| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سنان أحمد حقي

 

 

 

الخميس 8/12/ 2011

 

البصرة الحزينة

سنان أحمد حقّي *

أرخى الحزن سدوله على بصرتنا الوادعة والخجولة
واحدا بعد الآخر من أبرّ أبنائها وأكبر عشّاقها ومحبّيها يغادرونها بعد أن مدّوا في ترابها جذورا تعمّقت في ظل الحنان والتواضع والزهد والعلم والثقافة والصداقة والأصالة .

أهو موسمٌ أصبح فيه ماؤها غوراً وتحوّلت تربتها إلى سباخٍ محض وهواؤها ازداد وخامة وتلوّثا!
كلّ يوم يغادرها أحد أصفى وأنقى أبنائها ولا يولد لها مثيلٌ له!

كلّ من عاش فيها أحبّها على رطوبتها وجوّها اللاهب شديد الحرارة فقد أصبحت درجة الحرارة فيها تصل إلى 55 درجة مئويّة أو سيليزيّة معظم أيّام تموز وآب وزحف الحرّ على أيّام أيلول أيضا ويزيد مع عدم توفّر الطاقة الكهربائيّة وازدياد نسبة الرطوبة التي قد تصل في بعض الأماكن 90 أو 100% أو يزيد كما في منطقة الفاو ولكنها البصرة وكفى .

لم أكن من تلامذته بشكل رسمي أي لم أنتظم في أحد صفوفه مع أنني أندم وأتأسّف ويا ليتني كنت كذلك ، ولكنني فعلا من تلامذته بواسطة تلك الجلسات واللقاءات الحميمة والتي تعلمنا الثقافة بواسطتها .

تعرّفت عليه عن طريق مهدي وعبد الخالق محمود وعبد الخالق معتوق وبعض المعارف ، كنت في أوّل الأمر يعيقني احترامي له من التفاعل معه بالودّ المباشر فهو أستاذ كنت أراه في مدرستنا وأنا طالب لكنّه كان مسؤولا عن عدد من الصفوف الأدبيّة ولا أدري لماذا كنت أعتقد أنّه مدرّس لغة إنكليزيّة وتبيّن فيما بعد أن عددا من الناس كانوا يعتقدون كذلك ربما لأنه أنيق وأبيض البشرة بل أشقر ويُسرّح شعر رأسه بشكل كان كما لو يراعي الموضة ثم أنني فيما بعد علمت أنه كاتب مرموق فزاد حيائي ولمّا علمت عنه أكثر فأكثر مثل كونه مناضل من الجيل الأول فقد تحفّظت جدا من الإنطلاق معه في المجالس التي كانت تجمعنا ولكنّه كان بكل معنى الكلمة ظريفا أي جنتلمان وكان سريع البديهة مرحا مثقّفا جدّا وتكاد ذكرياته عن جيل من الرواد واللامعين لا تنتهي فله ذكريات مع الأدباء وقد أقول معظمهم وخصوصا الأسماء اللامعة ومع السياسيين على اختلاف توجهاتهم ومع شخصيات عربيّة كثيرة جدا ولهذا ولغيره من الأسباب فإن أحاديثه كانت لا تُملّ وإذا أضفنا لها روح الدعابة التي كان يتمتّع بها فإننا كنّا نقضي معه أمسية مهما طالت فإنها قصيرة وقد لا نغادر كل أمسية إلى بيوتنا قبل الساعة الثانية أو الثالثة وأحيانا الرابعة فجرا وكان في مثل تلك الأوقات قد عمل حسابه كما يُقال فالسائق راضي ينتظرنا في منتصف شارع الوطن ليقلّنا جميعا كلاّ إلى بيته دون أن نحتاج لنصف له بيوتنا .

وكم كان بعضنا يحتفظ بمواقف مضحكة لما يصادفه من مفاجآت صباح اليوم التالي خصوصا أن عليهم مباشرة دوامهم في مدارسهم في الأوقات المحددة، وحدث فيما بعد أن أصبح مشرفا تربويا ومعظم جلسائه من المدرسين الذين عليه متابعتهم .
كان هو سيّد أي جلسة لما كان يضفيه على الحديث من حكايات وطرائف لا تنتهي .

