| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com

 

 

 

الثلاثاء 21/5/ 2013                                                                                                     



مكاشفات

من الوعي بالاضطهاد الى شقاء الوعي

أ .د. سيّار الجميل *

مأساة المثقفين العراقيين المستنيرين الاحرار
ان المأساة التي تشهدها النخبة العراقية المثقفة اليوم، لا تعود إلى ما بينهم كعراقيين وبين الآخرين، بقدر ما كانت ولمّا تزل بينهم وبين أنفسهم.. وبالرغم من وجود تاريخ غير منسجم في ما بينهم ابدا ، إلا أن تفاقم الانقسامات السياسية قد ولّد تشظيات اجتماعية مفجعة ، اثّرت تأثيرا كبيرا على أولئك الذين يتّصلون بواقعهم وحياتهم ووجودهم اتصالا عضويا قويا.. هنا في مكاشفاتي اليوم لا ادافع عن مبدعين او مثقفين او فنانين عراقيين نالهم الاقصاء والتهميش كونهم من البعثيين او القوميين او انهم صفقوا للدكتاتور او غنوا ولحنوا له .. بل اتحدّث عن مثقفين ومبدعين عراقيين مستقلين يعانون اليوم من شقاء الوعي بل ان اضطهدوا طويلا !

إن ما حصل في العراق من هزّات سياسية وصراعات إيديولوجية ونضالات ضد الدكتاتورية ومجابهة التخلف وكل أشكال التدنّي الوطني والإنساني، وشارك في ذلك الاحرار من المثقفين العراقيين بمنتجهم الإبداعي أو العلمي أو الثقافي أو حتى السياسي على مدى أكثر من خمسين سنة مضت.. لا يقارن أبدا بهذه السنوات الأخيرة العجاف التي عشناها، فالعراق اليوم لم يكتف بهزات سياسيّة وصراعات حزبية، بل انتقل الخراب إلى المجتمع بحيث نجده يتمزق ويتآكل أمام أعيننا، إذ تثور الأحقاد الدفينة، ويزوّر التاريخ، وتشّوه الصفحات، ويتفجر الكبت المخزون، وتطغى لعنة الطائفية، وتوزع الاحكام الظالمة على الناس بين العراقيين ويتهمون ظلما وعدوانا بتهم لا أساس لها من الصحة في هويتهم وانتماءاتهم وأخلاقياتهم وقيمهم ومناطقهم .. ولم يقتصر الأمر على مجرد أفكارهم وشعائرهم وطقوسهم.. الخ بل امتد الأمر إلى أفكارهم وتخصصاتهم ، بل وتجرأ البعض لتشويه اصولهم ومنابتهم واعراقهم .. انه صراع عقيم موبوء بكل العبث بالذات العراقية نفسها.. وبالإنسان نفسه في بلاد يتشدقون ليل نهار أنها موطن الحضارات الأولى ومنشئها، فأين التوحّش العراقي اليوم من معاني الحضارة الإنسانية؟ لقد كان الوعي العراقي مضطهدا على امتداد عقود طوال من السنين لأسباب سياسية او ايديولوجية او حزبية سلطوية او جراء سياسات قمعية ، واليوم اجد العراقيين وقد انتقلوا الى ان يعيشوا شقاء الوعي بأنفسهم ، من اجل انتماءات دينية او مذهبية او عرقية او جهوية او حتى عشائرية بمعزل عن الروح العراقية وعن منطق العصر وعن مهام الاستنارة التي تستوجب القطيعة مع بقايا التاريخ وآثامه ومشكلاته وتقاليده البالية !

