| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com

 

 

 

الأثنين 11 / 11 / 2014                                                                                                     


 

البدائل المخيفة ومستقبل العراق

أ .د. سيّار الجميل *

لا أريد أن أجعلَ من نفسي معلماً ومرشداً أو ناصحاً للعراقيين في محنتهم اليوم ، ولكننّي أراقب ما يجري ، وأنتقد ما يحدث والعراق ينتقل من كارثة إلى أخرى ، وهي محنة تاريخية شديدة القوة جراء أهوالها ، وما سينتج عنها من تداعيات خطرة في السنين القادمة، وكثيرا ما كتبتُ عن المجتمع العراقي والمحن التي عصفت به في عصور مختلفة . اليوم ، لا تجد من يسمع لصوت الحكمة ، أو يقرأ ما يلزم من حلول ورؤى .. صحيح ان الأزمة سياسيّة بامتياز، ولكن المعضلة اجتماعيّة وخفيّة أساسا، وهي مأساة سقوط لا أخلاقي كما ادرك ذلك العقلاء . ان المجتمع العراقي يتعرّض لأشرس الهزّات القاتلة جرّاء احتدام تناقضات عميقة وموروثة وتجد من يعبّر عنها بشراسة واستهتار .

ويبدو انّ كلّ من يصل إلى السلطة ، يتخبّط ، وهو على رأسها كونه لا يملك المؤهّلات التي يمكنه من خلالها حلّ المشكلات ، أو تجده محكوماً بمعادلات كريهة ومقيّدا بأجندات تافهة أو مرتهنا بأيديولوجيّة حزبيّة ماكرة ، فتجده ضعيفا تائهاً لا يعرف كيف السبيل إلى التغيير الحقيقي .. ناهيكم عن ضعف الإدارة وإغراق البلاد بالفساد والتوحَش .. بل وان ثمّة مراكز قوى سياسيّة وطائفيّة شرّيرة تخنق كلّ صوت يعمل من اجل إنقاذ البلاد واخراجها من مستنقعاتها وتخليصها من أوبئتها وعلاج أمراضها المستحكمة ! إنني أسأل : ما معنى بقاء فاسدين وأغبياء في مراكزهم ومناصبهم حتّى اليوم ؟ سواء كان ذلك في الجيش أم القضاء أم أمانة العاصمة أم بقيّة الوزارات ؟ كيف تعالج الأمور السيئة وتصوّب الأخطاء الكبيرة اذا بقيَ اغلب المسؤولين في الحكومتين السابقتين موجودين في السلطة الحالية ؟ كيفَ باستطاعة حكومة أن تعمل ، وهي مكبّلة بالخوف ومقيّدة بالتدّخلات الأجنبيّة ، ولم تزل تحت سطوة مافيّات جهوية ومليشيات طائفيّة ومنظمّات إرهابيّة وطواقم كتل أو مجموعات غارقة في الفساد والصفقات المشبوهة؟

كيفَ يمكن لحكومة جديدة ليس باستطاعة من يقودها فعل أيّ شيء ، ولم يزل البلد تديره حتى اليوم عدّة رؤوس متنفّذة لمراكز قوى حكومة سابقة تتوّزع هنا أو هناك من المؤسسّات الفاشلة ؟ لماذا لم يتمّ تشكيل وزارة جديدة بأسماء جديدة كما طالبنا ؟ لماذا لم تزل كلّ الأجهزة الحيويّة بأيدي أناس كانت لهم جرائمهم وخياناتهم وخطاياهم أيام الحكومة السابقة ؟ اذا كانت المرجعيّة نفسها قد دانت الحكومة السابقة وأخطاءها في ما وصلَ إليه العراق اليوم ، فماذا يجيب القادة الجدد الذين يحكمون العراق اليوم ؟ إن الحكومة الجديدة ستبقى غارقة بالفساد والترّهل والضعف ما دامت تضمّ كلّ المتورّطين والخونة والفاسدين والمتواطئين والتافهين .. ان الجميع مسؤولون عن الأخطاء ، ما دام أيّ مسؤول لم يستقل سابقاً وبقي عضواً في حكومة فاحشة ! وعليه ، فلا يمكن ان تنجح أيّة محاولات جادة للتغيير ما دامت نفس الوجوه موجودة ، وقد تبادلوا المناصب لا اكثر ولا اقل .. العراقُ سيزداد سوءاً ، وسيسقط المزيد من الضحايا ، وستنهار المزيد من المدن ما دامت كلّ الرؤوس لم تزل باقية تتحّكم متنفذّة في كلّ مفاصل البلاد .

