موقع الناس     http://al-nnas.com/

القراصنة (Vikingarna )

 

سهر العامري

الأحد 19 /2/ 2006

كل ما أريده هنا هو أن أتحدث عن أولئك البشر الذين إلتقاهم ابن فضلان ، وهو في سفارة عند ملك الصقالبة من قبل الخليفة المقتدر بالله ، أبا الفضل ، جعفر بن الخليفة المعتضد في بغداد من العراق ، والذين أطلق عليهم هو لفظ ( الروسية ) ، بعد أن خصهم بجزء مهم مما كتبه في رسالته المعروفة عنهم
تشير أغلب الدراسات التي اطلعت عليها أنها باللغة السويدية الى أن الروسية هؤلاء ، الذين قابلهم أحمد بن فضلان على ضفاف نهر الفولغا ، هم القراصنة الذين استوطنوا في أماكن معينة مما يعرف بالسويد اليوم ، أو ( Sverige ) بتلك اللغة ، مع العلم أن لفظ قراصنة (Vikingarna ) ، الذي نطلقه اليوم على الأقوام الذين عاشوا ما بين سنة 800 م ، والى سنة 1050 م * في دول الشمال ( الاسكندنافية ) ، هو لفظ أطلقه المؤرخون ، الذين تناولوا دراسة تاريخهم ، نهاية القرن الثامن عشر الميلادي ، وكانت تلك اللفظة تحتضن معنى من يقوم بعمليات النهب والسطو عبر البحار ، ويعتقد أن كلمة قرصان ( Viking ) كانت اسما لواحد منهم ، ولا يعني هذا أن الناس ، الذين عاشوا في السويد ضمن تلك الفترة الزمينة ، كانوا كلهم من الناهبين عبر البحار هؤلاء ، فقد كانت هناك مجاميع منهم قد وصلت برحلاتها الى بلدان الشرق بقصد الاتجار ، أو الخدمة في صفوف جيوش البلدان الأخرى ، مثلما هو الحال في خدمتهم لدى الامبراطورية البزنطية كحراس شخصين عند القيصر في عاصمة تلك الإمبراطورية ، ( استنبول ) الحالية من تركيا.
وعلى هذا يكون من المرجح أن إبن فضلان ، إنما أطلق على القراصنة لفظ ( روسية ) كان بسبب واحد هو سماعه لهذا اللفظ من أفواه البلغار الذي كان في ضيافتهم ، إذ ذهبت بعض الدراسات التاريخية الى القول أن مواطني روسيا هم الذين أطلقوا لفظ ( الروسية ) على القراصنة أولئك ، ذلك اللفظ الذي تناولت أنا جذوره ومدلولاته اللغوية في مقالة سبقت لي تحت عنوان : ( إبن فضلان سفير العراق المقيم في أوربا )، واستخدام ابن فضلان ، بعد ذلك ، للفظ ( الروسية ) بدلا من لفظ ( القراصنة ) يدل دلالة واضحة على أن اللفظ الأخير ما كان مستخدما ، ولا معروفا في وقته ، وإنما هو لفظ أطلقه الباحثون في تاريخهم بعد مضي قرون على انصرام زمنهم ، مثلما أسلفت من قبل .
كانت مواطن سكن القراصنة من السويد الحالية تنحصر غالبا في الأماكن الواقع على خلجان ، وسواحل الضفة الغربية من بحر البلطيق ، أو البحر الشرفي ( Östersjön ) مثلما هو معروفة باللغة السويدية المعاصرة ، وهذا لا يعني أن السويد كانت دولة ، مثلما هي عليه اليوم ، في زمنهم ذاك ، فالدراسات تشير الى أنه كانت هناك عدة دويلات متباعدة ، وقرى متناثرة ، ومستوطنات زراعية هنا وهناك ، تفصل بينها غابات كثيرة ، لا يدعي أحد ملكيتها ، بينما كانت الحواضر التي استوطنها القراصنة هي تلك المدن التجارية التي ازدهرت في السويد على زمنهم ، مثل مدينة كانت تدعى بـ ( Birka ) ، وتمسى اليوم بـ ( Björkö ) على خليج ( Mälaren ) ، الواقع الى الشمال من استوكهولم ، العاصمة السويدية الحالية ، بثلاثين كيلو متر .
لقد أظهرت الدراسات الأركيولوجية ( Arkeologi ) في تلك المدينة الكيفية التي تبدو فيها المدن زمن القراصنة ، والطريقة التي تبنى بها البيوت ، وأنواع الحيوانات التي تربى فيها ، ثم حياة العمل داخل تلك المدن ، كما أن تلك الدراسات أتت بمعلومات مهمة من مدينة أخرى ازدهرت بفعل تجارة القراصنة مع البلدان الشرقية ( Särkland ) ** ، هي مدينة ( Visby ) في جزيرة ( Gotland ) ، حيث عثر فيها على كميات كبيرة من مسكوكات العملة العربية في العصر العباسي ، وذلك سنة 1936 م ، وكانت الصدفة هي التي لعبت دورها في العثور على هذه الكمية من النقود ، فقد كانت هناك مجموعة من الصبية يلعبون بالقرب حافة من حافات أحد مقالع الحصى من الجزيرة ، وفجأة شاهدوا تساقط النقود الفضية نحو قعر ذلك المقلع ، وحينها اكتشفوا كنزا من تلك العملة العربية ، دونما غلاف يغلفه ، وضم الكنز ذاك 2673 قطعة نقد عربية ، وكانت أحدث ضرب لبعض هذه النقود هو سنة 911 م ، وقد بلغ وزن هذا الكنز حوالي