمشى على ضفاف
نهر التايمز ، حيث تعطر ديمقراطية رأس المال أجواءه ! أينما سار ، وأينما اتجه .
ويبدو أن الجعفري ما درى أن الديمقراطية لدى الأمريكان هي ديمقراطية رأسمال ،
ديمقراطية الكارتل العظيم ، والشركات الرأسمالية الاحتكارية الضخمة ، صاحبة السفن
التي تمخر عباب البحار ، والطائرات العملاقة العابرة للقارات ، وما درى كذلك أن
حكومة تقيمها أمريكا في هذا البلد أو ذاك في عالمنا الفسيح هذا يجب أن تكون مطيعة ،
ذليلة ، لا يعلو صوت حكامها على الصوت السيد الأمريكي ، ولكن الجعفري ، وبدلا من أن
يكون حكام دول جنوب شرقي أسيا اسوة حسنة له ، ربط نفسه بحكام دولة الولي الفقيه
التي أكل الدهر عليها وشرب .
ليس من المعقول ، بعد ذلك ، أن الجعفري ما شاهد أو سمع عن تلك الطائرة التي حملت
الملك حسين ، ملك الأردن ، وهو على فراش المرض من أحد المستشفيات الأمريكية ، والى
العاصمة عمان ، وذلك من أجل أن يغيير وصيته في ولاية العهد الى ابنه عبد الله الذي
تريده أمريكا ، بدلا من أخيه الحسن الذي كان قد أوصى له من قبل ، والذي لا يريده
السادة في البيت الأبيض .
ومع كل هذه الحقائق البينة يريد الجعفري الآن ، وهو الذي زكاه الانجليز لمنصب رئيس
الوزراء لسنة تجريبية واحدة ، ووافق عليه الأمريكان على حذر كبير ، أن يقفز على تلك
الحقائق ، ويظل متمسكا بمنصبه ، ولا يريد أن يتنحى طواعية ، وهذا ما سيؤدي الى
إحالة القضية كلها الى البرلمان لينحيه حتما ، ودونما ريب ، وعندها سينقلب الجعفري
وأتباعه من جند الصدر ، وجند ولاية الفقيه على الديمقراطية ، ويثورون على ما سيقرره
البرلمان ، وقد تتخذ تلك الثورة نهجين متباينين ، أحدهما هو أن يقوم الجعفري
وأتباعه ، وحلفاؤه من جماعة الصدر بالانسحاب من البرلمان ، وذلك من أجل إحداث إرباك
في مجمل العملية السياسية المربكة أساسا ، وثانيهما هو أن يقوم أفراد ما يسمى بجيش
المهدي ، وبدعم من إيران ، بأحداث شغب مسلح لا يحصد منها فقراء الشيعة في العراق
سوى القتل والدمار .
ولهذا نرى أن القوات الأمريكية قد وقفت الآن على استعداد تام لقمع أي تحرك تقوم به
ميليشيا الصدر ، ليس ضد تلك القوات فحسب ، وإنما ضد قوات بدر المستهدفة من قبل تلك
الميليشيات ، ودليل على الاستعداد هذا هو أن القوات الأمريكية قامت باسترداد
مسؤولية الملف الأمني من أيدي شرطة صولاغ ، العاملة في جانب الرصافة من بغداد ، ذلك
الجانب الذي تقع فيه مدينة الثورة ، حيث تتمركز فيها أغلبية عناصر تلك الميليشيات ،
كما أن القوات الأمريكية ، ومثلما نقلت آخر الأخبار من العراق ، قد انتشرت من جديد
في مدينة النجف ، واتخذت من سطوح بعض البنايات والبيوت مواقع لها ، وسارعت الى
تجريد الشرطة ، والقوات العسكرية الأخرى في المدينة من بعض أسلحتها ، كما أنها قامت
بعمليات وقائية ضد مجاميع من ميليشيات الصدر في الحي العسكري من مدينة كربلاء ،
وعلى إثر ذلك تم اعتقال مجموعة منهم بإنزال عسكري على سطوح بعض المنازل فيه ، ذلك
الإنزال التي حاولت شرطة كربلاء التدخل ضده ، لكن القوات الأمريكية ردتها على
أعقابها دون أن تسمح لها بفعل شيء يذكر ، ويبدو أن الأمريكان يتوقعون حدوث قتال
سيبدأه جماعة الصدر ، حلفاء الجعفري ، ضد جماعة الحكيم التي طالب أكثر من ممثل لها
في الإئتلاف العراقي الموحد ( الشيعي ) بسحب ترشيح الجعفري لمنصب رئاسة الوزراء في
العراق ، وكان آخر المطالبين من هؤلاء ، هو نائب الجمهورية ، عادل عبد المهدي ،
وذلك بعد أن اقتنع جماعة الحكيم بأن الجعفري صار مرفوضا من جميع الأحزاب ، والكتل
السياسية العراقية ، ومن الدول العربية ، ومن الدول المتحالفة خاصة أمريكا
وبريطانيا ، وهو مرفوض كذلك من نصف ممثلي الائتلاف العراقي الموحد ( الشيعي ) ، لكن
رغم هذا يصر الجعفري ، وفي مكابرة واضحة ، على أن الشعب العراقي هو الذي قد رشحه
لهذا المنصب ، وهذا خطأ آخر يضاف الى تلك الأخطاء الفادحة التي ارتكبها هو رغم
الشهور القليلة التي انصرمت له كرئيس للوزراء في العراق ، وذلك حين اعتمد في
تحالفاته على قوى خاسرة ، تناصب أمريكا العداء في تصريحات رنانة على أقل تقدير ،
وأعني بذلك جماعة الصدر في داخل العراق ، وحكام طهران في الخارج منه ، كما أنه
ارتكب خطأ فادحا آخر حين اعتقد أن فتوى من السستاني الذي حاول الجعفري أن يجعل منه
مرجعا له ولجماعته ستحسم الأمر لصالحه ، وإذا لم يستجب السستاني لطلبه ، فإن
المخابرات الإيرانية ( إطلاعات ) المحيطة ببيته كفيلة بالضغط عليه ، أي السستاني ،
وذلك من أجل إصدار مثل تلك الفتوى ، وهذا المسعى هو الذي كان وراء انتشار إشاعة
مغادرة السستاني العراق ، والى دولة عربية مجاورة .