سنوات طوال وبعض الحكماء والأحرار ينادون بالإصلاح والتغيير من دون ان تجد أي ضوء بعيد في الأفق .. فماذا سينتج ذلك كلّه اليوم يا ترى ؟ أقول بأنه سينتج بدائلَ مخيفة .. انه سينتج ثماراً فاسدة جرّاء التطرّف والانحرافات .. انّه سينتج التوّحش الاجتماعي والقتل والموت واشتعال الغلو والأخذ بالثارات ، وسيزداد النهب المنظّم والصفقات المشبوهة .. ما دام البديل السياسي فاشلا في مهمتّه ، وستبقى الأمراض والأوبئة السياسيّة الجديدة منتشرة ، وسينتج الفساد ويزداد آلاف الفاسدين مع اتّساع الجهالة والإرهاب .. ستكثر الانحرافات النفسيّة والأخلاقيّة عند روّاد الاستقطاب لدى النخبة السياسيّة من هذا الطيف أو ذاك في مجتمع ممزّق لم يعرف منذ البداية طرائق سليمة في البناء الداخلي والعلاقات العامة وحسن الاختيار بعيداً عن المحاصصات القذرة التي أصبحت واقعاً موبوءاً! وسنجد توّسع الخراب ليس في مؤسسّات وأبنيّة وجسور وشوارع وبنى تحتيّة ، بل سنجد التدمير في النفوس وضياع العقل وانسحاق القيم وسيادة البدائل المخيفة لدى الجيل الجديد على حساب النمو التاريخي الذي تسعى اليه الشعوب الحيّة في هذا العالم .

ليست تراجيديا العراقيين ومآسيهم تثير غيرة ونخوة المسؤولين في السلطة ، وقد غابَ العقل والحكمة والخبرة والمعرفة عن مسؤولين ينتقلون من عهد إلى آخر ، وهم يلعبون بالمجتمع بجهل وغباء وأنانيّة وجشع وجنون .. وكأنّ كلّ العراقيين قطيع أو مجموعة قطعان من الحيوانات.. وسيبقى الأمرُ هكذا ما دامت الناس تصفّق لمن يحكمها ، وما دام العراقيون يتشفوّن بما يصيب احدهم الآخر .. ولم يهبّوا هبّة واحدة عند الشدائد الكبرى ، وما دام هناك ، الانحياز للخونة وتجميل الطغاة، وحماية للفاسدين والمجرمين ، والاتعس هو تكريم اقطاب حكومة فاسدة حكمت سنوات طوال ..وقد تغلّبت عليهم الأنويّة والجهويّة والعشائريّة والطائفيّة التي سيطرت على وعيهم وخلقت عندهم تناقضات حادة ..

إن النخبة السياسيّة التي أفرزتها ظروف ما بعد 2003 وحتّى اليوم لم تجد أيّ أسلوب عقلاني لترسيخ مبادئ وطنيّة متمدّنة بعيدة عن أيّة معتقدات سخيفة لسدّ الأبواب أمام بناء أمّة متماسكة فكريّا ، وبعيدة عن الماضي المليء بالآثام والأحزان .. لم يتبّعوا سياسة بناة عراقيين وطنيين مخلصين لوطن مفجوع ، ومجتمع عانى الكثير منذ خمسين سنة مضت .. ولم ينجحوا في الحفاظ على الوحدة العراقيّة والسلم الداخلي والشفافيّة .. لم ينهجوا نهجا دستوريّا سليما وجمع الناس على مبادئ مدنيّة وقانونيّة وتربويّة متطوّرة .. ضاع العراقيون في بدائلهم المخيفة ، وعاشوا يكذبون ويسرقون ويستهترون مع انفجار التطّرف واستيراد الارهاب، وتخنّدق المجتمع كلّ في سردابه المتوحّش .. مع صراعاتهم على المصالح والاستهانة بالدم العراقي ، فكان التمزّق والتشتّت والخطف والموت والحرب الأهليّة ..