المشكلة تتفاقم مع تقدّم الزمن
ان المشكلة تتفاقم اليوم إلى الوراء مع تقدم الزمن، فالمستنيرون الحقيقيون يتقدّمون معه وهم يتناقصون يوما بعد آخر ، ولكن كثرة من المزيفين والطفيليين والمتوحشين يتقادمون ضده بسبب ما يحققونه من اشباع لساديتهم باستخدام الجميع تكنولوجيا الإعلام والفضائيات والانترنيت وشعورهم بالارتياح في اضطهاد وايذاء من يخالفهم والحط من سمعته ومكانته .. ويعتقد البعض أن هذه الوضعية المقرفة تمثّل الديمقراطية الحقيقية، وكأن هذه الأخيرة قد وجدت لتمزيق المجتمعات لا لإيجاد السبل الناجحة لتطور الحياة من خلال المجادلة والحوار بالتي هي احسن . إن العراقيين اليوم يعيشون مأساة حقيقية، فالمجتمع يحمل انقساماته التي كانت مخفية وعميقة منذ زمن بعيد، ولم يكن منسجما في أي يوم من الأيام، ولكن لم تتوفر الفرصة له من قبل أن يعّبر عن مكنوناته ويشيح الأغلفة عن انقساماته ورؤاه..

اليوم، أنفضح كل شيء، ولكن بدل أن يحاور البعض الآخر، راح يقتل بعضه بعضا، أو يرفض بعضه بعضا.. واخذ يستعين بالاخر لتصفية حساباته مع ابناء وطنه ! وراح يضطهد ، وراح يثأر ، وراح يمارس كل التعابير اللاأخلاقية .. وتحوّل العراق من معتقل كبير للرأي الى مسلخ بشع من الشتائم المقذعة .. ان المستنيرين في المجتمع يجدون انفسهم في مواجهة لا معنى حضارية لها مع حالة شقاء واسع النطاق . إن المثقفين الذين يعّبرون عن وطنيتهم وإنسانيتهم وسمو عقلانيتهم من العراقيين، بعيدا عن اية انقسامات أو نزوعات في شتى الأرجاء، يضطهدون اليوم إن سلموا على حياتهم، ولقد دفعت الصحافة العراقية ثمنا كبيرا من قافلة شهداء لم يكن ذنبهم إلا كلمتهم الحرة المذاعة أو المقروءة! ولقد خسر العراق عددا كبيرا من المثقفين والفنانين والمبدعين الاحرار ..
قمع الكلمة في زمن الفوضى الخلاقة

السؤال : لماذا يكون الشقاء؟ ولماذا تشن الحملات؟ ولماذا يقمع الرأي في العراق؟ لم يعد الامر مقتصرا على الرعب من دكتاتور واحد يخشى الجميع من سطوته واضطهاده ، او من رقابته الامنية، ولكن اليوم غدا كل من هبّ ودبّ دكتاتورا من مكانه، يمارس اشنع الممارسات ضد الاخرين، ممّن لا يتلاقون معه جراء ما يحمله من امراض واوبئة .. وبطبيعة الحال، لا يمكن أن يلتقي أي مثقف مستنير وملتزم حقيقي بآخرين من دعاة الكتابة والثقافة من المنافقين والمتهتكين والمتزمتيّن والمتعصبين والمتطرفين والتمييزيين والطفيليين والطائفيين الذين لا يؤمنون جميعا بالديمقراطية أساسا.. ولم يلتق أي مثقف مستنير حقيقي مع أدعياء الكلمة والمهرجين والراقصين السياسيين الذين وجدوا الساحة مفتوحة لهم وحدهم.. الخ

إن ما توفر من أجواء مساعدة، وما ورثه العراقيون منذ عقود طوال من السنين على سياسات المنع والعقوبة والرقابة الأمنية على الكلمة الحرة، وما زرعته الفردية والعسكريتاريا والدكتاتورية والأحادية بكل الممانعات والمحرمات.. وما مورس من اضطهاد ليس للرأي وحده ، بل حتى للوعي ، ومن ثمّ ما طبقه الأمريكان في العراق من سياسات الفوضى الخلاقة بتجزئة المجتمع إلى ما اسموه بـ " المكونات " الثلاثة وقتل ما تبقّى من الروح الوطنية .. وما نصّ عليه دستور البلاد من بنود انقسامية وتمييزيّة وخلافيّة ، وما أذيع ونشر من خطابات الأحزاب الدينية والطائفية في العراق، وما أحدثته الإعلاميات من هياجات واختراقات في الصميم .. الخ كلها دفعت بالعراقيين، وخصوصا المثقفين إلى التشظّي والصراع في الداخل . وكما انقسم المجتمع جراء السياسات الانقسامية على أسس طائفيّة وعرقيّة وجهويّة معلنة من دون أي حياء وبدون ايّة مثل اخلاقيّة ، فان الضرورة من شقاء الوعي ، تقضي بانقسام المثقفين والقوى الفاعلة ، وستكون انقساماتهم حادة جدا هذه المرة..