كأنّه الآن أمامي
كل يوم يخصّنا بحكاية جديدة من حكاياته وهو جليسا ربما أمتع منه كاتبا لو أغفلنا جمال لغته العربيّة ومن أولى حكاياته أنه كان يوما ما مكلّفا باستقبال أحد أبرز أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي ومرافقته إلى حيث يسكن وكان في زيارة للبصرة وبعد أن أتمّ الإستقبال وأظهر الإحترام وركبا في سيارة من سيارات الحزب واتجها إلى حيث يأخذ قسطا من الراحة وإذا بالسيارة التي تقلهما تقف فجأةّ بعد أن انفجر أحد إطاراتها وتوقّفت تماما أمام باب متصرفيّة اللواء تماما وأمام الحرس بالضبط وحار في ما يفعل ولكنّ الضيف يبدو أنه كان متعّودا على المواقف المحرجة فظلّ ساكنا تماما وكأن شيئا لم يحصل ونزل السائق وركّب إطارا جديدا بكل هدوء وأعادا ركوب السيارة وتحرّكت دون أن يوجّه المسؤول لهما أيّ عتاب أو كلمة لوم وعند الوصول نزل من السيارة وكأن شيئا لم يحصل أبدا وطبعا محمود أديب بارع فقد وصف لنا رباطة جأش ضيفه هذا بفنٍّ رفيع ومهارة قصصيّة فائقة .

كان في يوم من الأيام قد أعدّ مقابلة إذاعيّة للمطربة الكبيرة فيروز وقد دامت المقابلة ثلاث ساعات وربما كان يحتفظ بها إلى وقت قريب ودار بينهما حوارٌ طويل كلّمنا عنه وعن انطباعاته عن تلك المطربة التي كنّا نستعير وصف إبن الرومي للمغنية وحيد للتعبير عن أدائها وصوتها الفردوسيين ونتذكّر:

فتغنّي كأنها لا تغنّي............ من سكون الأوصال وهي تميدُ

واستغرق الحديث عنها سهرة كاملة طالت شاطئ الفجر .

إنه كاتب وقاصّ متمكّن من أدواته تماما ومقتدر من طراز الرواد الأوائل ولكنّه متواضع جدا مع قدرة على فرض احترامه وهيبته رغم تبسّطه ومرحه ومزاحه .

ففي أحد الأيام طلبته الجامعة ليلقي بعض المحاضرات على عدد من طلبة قسم اللغة العربيّة فيها وفي نفس الوقت حضر زائرون من المغرب أو من أحدى الدول العربيّة يحملون توصية من الوزير تمكّنهم من اختيار أي أستاذ يشاؤون لإعارته إلى تلك الدولة وبعد أن زاروا عددا من الجامعات العراقيّة قاموا بجولة في أروقة جامعة البصرة ثم انصرفوا وبعد أن قابلوا رئيس الجامعة أخبروه أنّهم لا رغبة لهم في أحد من الأساتذة إلاّ بدكتور أعجبهم جدّا وهم يطلبونه بإصرار ووافق رئيس الجامعة بناء على توصية الوزير ولكن تبيّن أنّ المقصود هو الأستاذ محمود وهو طبعا ليس على ملاك الجامعة ولا هو بدكتور بل هو على الملاك الثانوي فتفاجأ الزائرون وابتسم الحاضرون.
 
يحدّثنا بأسلوبه الجميل عن شخصيات شعبيّة وما أكثرها في محلّتي يحيى زكريّا والسيمر ويصفهم بدقّة متناهية تُبقيهم في ذاكرة الجالسين أمدا طويلا .

واجتمعت لديه طرائف كثيرة بسبب طول ممارسته لمهنة التدريس ومنها ما ظلّ يُضحكنا أمدا طويلا جدا .
هو أنيقٌ في سلوكه وكلامه وملبسه وأخلاقه وكتاباته وعلاقاته الإنسانيّة .
هو شئ أو جزءٌ من البصرة لا ينفصم عن بساطتها ولا عن صمتها ولا عن تواضعها ولا عن تحمّلها لصنوف المتاعب والعذابات ، عطف وحنى على عدد من المبدعين حين انفضّ الناس عنهم  .
ولا أدري من بقي من هذا الرعيل؟ فبعضهم قضى وبعضهم هاجر وبعضهم طواه النسيان ولكنهم كلهم قدّموا لبلادهم أكثر مما يتمكّن الوصف والذكر الطيّب تقديمه .
وأشكّ في هذه الأيام المجدبة أن تلد البصرة رعيلا كهؤلاء :
محمود عبد الوهاب، مهدي محمد علي، محمود البريكان، بدر شاكر السياب، عبد الخالق محمود وآخرون احتوتهم المهاجر والمنافي وغيرهم ممن كان ومازال يحاول العوم وسط أشدّ أنواع المعاناة والحرمانات .

فالبصريّ لم يعد يجد في تجواله في البصرة من يردّ عليه السلام!

(بعُدنا عن النخلِ ها هي شمس القرى تملأ النخلَ غابا من الريش أحمر) ـ سعدي يوسف

 

دهوك في 8/12/2011

 

* مهندس ومنشغل بالثقافة

 

 

free web counter