الأحد 12 /2/ 2006

 


 

الأخبار في طوق الحمامة

( 3 )

 

سهر العامري

من بين أهم الأخبار التي ضمتها رسالة الطوق ، هو الخبر الذي نقله لنا ابن حزم فيها عن قصة وقوعه في غرام جارية لم يصرح باسمها في الخبر ذاته ، رغم شغفه بها ، فقد غرق هو في بحر هواها ، وهو لم يزل في فترة المراهقة من العمر بعد ، وكل الذي ذكره في خبره ذاك هو أن الحب والشغف هذين كانا من طرف واحد على ما يبدو ، فبعد أن سرد لنا وصفا جميلا لفتاته تلك في الأسطر الأولى من الخبر كتب ( على أنها كانت تحسن العود إحسانا جيدا ، فجنحت إليها ، وأحببتها حبا مفرطا ، شديدا ، فسعيت نحو عامين أو نحوهما أن تجيبني بكلمة ، وأسمع من فيها لفظة ، غير ما يقع في الحديث الظاهر الى كل سامع ، بأبلغ السعي فما وصلت من ذلك الى شيء البتة . ) ، ثم ينتقل الى الحديث عن اللقاء الذي جرى بينهما حين كانا مع مجموعة من النساء في قصبة من دارهم ، ذلك اللقاء الذي نقلت أنا بعضا مما جرى فيه قي الحلقة الثانية من هذه المقالة ، والذي كان من فصوله كيف أن هذه الحبيبة ، وبعد أن أمرتها سيدتها بطلب من النساء أولئك ، اندفعت تغني بأبيات الشاعر العباس بن الأحنف ، تاجر القماش ، في بغداد في العصر العباسي ، والتي منها :

                      إني طربتُ الى شمس إذا غربت ........ كانت مغاربها جوف المقاصير ِ *
                      ليست من الأنس إلا في مناسبة ٍ ......... ولا من الجن إلا في التصاوير ِ
                      كأنها حين تخطو في مجاسدها ......... تخطو على البيض أو حدّ القوارير ِ
**

