الأثنين 6 /2/ 2006

 


الأخبار في طوق الحمامة

( 2 )

 

سهر العامري

بدرت من ابن حزم كلمات أربعة في المقدمة من كتاب الطوق ، أوردتها أنا في النص الأول الذي نقلته في الحلقة الأولى من مقالتي هذه ، تلك الكلمات التي صدرت عن الكاتب عفو خاطر ، ولكنها أشارت ، على ما يبدو ، الى جنس الصديق الذي رغب أن يكتب له ابن حزم رسالة في الحب ، مثلما أسلفت من قبل ، والكلمات الأربعة هي : ( وحق النشأة ، ومحبة الصبا ) ، وهذه الكلمات تعني دونما شك أن ابن حزم كان على صلة وثيقة بصديقته تلك ، وعلى معرفة تامة ، وقديمة بها ، تمتد الى أيام النشأة الأولى في مدينة قرطبة قبل أن يفرق الزمان بينهما على إثر سقوط الدولة العامرية فيها ، لتحل تلك الصديقة في مدينة المرية ، ويحل هو في مدينة شاطبة فيما بعد * ، وذلك بعدما صرما هما أيام الطفولة سوية ، وبعدما عقد حب الصبا بينهما ، هناك في قرطبة مسقط رأسيهما ، تلك المدينة التي لا زالت أماكن عديدة منها للأن تذكر برجالها ونسائها على عهد مصنف الطوق ، مثلما تذكر بالعرب ، وعاصمة خلافتهم ، بغداد ، ولكنها على صغر منها .
ورب سائل يسأل : كيف تسنى لي أن أحدد أنا جنس الصديق ذاك بامرأة ، وليس برجل ؟ ألم يكن من المعقول جدا أن يقصد بكلماته الأربعة تلك أنه نشأ وتربى مع صبي ، وليس صبية ، مثلما يرى غيري ؟
في الخبر الذي أنقله بعد قيل عن طوق الحمامة سيرى السائل أن ابن حزم كان يريد بذلك الصديق امرأة ، وليس رجلا ، فها هو يكتب ( ... ولقد شاهدت النساء ، وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري ، لأني رُبيت في حجورهن ، ونشأت بين أيديهن ، ولم أعرف غيرهن ، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب ، وحين تفيّل ** وجهي ، وهن علمنني القرآن ، وروّينني كثيرا من الأشعار ، ودرّبنني في الخط . ولم يكن وُكدي *** ، وإعمال ذهني منذ أول فهمي ، وأنا في سن الطفولة جدا إلا تعرف أسبابهن ، والبحث عن أخبارهن ، وتحصيل ذلك ، وأنا لا أنسى شيئا مما أراه منهن ، وأصل ذلك غيرة شديدة طبعت عليها ، وسوء ظن في جهتهن فطرت عليه ، فأشرفت من أسبابهن على غير قليل . )
من خلال ما ورد في النص المتقدم يعلن ابن حزم بصراحة متناهية أنه نشأ بين أيدي النساء ، وتربى على أيديهن ، وأنه ما عرف غيرهن ، ويعني بـ (غيرهن ) الرجال طبعا ، وظل على هذه الحال الى أن شبّ ، وزادت سنه ، فقد صرم هو طفولته ، ونشأته مع النساء اللائي علمنّه الكتابة والقراءة ، وكان كل همه ، ومنذ الطفولة ، تتبع أخبارهن ، وتعرف على أفعالهن ، وهو هنا يعترف ، دون أن يدري ، أنه كتب رسالته في الحب لصديقة لها ( حق النشأة ) عليه ، وتربطه وإياها حبال مودة الصبا ، تلك المودة التي قال عنها هو : ( وكانت مودة لله تعالى ) .
ومن عفو الخاطر هذا هو ما أورده ابن حزم من خلال خبر آخر عن كلفه بجارية نشأت معه في دارهم ، كانت بنت ستة عشر عاما ، وكانت غاية في الحسن ، مثلما يصفها هو قبل أن يحدثنا عن يوم قضاه بين النساء ، وكانت هي من بينهن ، فيكتب ( ثم تنلقن الى قصبة **** كانت في دارنا ، مشرفة على على بستان الدار ، ويطلع منها على جميع قرطبة وفحوصها ، مفتحة الأبواب ، فصرن ينظرن من خلال الشراجيب وأنا بينهن ، فأني لأذكر أني كنت اقصد نحو الباب الذي هي فيه ، أنسا بقربها ، متعرضا للدنو منها ، فما هو إلا أن تراني في جوارها فتترك ذلك الباب ، وتقصد غيره في لطف الحركة ، فأتعمد أنا القصد الى الباب الذي صارت إليه ، فتعود الى مثل ذلك الفعل من الزوال الى غيره . )
ومن النص المار يظهر أن ابن حزم مكث طويلا بين النساء ، حتى وهو في عمر ناهز السادسة عشر من السنين على تقدير عمر تلك الفتاة التي شغف بها ، وأحبها من أعماقه ، وهذا ما يثبت كذلك أن من طلب منه كتابة طوق الحمامة هو امرأة كان لها ( حق النشأة ) عليه ، وهذا الطلب جرت له سابقة عند ابن حزم ، وذلك حين صرح هو من خلال الخبر ذاته باسم امرأة أخرى ، هي ضنى العامرية ، إحدى كريمات المظفر ، عبد الملك بن أبي عامر ***** ، والتي كانت قد كلفته بصنع قطعة شعرية على غرار ما كان يكتبه أبو نؤاس في أخذ اللذات عن قرب ، وترك البكاء على الديار التي أصابها البلى ، وقد أجابها ابن حزم على طالبها هذا ، وكتب لها تلك القطعة الشعرية . والمعروف أن ضنى تلك كانت من الأسرة التي حكمت قرطبة ، وكان ابن حزم وأبوه من قبل من بين وزرائها ، ومن هنا يظهر أن المرأة التي كلفته بكتابة طوق الحمامة هي امرأة من أسرة ارستقراطية لا تقل في مكانتها عن مكانة ضنى العامرية ، إن لم تكن هي نفسها ، خاصة وإنهما من جيل واحد ، وإنهما ، بعد ذلك ، ينحدران من أسر مترفة تستهويها أحاديث صالون ، مثل أحاديث الشعر والحب الذي هو عند ابن حزم الفقيه لغو ، لكنه ، رغم ذلك ، كتب فيه .
وبعيدا عن طوق الحمامة ، ونقلا عن مرثية كتبها ابن حزم لمدينة قرطبة بعد أن عاد إليها من نفيه عنها الذي دام سنوات على إثر اجتياح البربر لها ، وتدمير عمارتها ، وتهديم ديار أهلها ، ذلك المنظر الرهيب الذي أثر تأثيرا بالغا قي نفسه ، فكتب مرثيته تلك التي نقلها لنا لسان الدين بن الخطيب في كتابه : ( أعمال الأعلام في من بويع قبل الاحتلال من ملوك الإسلام ) والتي جاء فيها ( وكدت أستطار حزنا عليها ، وتذكرت أيام نشأتي فيها ، وصبابة لداتي بها ، مع كواعب غيد الى مثلهن يصبو الحليم ... )
وهنا كذلك يعلن ابن حزم وخارج عن رسالته تلك من أنه صرم أيام الصبا والنشأة ، مع صديقات له ، قد طفحت صدورهن للتو ، وهو حين يتذكرهن إنما يتذكر حبيبته الأولى ، تلك الفتاة التي لم يرها منذ نفيه من قرطبة في الأول من محرم ، سنة أربع وأربعمئة للهجرة ، ولكنه ، حين عاد إليها في شوال سنة ، تسع وأربعمئة للهجرة ، رآها بعد أن نزل هو على بعض نسائهم ، مثلما يقول هو ، ويضيف ( وما كدت أن أميزها حتى قيل لي هذه فلانة ، وقد تغير أكثر محاسنها ، وذهبت نضارتها ، وفنيت تلك البهجة ، وغاض الماء الذي كان يُرى كالسيف الصقيل ، والمرآة الهندية ... )
من كل ما تقدم يجوز لي أن أقول الآن بثقة أن ابن حزم كتب رسالته تلك نزولا عند رغبة امرأة كانت صديقة له منذ الصبا ، وإنها من بنات رجال الدولة في قرطبة ، تلك الدولة التي فاءت عليه بفيء السلطة والجاه والغني ، مثلما فاءت على أبيه وأسرته من قبل .
وأخيرا ، رب قائل يقول بعد ذلك : ولماذا عدل ابن حزم عن خطاب المؤنث الى خطاب المذكر مادامت المخاطبة أنثى ؟ وجوابا على سؤال مثل هذا ، هو أن العرب كثير ما كانت تخاطب المؤنث خطاب المذكر في النظم والنثر على حد سواء ، ولا أراني بحاجة الى إيراد الكثير من الأمثلة على ذلك ، فالأدب العرب على مختلف عصوره ، وفروعه يزخر بهذا اللون من الخطاب ، وهذا شاعرنا المحدث ، السيد محمد سعيد الحبوبي يقول :

