| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com

 

 

 

الخميس 9/12/ 2010

 

 حريّات مدنيّة أم فوضى قيميّة ؟

أ.د. سيّار الجميل
 
عندما تمر المجتمعات بأزمات تاريخية مريرة، تزداد فوضى القيم، ويطغى الجهلاء، ويسكت العقلاء، ويعوي المتعصبون، ويختفي الأحرار الحقيقيون.. وتقبض أنفاس الحياة من قبل المهووسين بالفتنة وزراع الأحقاد وناشري الكراهية بين الناس.. ويتسامى الكبار أمام شراسة وبذاءات الصغار الذين لا يعرفون في قاموسهم إلا الشتائم والطعن والردح.. ويا ويل العلماء إن نزلوا وجادلوا الجهلاء والمتخلفين والحمقى والسفهاء ..نحن في العراق نعيش فوضى قيم عارمة.. المثقفون الحقيقيون أصبحوا قلة، أو " أقلية " كما وصفهم الناقد فاضل ثامر، وفي مجتمع يأكل بعضه بعضا.. بل ويريد البعض أن يتسلق باسم الديمقراطية على الأكتاف، وهو يبحث له عن مكان تحت الشمس، فلا يجده أبدا، كونه لا يؤمن بحقوق الإنسان .. والإنسان في العراق متنوع تنوع أشجار العراق، فلا يمكن أن يعيش العراق لا على فوهة بندقية، ولا في شرعة غاب، ولا على هامش حزب واحد، ولا في عرف طائفة واحدة، ولا في تناقض بنود دستور، ولا التأرجح على بنود دستور تتناقض بين دولة دين ودولة قانون!.

إن قياس حياة العراقيين ، لا يمكنها أن تتم بمعزل عن اتساع الرؤية، وقوة القانون، وتمدن الفكر، وانفتاح الناس بعضها على الآخر، كي يتقّبل العراقيون بعضهم بعضا.. إن الديمقراطية لا يمكنها أن تعيش بلا حريات.. وان الحريات السياسية والفكرية لا تعمل أبدا، إن لم تضمن للإنسان حرياته الفردية والشخصية، وان لم تضمن للمجتمع حرياته المدنية والعامة.. وان لم يمارس النقد، وان لم تمارس المعارضة، وان لم يطرح الرأي الآخر حتى إن كان ضد أعراف وتقاليد بالية. إن الحريات ليست هي الفوضى وشتم المثقفين كما يفهمها البعض، وان النقد ليس هو التنكيل وتشويه سمعة الناس وكيل الاتهامات الباطلة، بل هو المواجهة والتصويب والضمير الحي..كما أن غلق النوادي الاجتماعية ليس شيئا مناسبا في عاصمة كانت في العصور الوسطى منارة الحضارة وسيدة البلاد.. وان الأخلاق ليست هي العادات السقيمة والانغلاق في الأقفاص، الأخلاق هي كيف تتعامل مع الناس.. كيف تخاطبهم، وكيف تتصّرف معهم، وكيف تحترم الآخر وإرادته وخياراته.. وكيف تكون أمينا على المال العام.. وكيف تؤدي الأمانة إلى أهلها.. وكيف تقود سيارتك بكل ذوق، وكيف تتعايش مع جيرانك وزملائك بكل محبة. الحريات لا تعني التدخل بشأن الآخرين، بل تعني أن لا تسئ التصرف، ولا تزرع الفتنة، ولا تثير الأحقاد ولا تعلن عن روح الانتقام ضد الناس الأبرياء، بل ضد كل المدانين بجريمة او جنحة ليحاكموا ويقتص ّ منهم.

ولعل من أسوأ ما تترّبى عليه الأجيال أن تمتلئ عقولها بالتحيزات وتتشّبع بالأهواء..وتتّربى على هوس معين، أو فوضى لا أخلاقية ـ كما يقول ماكس فيبر - في حين يتطلب منا الأمر عكس ذلك كله، وخصوصا في العراق الذي يعيش اليوم صراعا عميقا بين تمرّد الأهواء والعواطف وبين الفكر الحر المتمدن، بين الحيادية وبين التعصّبات، بين الوطنية وبين الانتماءات الفرعية، بين مشروع حضاري وبين فوضى الولاءات. إن الفجيعة تكمن ببعض المروجّين السياسيين، وأنصاف المثقفين العراقيين الذين ينطلقون من طائفية مقيتة ضد أناس أحرار، إن المتعصبين إلى لون معين، أو عرق معين، أو شرعة معينة.. بعيدا عن روح الحريات ومعانيها، لا يعرفون إلا رؤيتهم الضيقة جدا للحياة والأمور، فالتمدن عندهم كارثة! وهي رؤية لا تقتصر على الناس العاديين، بل تنتقل وبفجاجة لا نظير لها إلى بعض المثقفين والساسة والنخب المتماهية مع هذا ضد ذاك أو ذاك ضد هذا.

لقد زادت في هذا الزمن المتردّي كل موبقات بعض العراقيين، وقد كان العهد السابق يفرض من خلال سطوته الدكتاتورية وأدوات قمعه الشرسة على الجميع رؤيته الأحادية للعراق والعراقيين من دون أية حيادية، ولا أية موضوعية، بل يحرّم الديمقراطية والحريات، واليوم نجد بعض العراقيين قد أساءوا إلى الحريات المدنية، وقد انقسموا إزاء تقييم حياتهم.. إنهم يرفعون عهدا معينا، أو زعيما معينا، أو حركة معينة، أو حزبا معينا إلى أعلى السماوات في حين يجعلها عراقيون آخرون في أسفل سافلين، وقد استمعت قبل ثلاث سنوات إلى محاضرة لأحد المثقفين العراقيين جعل كل العراقيين أقواما من المتوحشين الذين لا يعرف تاريخهم إلا العنف والدم، وخلط الأخضر الحضاري بسعر اليابس السياسي وبطريقة فجة لا يمكن قبولها أبدا.