ويبدو أن ابن حزم قد اهتز لصوتها ولضربها على آلة العود ، مثلما اهتز لأبيات العباس بن الأحنف ، وفي أبياته ما يهز النفوس ويرقصها ، فيكتب ( فلعمري لكأن المضراب كان يقع على قلبي ، وما نسيت ذلك اليوم ، ولا أنساه الى يوم مفارقتي الدنيا ، وهذا أكثر ما وصلتُ إليه من التمكن من رؤيتها ، وسماع كلامها ) . بعد ذلك يحل الفراق بينهما بسبب من انتقال أسرة الشاعر من محلة الزاهرة في الجانب الشرقي من قرطبة ، والى دارهم القديمة في محلة بلاط مغيث في الجانب الغربي منها ، تلك المحلة التي لا تبعد كثيرا عن محطة قطار قرطبة الرئيسة اليوم ، أو عن الطريق الذاهب الى مدينة الزهراء فمدينة اشبيليا ، ولكن ابن حزم يراها بعد ذلك في مأتم من المآتم قبل أن يضطرب الوضع السياسي في قرطبة ، فيخرج منها منفيا في الأول من محرم سنة أربع وأربعمئة للهجرة ، ولكنه حين يعود الى مدينته بعد ست سنوات يرى حبيبته دون أن يعرفها ، فقد ذبل عودها ، وانطفأت أنوار الحسن في وجهها ، ولولا قول بعض النسوة له : هذه فلانة ، لما عرفها .
الخبر هذا أو القصة هي أول ما اشتهر ، وعرف بين الناس في أوربا من كتاب طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي ، وذلك حين عمد المستشرق الهولندي ، رينهارت دوزي ، الى ترجمتها الى اللغة الفرنسية ، في كتابه : تاريخ مسلمي اسبانيا ، الذي صدر سنة 1861م ، وعلى إثر ترجمة هذا الخبر اشتهر كتاب الطوق ، وذاع ذكره في أوربا ، فاهتم به أكثر من مستشرق ، وترجم الى لغات أوربية عديدة ، وإذا كانت قصة الغرام هذه هي التي عرفت الناس بعد قرون عديدة بالكتاب وصاحبه ، فهي في الوقت نفسه تعرفنا بتاريخ كتابة الطوق نفسه ، حيث أن ابن حزم يقول في المقدمة من الكتاب أن رسالة صديقته التي دعته الى كتابته قد وردت إليه ، وهو في مدينة شاطبة بعد نفيه من قرطبة سنة أربع وأربعمئة للهجرة ، مثلما ذكر الكاتب ذلك في الخبر نفسه ، وعلى هذا يكون تاريخ كتابة الطوق يقع بعد هذا التاريخ ، ويكون هو قد كتبها ، وعمره يحوم حول الخامسة والعشرين ، وليس في الثامنة والعشرين ، مثلما ذكرت بعض الروايات ، وذلك لأن ابن حزم قد عاد الى قرطبة سنة تسع وأربعمئة للهجرة ، أي بعد ست سنوات من رحيله عنها الى مدينة المرية ، ومن ثم الى شاطبة ، وهذا على أساس من أن ولادة ابن حزم كانت سنة 384 للهجرة ، فيكون عمره حال عودته الى قرطبة ثانية قد بلغ الخامسة والعشرين ، وذلك بدليل أن المرثية التي كتبها لمدينته ، قرطبة ، بعد أن دمرها البربر قد تضمنها كتاب الطوق بعد أن سمع هو بأخبار الدمار هذا من شخص ورد عليه من قرطبة ، وهو في مدينة شاطبة ، فيكتب ( ولقد أخبرني بعض الورّاد من قرطبة ، وقد استخبرته عنها ، أنه رأى دورنا ببلاط مغيث في الجانب الغربي منها ، وقد امحت رسومها ، وطمست أعلامها ، وخفيت معاهدها ، وغيّرها البلى ، وصارت صحارى مجدبة بعد العمران ... )
ويبدو أن ابن حزم ، بعد ذلك ، قام بنفسه في تعديل تلك المرثية ، فحذف منها كلمات ، وأضاف أخرى ، وذلك بعد عودته الى قرطبة ، ومشاهدته للدمار الذي حل بها ، تلك العودة التي لم يكن تاريخ وقوعها بعيدا عن تاريخ تدوين الطوق ، وتاريخ وصول الشخص الناقل لأخبار قرطبة له ، وهو في مدينة شاطبة ، فها هو يُعدل في تلك المرثية فيكتب ، ومثلما جاءت عن لسان الدين بن الخطيب ، في كتابه ،" أعمال الأعلام في من بويع قبل الاحتلال من ملوك الإسلام " : ( وقفت على أطلال منازلنا بحومة بلاط مغيث من الأرباض الغربية ، ومنازل البرابر المستباحة عند معاودة قرطبة ، فرأيتها قد محت رسومها ، وطمست أعلامها ، وخفيت معاهدها ، وغيرها البلى ، فصارت صحارى مجدبة بعد العمران .... ) .
والظاهر أن الخبر هذا الذي شهر به الكتاب كله ، مثلما ذكرت ذلك قبل أسطر ، قد أثر بآخرين عاشوا متزامنين مع ابن حزم في قرطبة ، فقد ترك لنا الشاعر بن زيدون ، وابن قرطبة مدينة ابن حزم كذلك قصة تضارع خبر وقوع ابن حزم في غرام تلك الجارية ، رغم أن ابن زيدون كان أكثر بوحا ، وأدق وصفا ، وأرق عبارة ، ولكنه ، مع ذلك ، كان يقفو أثر ابن حزم في وصفه لساعات قضاها مع حبيبته ، ولادة ، وجاريتها ، عتبة ، في مكان مثل ذاك المكان الذي غنت محبوبة ابن حزم به النساء اللائي تجمعن فيه .
يقول ابن زيدون : ( كنت في أيام الشباب ، وغمرة التصاب ، هائما بغادة تدعى ولادة ، أرى الحياة متعلقة بقربها ، ولا يزيد امتناعها إلأ اغتباطا بها ، فلما قُدر اللقاء ، وساعد القضاء ، كتبت إلي :

                 ترقبْ إذا جنّ الظلام زيارتي ..................... فإني رأيت الليل أكتم للسر ِ
                 وبي منك ما لو كان في الشمس لم تلُحْ....... وبالبدر لم يطلعْ وبالنجم لم يسر ِ

فلما طوى النهار كافوره ، ونشر الليل عبيره ، أقبلت بقدّ كالقضيب ، وردف كالكثيب ، وقد أطبقت نرجس المقل على وردة الخجل ، فملنا الى روض مُدبج *** ، وظل سجسج **** ، قد قامت رايات أشجاره ، وفاضت سلاسل أنهاره ، ودر الطل منثور ، وجيب الراح مزرور ، فلما شببنا نارها ، وأدركت منا ثأرها***** باح كل منا بحبه ، وشكا أليم ما بقلبه ، وبتنا ليلة نجني أقحوان الثغور ، ونقطف رمان الصدور ، ولما نشر الصبح لواءه ، وطوى الليل ظلماءه أنشدتها :

                           ودع الصبر محبٌ ودعك ..... ذائعٌ من سره ما استودعك
                           يا أخا البد سناء وسنا .............. حفظ الله زمان أطلعك
                           إن يطل بعدك ليلي فلكم ....... بتُ أشكو قصر الليل معك


قال : وكانت عتبة قد غنتنا :

                           أحبتنا إني بلغت مؤملي ........ وساعدني دهري وواصلني حِبّي ******
                           وجاء يهنيني البشير بقربه ........ فأعطيته نفسي وزدت له قلبي

فسألتها الإعادة بغير أمر ولادة ، فخبا منها برق التبسم ، وبدا عارض التجهم ، وعاتبت عتبة ، فقلت :

                           وما ضربتْ عتبى لذنب أتت به ........... ولكنما ولادة تشتهي ضربي
                           فقامت تجر الذيل عاثرة به ......... وتمسح طل الدمع بالعنم الرطب ِ