لقد انحدرت العلاقات الثقافية إلى حيث الإسفاف في بعض الأحيان، والى حيث فراغ ما تبقّى من قيم رائعة في أحيان أخرى. ولم يقتصر الأمر على مثقفين دون آخرين، فبعضهم هرب إلى انتماء طائفي واضح المعالم أو خفي الجنبات.. ولم يتبق إلا فئة قليلة ونادرة الوجود من أقوى الصامدين الذين لا يعترفون بأيّة انتماءات جهويّة أو طائفيّة أو عرقيّة او مكوناتيّة إزاء ما يحدث من غلو وكوارث وتمزقات على أيدي الساسة المتخندقين والملالي المتصارعين.. ولم يخرج أيا من الأحرار بنتيجة إن أراد تصويب الأمور، أو الردّ على المنقسمين والمنافقين، فهم أقوى منهم لأنهم يجدون المساندة من قوى سياسية حاكمة، أو من أحزاب طائفيّة ماكرة، أو من نظام حكم يؤمن نفسه بانقسامات العراقيين، ويعمل على هذا الأساس.

الصراع ضد اشباح وغلاة وطفيليين
حدثني احد المبدعين العراقيين بأن من أصعب المشكلات التي يعانيها الاحرار من المثقفين العراقيين عندما يجد المثقف نفسه مهمشا بجريرة دينه او طائفته او مدينته من أناس لا يجدهم أمامه.. انه يحارب أشباحا ظلاميين يريدون الانقضاض عليه للفتك به.. وان وجد غيرهم، فانه يحارب حتى يفتك بخصمه، ولكن لا يجد من يقف معه انه وحده في الميدان يصارع كل قوى الظلام! وطبعا الآن أدركت لماذا يسكت الآخرون؟ ولماذا يلزموا الصمت حيال ما يعيشونه من شقاء للوعي؟ إنهم يدركون حقا بأن الثمن الذي سيدفعونه هو اكبر بكثير من هؤلاء جميعا! أي انه بالمحصلة اكبر بكثير من هؤلاء الفارغين والذين يركض وراءهم كل المغالين والمتطرفين والمتعصبين الذين لا يرون غيرهم على وجه العراق.. وكأن العراق لم يكن مأوى للملايين من الراحلين والقادمين.. للنازحين عنه والمنجذبين إليه!

إن شقاء المثقفين العراقيين الأحرار قد وصل إلى خنق الوعي، بحيث لا يكتفي الغلاة والأدعياء وهم غابة متشابكة من الطفيليين بكل أكاذيبهم التي يمرروها على الناس، بل يصّرون على أخطائهم ويقومون بترويج تلك الأخطاء! إنهم لا يقبلون التعايش تحت سقف التعايش الحضاري ، بل يريدونه كوة زنابير لهم وحدهم فقط، وكأن غيرهم من العراقيين مزبلة أو جيفة ينبغي رميها وراء الحدود! إن أصعب ما يمارس من اضطهاد هو ذاك الذي يمس عصب الوعي.. إنهم لا يكتفون باضطهاد الإنسان أو حتى قتله والتشفّي فيه، بل التشكيك بعراقيته من خلال أصله وفصله، إذ جعلوا أنفسهم أوصياء على الناس وهم بلا معرفة وبلا ثقافة وبلا أخلاق في مجتمع عاش تاريخه كله وهو يجذب الناس ويستقطبها إليه، أو يطردها ويبعدها عنه.. إنهم لا يعرفون أن الأمم بأخلاقها تبقى، فان اضمحلت أخلاقها، وانحطّت حياتها..انهارت بكل تعاساتها وذهبت مع الذاهبين! إن من ضرورات مستقبلنا الوقوف ضدّ هذه الفوضى الخلاقّة التي تعمل اليوم على سحق منظومة القيم العراقية.. وقد نجحت حتى يومنا هذا في مهامها الخطيرة.



* مؤرخ عراقي مقيم في كندا
 

free web counter