في مثل هذه المرحلة من انطلاق الفوضى العارمة لا الحريات الحقيقية، تتكشف "حقائق" لم تكن موجودة سابقا بفعل الانغلاق والكبت وممنوعات الماضي السابق في حين تحولت الآن الاوضاع الفكرية من تكوين مناخات لحريات صحية إلى فوضى قيمية وطائفية وكتابات لا أخلاقية.. إنهم منقسمون بشراسة ليس إزاء تاريخهم، بل إزاء وجودهم ، وكأن احدهم يريد محو الآخر وإنهاء وجوده.. جماعة ترى في مجتمع العراق كل القتل والعنف وحب الدماء منذ القدم حتى وصل الأمر أن يوصف كل العراقيين بأوصاف رديئة ، وأنهم بحاجة إلى ديكتاتور يحكمهم، وآخرون يمجدون ويتفاخرون بهذا الشعب العظيم الذي لا يمكن أن نجد من مثله أبدا في كل الدنيا وفي كل الوجود، جماعات حزبية ترى في تاريخ العراق نضالات أحزابها وتتشدق بمنجزات زعمائها وطغاتها، من دون الاعتراف بأي خطأ من الأخطاء أو جناية من الجنايات.. ويوجهون عسف كتاباتهم فقط ضد خصومهم السياسيين الذين يقابلونهم بالمثل، وهلم جرا!!، وكأن كل فصيل يمتلك تاريخا نقيا صنعته الملائكة، ومن دون أية مراجعة حقيقية لما سجله العراقيون عبر تاريخهم من حكم الطغاة، وجنايات هوس العسكر، وسياسات المتحزبين الفاشيين وصولا إلى جرائم الارهابيين والمتعصبين إزاء إبداعات المثقفين والمبدعين المتحضرين !

إن جيلا ملوثا كاملا في طريقه إلى الرحيل بعد انبثاقه في عصر التناقضات الإيديولوجية، وكان ولم يزل لا يرى في تاريخ العراق إلا نفسه من دون أية رؤية واسعة للحياة وللتاريخ وعوامل متغيرات الحياة.. إن ثمة متطفلين على واقع العراق وتاريخه ووجوده من هذا النمط الذي لا يريد سماع كلام كهذا، بل يصمت إزاء حالة ويثرثر في حالة أخرى..تجدهم لا يتحملون أي رأي مخالف، فان انتقد احد العراقيين أية ظاهرة من الظواهر السالبة، نصبّوا أنفسهم محامين من دون أن يعترفوا أنهم يساهمون في الجريمة كونهم لا يعترفون بما على الأرض من أخطاء وجرائم.

إن المتطفلين من المؤدلجين لا يختلفون في تعصباتهم عن المتطرفين السلفيين الذين لا يرون في العراق إلا عراقهم وحدهم وليذهب كل العراقيين إلى الجحيم!، إنهم لا يعرفون أي نسبية في التفكير، فكيف يعرفون نسبية الحياة؟ ومن المفجع أن تكتشف خواءهم الثقافي قبل أن يفضحهم عريهم السياسي!. إن ما يؤلم حقا أن يبقى جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية على نفس شعاراته وضمن أهوائه، ولم يتعلم من كل ما صادفه من أهوال عبر خمسين سنة.. ليليه جيل آخر تربّى على كل موبقات الزمن الجائر وتناقضاته !

إن تناقضهم مفضوح تماما، فهم ساخطون على الحريات المدنية والأحرار من المثقفين المتمدنين، ولكنهم يمجدون شعار الديمقراطية ويتكلمون باسمها! إنهم ساخطون على المجتمع، ويمارسون نفس آليات الإقصاء للآخرين والتمجيد بالسلطة والمسؤولين مثل وعاظ السلاطين. إن الخلل ليس في القادة والمسؤولين فقط، بقدر ما هو منتشر في أوساط اللكامة والمرتزقة والمصفقين والمهرجين والردّاحين! إن مجتمعنا العراقي قد تحرر من قيوده الثقيلة، ويعيش اليوم في مناخ حر، لكن حياته محفوفة بالمخاطر نتيجة العسف بحرياته المدنية، ونتيجة سوء استخدام الديمقراطية، ونتيجة تناقض مواده الدستورية. إن تفكير المجتمع والدولة معا ينبغي أن ينصّب أساسا في القضاء على الإرهاب، بدل الانشغال بغلق النوادي، وخلق الأزمات، وخنق الحريات. إن الخلاص من فوضى القيم لا يتم إلا إذا منحت الحريات للمجتمع، وطبق القانون، واحترم العلم والعلماء ، وتهذبت الأنفس، وتطهرت القلوب من كل الاوصاب والأمراض.. وعليه، فهل سيعيد العراق تجديد نفسه على أيدي أبنائه المتمدنين الأحرار بلا كراهية، وبلا أحقاد ؟
 

نشرت في الصباح البغدادية ، 9 ديسمبر / كانون الأول 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل

 www.sayyaraljamil.com

 

free web counter