فبتنا على العتاب في غير اصطحاب ، ودم المدام مسفوك ، ومأخذ اللهو متروك ، فلما قامت خطباء الأطيار ، على منابر الأشجار ، وأنفت من الاعتراف ، وبادرت الى الانصراف ، وشت ******* بمسك الأنفاس ، على كافور الأطراس :

                           لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا ......... لم تهو جاريتي ولم تتخير ِ
                           وتركت غصنا مثمرا بجماله ............. وجنحت للغصن الذي لم يثمر ِ
                           ولقد علمت بأنني بدر السما .............. لكن دُهيت لشقوتي بالمشتري

مما تقدم يظهر أن ابن زيدون كان أكثر صراحة في التحدث عن علاقاته الغرامية مع بنات قرطبة ، مثل ولادة التي هي بنت الخليفة المستكفي الأموي ، وهو ابن احد فقهاء قرطبة المعدودين على زمانه ، ويبدو أن السنوات العشرة التي هي الفارق في السن بين ابن زيدون الذي ولد في ضاحية الرصافة الشمالية الشرقية من قرطبة سنة 394 للهجرة ، وبين ابن حزم الذي ولد في ضاحية الزاهرة الشرقية سنة 384 للهجرة ، قد جاءت بجيل من النساء والرجال ، يخالط بعضهم بعض ، في سهرات طويلة ، مفتوحة ، يقرعون فيها كؤوس الراح ( الخمرة ) ، وهم بين أحضان الشجر والزهر ، وحين تشبّ نيران الخمرة فيهم ، تثأر لنفسها منهم ، عندنا تنطبق الشفاه على الشفاه ، وتهيم النفوس بالنفوس ، وتقطف الصدور من رمانها ، ولكن النظام الاستقراطي لدى المترفين الذي خرقه شاعر مجنون بالشعر والجمال والغرام بعد أن هزه بيت غنته جارية الحبيبة :

                             وجاء يهنيني البشير بقربه ........ فأعطيته نفسي وزدت له قلبي

أرغمه على طلب الإعادة من تلك الجارية ، دونما يطلب ذلك من سيدتها ولادة أولا ، إذ الجواري عبيد بعرف السادة ، يأتمرون بأمرهم ، ويتأخرون عنهم في المشي والصلاة ، وهذا ما أغضب الحبيبة ولادة ، فتنصرف عن الحبيب الذي لم يحترم التقليد الاستقراطي اللعين ، ذلك التقليد الذي ظل مصانا في قصة ابن حزم ، فالحبيبة هناك لم تنشد أبيات العباس بن الأحنف ، ولم تتغن بها ، ولم تضرب على عودها إلا بعد طلب النسوة المجتمعات في دار أسرة ابن حزم من سيدتها السماح لها بالغناء ، هذا الغناء ، السحر ، الذي يفتت الغيد ، مثلما تتفتت قوارير الزجاج بالكسر ، فقد نادى النبي الكريم على حادي يحدو في قافلة كان يسير معها ، وفيها بعض نساء ، قائلا : يا حاد! رفقا بالقوارير !
ويتفرد ابن زيدون عن ابن حزم في إيراده لقصته رغم تشابه موضوعها وموضع ابن حزم ، بميزة عرفت عند الشاعر في شعره ، وتظهر جلية هنا في نثره ، وهي إشراكه للطبيعة فيما يكتب ، فهو في سهرته مع ولادة وعتبة قد أشرك معهم الأشجار والأطيار ، الورد والطل ، الليل والفجر ... الح .
غضارة العيش هذه في قرطبة التي كتب عنها ابن حزم الفقيه ، ومن ثم ابن زيدون الشاعر ، وصفها الرحالة ، والتاجر العراقي ، ابن حوقل في كتابه : صورة الأرض ، وذلك حين نزلها قبل سنوات قليلة من ولادتي : الفقيه والشاعر نفسيهما ، فكتب : ( أعظم مدينة في الأندلس قرطبة ، وليس بجميع المغرب لها شبيه ، ولا في الجزيرة والشام ومصر ما يدانيها في كثرة أهل ، وسعة رقعة ، وفسحة أسواق ، ونظافة محال ، وعمارة مساجد ، وكثرة حمامات وفنادق ... وقرطبة وإن لم تكن كأحد جانبي بغداد ، فهي قريبة من ذلك . )


*  المقاصير : جمع مقصورة ، وهي الدار الواسعة أو أصغر من الدار .
**  مجاسد : واحدها مجسد ، وهو ثوب مصبوغ بالزعفران .
***  مدبج : منقوش بالورود هنا .
****  سجسج : ظليل ، بارد
*****  يقصد هنا الخمرة ، وربما مرّ على ابن زيدون ، وهو الكثير القراءة ، قول الشاعر :

                         والخمرُ تعرف كيف تأخذ ثأرها ..... إني أملتُ إناءها فأمالني .

******  حِبّي : بكسر الحاء وتشديد الباء ، تعني الحبيب .
*******  وشت : هنا كتبت على الورق ( الأطراس )


موقع الناس     http://al-nnas.com/