| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com

 

 

 

الأحد 6/12/ 2009

 

الإسلام: حضاري لا سياسي !

أ.د. سيّار الجميل

لم يبدأ " الإسلام السياسي " من فراغ ، بل وجد له بيئات مناسبة للنمو والانتشار .. ولم يولد فجأة بلا أية مبررات ، او بلا عوامل وأسباب ، بل كانت له علله ودوافعه على ارض الواقع .. ولا أريد أن يستحوذ التاريخ على هذا الواقع الذي خلقته جملة من الظروف والتداعيات التي تصادمت مع بعضها البعض الآخر ، لتغدو مجتمعاتنا اليوم أسيرة للماضي جملة وتفصيلا ، بحيث تبدو اليوم مرتهنة له ، ولا تستطيع أن تجد اي لغة فكرية أو سياسية حقيقية للتعامل مع أدوات هذا العصر ومشكلاته الصعبة .. ناهيكم عن طغيان ما سمي بـ " الإسلام السياسي " ليحّل بديلا أحاديا عن " الإسلام الحضاري " الذي شرحنا في حلقة سابقة مؤهلاته الايجابية التي تبدو انها تموت يوما بعد آخر على حساب المثالب التي فرضها " الإسلام السياسي " ، وجعل العالم كله ينظر إلى العالم الإسلامي كونه النقيض الصعب للعالم المعاصر اليوم .. ويأتي هينتغتون ليكتب " صدام الحضارات " ، فلا يرى من معوقّ للحضارة الإنسانية اليوم الا هذا الذي يتمثّل بالإسلام !
ان تطور النظرة السلبية الى الإسلام ليست وليدة هذا الزمن ، بل تمتد طويلا في عمق التاريخ الحديث بكل ما ورثه من تواريخ العصور الوسطى بأحقابها الثلاثة ، والتي انتهت ، كما يعتقد ، بفتح القسطنطينية عام 1453 على أيدي العثمانيين .. ولكن برغم وجود التصادم التاريخي بين عالمي المسلمين والغربيين في ما مضى لأسباب شتى منها ما يعود إلى سياسات دول ، فلقد غدا الصراع اليوم اعتى وأشد بفعل سياسات إعلامية وطروحات فكرية وانتماءات اجتماعية .. وكلما سينكمش العالم على نفسه ، سيزداد تصادم الثقافات في ما بينها ، وسيزداد التماس في الصراع على القيم والأفكار والطقوس وأساليب الحياة والتفكير .. خصوصا ، وان التعامل لم يقتصر اليوم بين الدول والكيانات ، بل امتد للمواجهة مع الحركات السياسية والتجارب المعاصرة .. واذا كانت الدول الغربية قد استخدمت الإسلاميين لتنفيذ أغراض ومصالح لها هنا أو هناك ، فان العالم الاسلامي سيبقى هو المجني عليه من قبل كل فرقاء الصراع سواء كانوا في الاخل ام الخارج معا .