                    يا غزال الكرخ وا لهفي عليك . . . . كاد سري فيك أن ينهتكا
                    أعطني كأسا وخذ كأسا إليك . . . . . فلذيذ العيش أن نشتركا

وهذا الشاعر الأندلسي ، لسان الدين بن الخطيب يقول :

                    ساحر المقلة معسول اللمى . . . جال في النفس مجال النفس
                    سدد السهم فأصمى إذ رمى . . . . . . بفؤادي نبلة المفترس


* بعد انهيار الدولة العامرية في قرطبة نُفي ابن حزم الى مدينة المرية أول الأمر ثم الى مدينة شاطبة ، وكلتا المدينتين تقعان في شرق الأندلس ، حيث استطاع الصقالبة من موالي المنصور بن أبي عامر ، فيما بعد ، من تأسيس دولة للعامريين فيه .
** تفيّل : سمن ، أو زاد في العمر ، أو اكتهل .
*** وُكدي : فعلي . وبفتح الواو منها تعني : قصدي أو همي .
**** القصبة : هنا تعني مكانا ، وفي القاموس هي من القرية وسطها ، ومن السواد مدينته .
***** المظفر ، عبد الملك بن المنصور ، وكان وزيرا لدى أبيه المنصور ، محمد بن عبد الله بن أبي عامر ، الذي استولى على الخلافة الأموية في الأندلس بعد أن آلت الى هشام الثاني بن الحكم الثاني ، وكان هشام هذا صغيرا في السن ، وتحت وصاية أمه ( صبح  )


موقع الناس     http://al-nnas.com/