ثمانية كغم ، كما أن جل العملة العربية التي كان القراصنة يجلبونها معهم الى السويد كانت قد كُتب عليها بالخط العربي الكوفي ، وكانت بعض القطع منها يحمل تاريخا لسكها يعود الى القرن السابع الميلادي . يضاف الى ذلك أن هناك مناطق أخرى من السويد قد عثر فيها على كنوز أخرى من المسكوكات العربية الفضية في العصر العباسي ، إلا أن جزيرة ( Gotland ) كانت قد تميزت عن غيرها من تلك المناطق بوجد كنوز تحتوي على حلى نسائية ، ويرجع السبب في ذلك الى أن القراصنة ، الذين كانوا يتخذون من تلك الجزيرة موطنا لهم ، قد اعتادوا على أن يصطحبوا زوجاتهم معهم في رحلاتهم التجارية الى مدن الشرق مثل استنبول وبغداد ، أو الى المدن التي كانت تعتبر محطات تجارية ، والتي تقع على ضفاف الأنهار المنحدرة صوب الشرقي من البلدان الواقع الى الشرق من بحر البلطيق.
لقد دلت الدراسات الاركيولوجية ، التي تمثلت في حفر قبور القراصنة في السويد ، أو الأماكن التي يعتقد أنهم قد استوطنوا بها ، وكذلك ما خلفوا من كتابات حجرية وراءهم ، على معلومات مفيدة للغاية ، تحدثت عن معتقداتهم ، وتصريف حياتهم اليومية ، والأدوات التي كانوا يستخدمونها ، والمقتنيات التي كانت بحوزتهم . فالمعروف عن القراصنة أنهم كانوا يدفنون مقتنياتهم في قبورهم معهم عند موتهم ، كما كشفت الدراسات التي جرت على الكنوز التي عثر عليها في جزيرة ( Gotland ) عن تلك البلدان التي كان القراصنة قد وصلوها ، أو تلك التي كانوا على صلة بها .
ومن خلال بعض الدراسات التي انصبت على بقايا هياكلهم اتضح أن متوسط العمر عندهم كان أربعين سنة ، لكنه كان هناك من عاش منهم الى الثمانين سنة ، كما كان متوسط طول الرجل منهم يقع ما بين 160 ـ 185 سم ، بينما كان متوسط طول المرأة يتراوح كذلك بين 151 ـ 171 سم ، وقد بدا واضحا من دراسة ما تبقى من هياكلهم العظيمة أنهم كانوا يعيشون حياة غاية في الصعوبة.
لقد كانت بيوتهم عبارة عن أكواخ يكون طول الواحد منها أحيانا واحدا وعشرين مترا ، وعرضه يزيد قليلا عن ستة أمتار ، وبمساحة كلية تزيد عن مئة وستة وثلاثين مترا ، وكانت جدران الكوخ الواحد من تلك الأكواخ تشاد من أعمدة خشب متباعدة بعض الشيء ، ثم تملأ الفراغات بين عمود ، وآخر بالطين المخلوط مع التبن ، أما السقف فيتكون من عمود خشبي ، طويل ، يمتد على طول الكوخ في أعلاه ، ثم تربط به أضلاع خشبية تستند على من اسفلها على جدران الكوخ ذاك ، بعد ذلك يغطى الهيكل الخشبي هذا بالقصب والقش بحيث يأخذ الكوخ الواحد منها شكل ( الصريفة ) التي يشيدها فقراء العراق للآن في الجنوب منه ، والفارق بين الصريفة في جنوب العراق ، وبين الكوخ في السويد على زمن القراصنة هو أن الصريفة تكون في أغلبها من مادة القصب ، بينما تكون مادة الكوخ في السويد من عدة مواد ، مثلما ذكرت من قبل ، وهذا لا يعني أن كل الأكواخ في زمن القراصنة كانت تبنى على هذه الشاكلة ، فهناك صنف منها يُبنى من الخشب كله ، وبذات الطريقة التي ذكرتها قبل قليل ، ولكن لا بد من تغطية سقف الكوخ الخشبي هذا بالقش والقصب .
وقد يتساءل القاريء عن شكل نبات القصب هذا ، وكيف له أن ينمو في جو السويد البارد ، وهو من نباتات المناطق الحارة ؟ والجواب على سؤال كهذا ، هو أن القصب ينمو في السويد على ضفاف البحيرات ، وبأطوال قصيرة ، وسيقان ضعيفة ، دقيقة ، واسمه باللغة السويدية ( Vassar ) ، وهو ، والحال هذه ليس ، كالقصب الذي ينمو في أهوار جنوب العراق ، أو ذاك الذي ينمو في أهوار ومستنقعات بلدان جنوب شرقي آسيا .
والكوخ ذاك بعد ذلك ، وعلى صغر مساحته التي ذكرتها من قبل ، قد يضم أسرة يتراوح عدد أفرادها ما بين 7 ـ 10 أفراد ، وقد يضم ، بالإضافة الى هؤلاء الأفراد ، بعض الحيوانات الأليفة التي تعيش مع تلك الأسرة ، ومع هذا فإن هناك أكواخ بُنيت في تلك الفترة الزمنية الغابرة من تاريخ السويد تقل مساحتها عن مساحة الكوخ الذي تحدثت عنه هنا ، والذي عثر عليه الباحثون في قرية من قرى مقاطعة ( Skåne ) من جنوب السويد .


* تمد بعض الدراسات تلك الفترة ، فتصبح ما بين سنة 800 م والى سنة 1100 م .
** Särkland : يعني المقطع الأول من هذه الكلمة السويدية كلمة ( الشرق ) العربية .