الحضاري .. هو البديل !
ان مشكلة العالم الإسلامي تكمن في الفوضى الفكرية التي تعيشها ليست دوله فحسب ، بل كل مجتمعاته اليوم .. وتبدو الصورة واضحة ، بل فاضحة بعد ما اسمي بإحداث 11 سبتمبر 2001 ، حيث أصبح الإعلام العالمي مهتما بشكل كبير بالحركات الإسلامية التي أصبحت جميعها متهمة .. وبقدر ما أجد فوضى فكرية في كل مجتمعاتنا ، فان العالم أيضا يعيش نوعا من فوضى ليس التعامل ، بل فوضى التحليل .. اذ غدا كل العالم الإسلامي متهما تهمة شنيعة متمثلة بـ " الإرهاب " .. ولما أعطى المسلمون لغيرهم الفرصة تلو الأخرى للآخرين بعدم تقديم أية بدائل حقيقية في الدفاع عن النفس ، او حتى لتفسير الحقائق ، او حتى لإدانة كل الانتهاكات التي تتكلم باسم الإسلام السياسي .. فان العالم بدأ يبلور ليس مجرد الأفكار ، بل للطعن في كل القيم والموروثات ، فهو يجعل الإسلام مختزلا في مجاميع وأحزاب وحركات سياسية من دون أن يجد البديل من قبل العالم الإسلامي لتقديم ما هو واقعي ومتطور في الإسلام الحضاري .
إن الإسلام الحضاري ليس مجموعة اجتهادات مستوردة لتلميع صورة المسلمين في العالم ، بل هو الذي يمثّل رؤية عميقة للمعاني اولا ، والتشيؤات ثانيا في أي زمان وفي أي مكان .. انه الداعي إلى الاعمار والعقل والإنسان وقيم التفكير وإيجاد البدائل .. انه الذي ليس باستطاعته أن يتوقف طويلا لإدخال قطار طويل جدا من خرم إبرة ! انه لا يمثل مجاميع ( أو : جماعات كما يسمونها ) تتحدث كحركات سياسية متخذة بعض الاجتهادات والتأويلات لتفسير مواد ونصوص في الشريعة .. وأي تفسير يناقض ما يقولون يقام عليه الحد او ينهونه من الوجود ! ان الإسلام الحضاري هو صورة متطورة من تراكم معرفي وإصلاحي وقيمي واسع النطاق .. بحيث يعترف بأن الحياة اليوم لا يمكنها أن تمشي الا من خلال القانون .. وانه لا يمكنه ان يكون مجرد إيديولوجية تزدحم بالنصوص والمكررات التي لا يمكنها ان تعالج مجتمعات متنوعة بأديانها وأطيافها ومذاهبها وأعراقها وكل ألوانها الثقافية .. ان السياسي هو نقيض الحضاري في الإسلام ، ولا يمكن للسيارة سواء صنعت في القرن العشرين أم الواحد والعشرين ان تجرها الحمير او البغال او الجمال ! فهي بالضرورة ستمشي من خلال موتور جديد .. وان السفينة لم تعد شراعية تتقاذفها الرياح ، بل ستمخر في البحر من خلال موتور جديد .. وان الاسفار لم تعد قوافل على بعران او حمير ، بل بالطائرات ذوات الطابقين !

منوال التاريخ
لم يكن الاسلام السياسي هو الذي يحكم تاريخنا ـ كما يشيع اصحابه والمؤمنين به ـ ، بل كان الاسلام الحضاري بغثه وسمينه .. ولم يكن " النص " قد طبّق بحذافيره على امتداد تاريخ الاسلام ، فالخلفاء الراشدون اجروا تعديلات ، وخصوصا ، الخليفة عمر بن الخطاب الذي حكم لآكثر من عقد زمني كامل مستجيبا للضرورات الدنيوية وتطورات المجتمع ، وهذا ما فعله الامام علي بن ابي طالب .. وعندما حكم الامويون سواء كانوا اصحاب ملك عضوض ام غير عضوض ، فهم قد نقلوا الحياة الاسلامية الى درجات مختلفة واخرى ، عندما تعاملوا مع بيئات ومجتمعات وحياة جديدة .. وعندما حكم العباسيون ، كانت لهم بالضرورة تبايناتهم في الزمان والمكان .. وكثيرا ما كانت السياسة تقض مضجع الحضارة منذ اجتماع السقيفة ، فالمجتمع لم ينقسم بفعل الاسلام نفسه ، بل بفعل السياسة واهوائها .. وهل كان المجتمع في الاندلس يشابه مجتمعاتنا ؟ بل وحتى آليات الحكم ؟ وصولا الى العثمانيين الذين سادوا لآكثر من ستة قرون .. هل بقوا على مناهج من سبقهم في الحكم والحياة ؟ لقد استحدثوا لهم اساليب جديدة مستلهمة من هذا وذاك ..