إن اللحظة الغريبة التي يعيشها المجتمع بكلّ تمزّقاته اليوم قد صنعها اللاوعي الجمعي واللحاق وراء أيّة قافلة تسير باستثناء من بقي حرّا نظيفا في عالم يزداد اتساخا يوما بعد آخر ، مع افتقاد العقل والحكمة والنقد عند القادة العراقيين قبل مطالب الحريّة والديمقراطيّة والحقوق العامة .. ولم يزل المصفقون يرقصون على جراح العراقيين .. بعضهم استعاد وعيه ونقد مسيرته هو نفسه واكتشف كم جنى حزبه أو جماعته أو كتلته أو فكره من أخطاء ، أي بمعنى انه اكتشف جانبا من الحقائق بعد كوابيس تاريخ طويل !

اليوم ، لا تنفع البدائل المرتجلة والاقنعة الواهية في مجتمع ممزّق تشغله الكارثة ليل نهار ، ولكن يحكمه التطرّف وتعمّه الفوضى وينتشر في صفوفه كلّ الفساد .. وعند ساسة فقراء فكريّا واخلاقيّا وهم بمنتهى الضحالة والتفاهة لا يهمّهم إلا السلطة والمال والقوّة والجنس تحت مسميّات شتّى مهما اعلنوا عن نظافة موهومة يحملونها ، ومهما تشدّقوا باسم دين أو مذهب أو روحانية صوفيّة .. المشكلة تبدو مفجعة في أناس يحملون شهادات عليا ، وتنقصهم خبرات اذ قضوا أعمارهم في غرف متحزبة ، أو خنادق مؤدلجة ، وتشبّعوا بالأوهام .. التغيير لا ينفع في ظل عمليّة سياسيّة فاشلة مذ بدأت بأيدي نخبة لها وجوها واحدة ، ولكنّها بأقنعة متعدّدة ..

التغيير يبدأ من حيث إرجاع الحقوق إلى أهلها ، ومحاكمة كلّ من أساء استخدام السلطة وساهم في التدّمير .. التغيير لا يبدأ من حيث مصالحة بين أنظمة سياسيّة ، بل إزالة تشظيّات مجتمع مدّمر بانقساماته .. المصالحة بمكافأة الصالحين والنزهاء ومحاكمة الفاسدين والأشرار ومحاسبة المخطئين والمرتشين .. المصالحة هي القطيعة مع التمييز الطائفي وبلورة مشروع وطني مدني. المصالحة تعني القضاء على كلّ مراكز قوى الحكومة السابقة ، وتحريم استخدام شعارات غير وطنية .. وان يتجرّد القادة من أحزابهم ليكونوا آباء وطنيين لكلّ العراقيين ..

البدائل لا تتخلّص من توحشّها ان لم يصلّح "دستور" أساءت بعض بنوده لكلّ من الدولة والمجتمع معا .. البدائل لا تحيا إلا بالقضاء على كلّ المليشيات المتطرّفة والمنظمّات الإرهابيّة .. البدائل لا تصلح إلا بفصل التمييز الديني والطائفي عن الدولة والمجتمع معا . وبعكسه ، سوف لا ينفع أيّ علاج سياسيّ جاهز ، ولا يعمل أيّ مجلس حكماء مقترح ، ولا أيّ مؤتمر سياسيّ للمصالحة ( الوطنيّة ) ! وليكن صنع القرار عراقيّاً مئة في المئة بعيداً عن أيّة أجندة اجنبيّة طارئة .. إن الفوضى العارمة التي وجد العراقيون اليوم انفسهم عليها ، مع افتقاد ثاني مدينة في تاريخ العراق بحاجة ماسة إلى ضرورات سريعة تخص إعادة بناء المشهد السياسي على أسس وطنيّة جديدة .

إن مستقبل العراق بأيدي العراقيين ، فماذا تريدون؟ إن العراق لو انقسم ، فسيأتي حتف أهله من الوجود . – لا سمح الله - !

فهل وصلت رسالتي المتواضعة إليكم ؟

 


نشرت في صحيفة المدى البغدادية ، 10 تشرين الثاني / نوفمبر 2014 ،
http://www.almadapaper.net/ar /

ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com



* استاذ التاريخ الحديث والفكر المعاصر
Sayyarjamil1@hotmail.com

مؤرخ عراقي مقيم في كندا

 

free web counter