المتصوفون مسالمون
ان الاسلام بالرغم من يسمه البعض بالعنف وشلالات الدم والقتل .. لم نجده الا وديعا ومسالما عند اصحاب الطرق الصوفية على امتداد الف سنة سبقت ! والمشكلة ان هذا الجانب سرعان ما يرمى من قبلنا نحن ومن المتشددين ومن السلفيين ومن المجددين والاسلاحيين والاصوليين كونه عالم تافه ليس له الا الخرق والهلوسات والتبرك والكرامات والدجل .. الخ من التوصيفات البليدة ، ولكن ان كان حاله هكذا في غمرة التواريخ المتأخرة ، فانه عالم عجيب من التسامح والزهد والمحبة والمناشدة والفن الرفيع والشعر الشفيف .. لقد انجب هذا الاسلام الحضاري عالما سماويا امتلأ زهادا ونقادا وشعراء ومحبين ومتغزلين ومتعففين وفلاسفة .. يقابلون منطقة اخرى من عالم دنيوي يعج بالمسلمين وكانوا خلفاء وخلعاء واجراء وحكماء واخوان صفاء ومطربين وشعراء وصعاليك .. الخ فهل باستطاعة الاسلام السياسي المعاصر اليوم ان يلغي الدين والدنيا معا ، ليفرض سطوته بالعنف والقوة من اجل السلطة ؟ وهل السلطة التي يتحدث عنها تتوافق مع كل ما ورد من نصوص تدعو الى العقل والجنوح للسلم والود والمعروف والاعمار في الارض وحسن المعاملة ؟

السياسي : الدولة قبل الوطن
ان المشكلة لا تكمن في " النص " لوحده وكيفية تفسيره وتأويله وسحبه على كل الزمن ، بل تكمن المشكلة ايضا في " الزمن " نفسه ، وكيفية التعامل مع الماضي وفوضى التفكير في صناعة المستقبل . ان الاسلام الحضاري لا مشكلة لديه ابدا ، كونه يؤمن بالواقعية والتعامل مع ضرورات الحاضر .. اما الاسلام السياسي ، فهو واقف عند نقاط محددة يعتبر تخطيها خطوطا حمراء ، ليس له فقط ، بل لكل المسلمين على وجه الارض ، بل ويستمد من فوضويته الفكرية شرعية كي يتدخل فيها بشؤون الاخرين ! انه يعد نفسه وصيا على كل الاسلام والمسلمين ، كونه نّظم نفسه منذ ان ولد في حركات سياسية او جماعات دينية او تحزبات الهية او رجال تابو مقدّسين منهم امراء مؤمنين او ائمة مطهرين او اصحاب عصمة .. الخ هؤلاء سواء كانوا من هذا المذهب او ذاك فرضوا هيمنتهم على الدين والدنيا بقوة سايكلوجية مخيفة ومرعبة .. تبدأ في البدايات مجرد افكار في المجتمع يلتزمها الناس كونها تمثّل وجها حقيقيا للدين ، ولكن سرعان ما تعلن عن شرعيتها كي تسيطر بأي وسيلة كانت ! ان ما يهمها اساسا السلطة الدينية والدولة الدينية .. فهي لا تعترف بشرعية غيرها ، وهي لا تعترف بالاوطان اساسا ، وهي لا تعترف بالاخر في مجتمعاتنا .. فكيف لها الاعتراف بالاخرين ؟

هل من رسالة عاقلة ؟
وأخيرا ، هل من عودة للعقل ولو لمرة واحدة ؟ هل باستطاعة التيارات الدينية العربية ان تخطو خطوات جديدة لإصلاح التفكير السائد ، والتحول به خطوات إلى الأمام ؟ وهل بالإمكان تزحزح السياسي الى الحضاري لدى الإسلام السياسي العربي ؟ هل بالإمكان الاستفادة من تجارب حزبية دينية كحزب العدالة والتنمية لدى الإسلام السياسي التركي ، فلقد اثبت انه الأقرب إلى الحضاري منه الى السياسي ؟ هل من فقه سياسي حضاري جديدة من اجل الخلاص من الماضي الصعب ؟ كلها أسئلة بحاجة الى أجوبة حقيقية .. فهل بالإمكان تحقيقها ، كي يتخلص الفكر السياسي العربي المعاصر من مخاطره الداخلية قبل الخارجية ؟

 

free web counter