| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سنان أحمد حقي

 

 

 

الأحد 29/1/ 2012

 

مهدي محمد علي.. شاعرٌ وليس كاتبُ جنّة البستان فقط !

سنان أحمد حقّي *

مهدي محمد علي شاعرُ من طراز أولئك الشعراء الذين وُلدوا شعراءَ بالفطرة وليس كأولئك الذين اكتسبوا صفة الشاعر بالدراسة والثقافة والتدريب، ولا يعني هذا أنه ليس مثقفا أبداً ولكن شاعريّته أو صفته الشعريّة تأثّرت بثقافته كما حدث بالنسبة لبدر شاكر السياب ومثل هذا الطراز من الشعراء لا يبدو أن عددهم كثيرٌ هذه الأيام إذ يجب أن تبدأ بموهبة متدفّقة وغنائيّة بادية وتلقائيّة وعفويّة منسابة تبريها وتنحت ملامحها الثقافة والدراسة ولا يستطيع مثل هذا شعراء كثيرون من نمط الذين ذكرنا ممن اكتسبوا صفتهم الشعريّة بالدراسة والثقافة ولولا رغبتي في عدم ذكر الأسماء لتجرّأتُ على ذكر شعراء كبار في عالم اليوم ممن يتبوّؤون مكانة رفيعة في عالم الشعر في الوقت الذي يفتقر شعرهم إلى الغنائيّة والتلقائيّة ولا يستطيع أحدٌ أن يحفظ شيئا من شعرهم ولا أن يردّده بينه وبين نفسه ولا يصلح كثيره للتغنّي أو الإنشاد .

وفي هذا المقال القصير لا أنوي أن أستعرض شعر الراحل أو أن احلّله خصوصا في ظلّ عدم توفّر دواوينه المنشورة وخصوصا ما كتب في الفترة المتأخّرة .

لكنّني أودّ الإشارة بشكل عريض إلى أن كتابه (البصرة جنّة البستان ) لا يمثّله كشاعر وكمبدع رغم ما قدّمه فيه من أدب رفيع وذكريات دقيقة ممتعة إذ أنه شاعر بالأساس وشاعر يستحقّ دراسة جادّة لشعره منذ أوّل قصيدة كتبها في حياته وحتّى آخر قصيدة وعندما نستحضر مهديا سواءً في كتاباته أو شعره نجدهُ أديبا حقيقيا شفاّفا سواءً في شعره أو نثره فأذنه تلتقط نغم الكلمة وكاميرته تلتقط الملوّن من المفردات الدقيقة ونستطيع ببساطة أن نتعرّف على مشروع شاعر كبير .

ولكنّه تأثّر كثيرا بالمدارس الحديثة كما تأثّر في مسار حياته ببعض الشعراء من الأسماء اللامعة وكان كلّ هذا من شأنه أن يدفع به قليلا خارج ملكاته ومواهبه التي كان عليه أن يعيها ويلتزم بتطويرها لا أن يتأثّر بما يكتبه الآخرون ممن يفتقرون لما يماثل ملكاته الشعريّة الحقيقيّة وكان عليه أن يتطوّر دون أن يترك غنائيته وتلقائيّته التي بدأ بها بسبب محاولاته السير مع المسار الجمعي إذ أن الأدب وبخاصّة منه الشعر يحتاج إلى تلك العناصر والخصائص الذاتيّة وليس كما فعل آخرون عندما أغفلوا الوجدان والخصائص الذاتيّة بدعوى اللحاق بالموجة سواء ما كان عربيا أو عالميّا فنحن جميعا نعلم أن الأدب يتعامل مع الخاص والعام من خلال الخاص أي تقديم النموذج الخاص الذي يقدّمه العام ومن خلال منظوره سلبيا أو إيجابيا وليس العكس والأديب غير معني كالعالِم بتقديم العام من خلال الخاص ولكنه معني بتقديم الخاص من خلال العام كما ذكرنا .

كما أنني وبشكل سريع آخذ عليه أنه سارع بالنحو منحى الشعراء الكثيرين بالتحرّر من قيود الشعر المختلفة فبعد أن انتهج منهج الشعر الحرّ وضرب أوزان الخليل سارع للإنتماء إلى شعر وقصيدة النثر وكان عليه أن يتأنّى لئلاّ ينزلق في الإندفاع نحو النثريّة مع أن نثره جيّد جدا كما قلنا ولكنّه في النهاية شاعرُ وشاعرُ بالفطرة وهذا شيٌ ثمين ما كان عليه أن يفرّط به .

أنا أعلم أنه كتب في مقتبل حياته الأدبيّة شعرا بسيطا ولكنّه جميلُ إلى حدّ كبير ولكن اندفاعه إلى الحداثة وانتهاء بعض أعماله إلى التماهي مع ما بعد الحداثة سيرا على هدى بعض أقرانه ومن تأثّر بهم وكان عليه أن لا يفعل .

من يريد أن يتعرّف على مهدي محمد علي أديبا وإنسانا برأيي يجب عليه أن يتعرّف عليه شاعرا أولاًّ وقبل كل شئ والمرور على ما تركه من شعر في كل الفترات والحقب ويدرسه ويُحلّـله ليكتشف مشروعا لشاعر كبير ولِدَ بالفطرةِ شاعرا وسعى وكرّس حياته كلّها ليكون شاعرا حقيقيا  وتعامل مع كل الظواهر ومحتويات الشأن العام والتخصّصي بلغة الشعرولكن حياته كانت قاسيةً ولم تمنحه ما منحت لغيره من الحظ والفرص الكافية ليبري لنفسه ولشعره أقلاما وينحت بها في جدار هذا العصر المتلاطم آياته الخالدة وقد أخطأت الدنيا معه كما أخطأت معنا كلنا سواء كنّا شعراء أو أدباء أو فنانين أو أيّاً ما نكون كمبدعين من المتعاملين مع العلوم أو الآداب أو الفنون أو الشأن العام، ولكنّه كما مازجت روحي روحه الخالدة وجدته شاعرا فعلا وقد خُلقَ شاعرا ومات شاعرا رغم الضيق و التعسّف وقد سعى إلى الحريّة بكلّ ما أوتيَ من قوّة وحبّ وإن لم تبادله ذلك الحبّ إلاّ بالجفاء ونكران الجميل.

ليس كتاب جنّة البستان هو أهم ما ترك لنا مهدي محمد علي بل إن شعره هو الذي يمثّل ذلك الشعاع الخالد لشاعر نقش إسمه بصعوبة بالغة في جدار العصر كما ذكرت.

وإن شئنا أن نستذكر مهديا شاعرا أو إنسانا أو مناضلا أو أخا وصديقا أو أن نحيي ذكراه فما علينا إلاّ أن نبدأ بما ترك لنا من شعر ثم نأتي على ما ترك من نثر ومن ضمنه جنّة البستان ذلك الكتاب الممتع التي نسجته ذكريات واعترافات شخصيّة سطّرها بمداد من الشجاعة والقدرة الأدبيّة ولكن شعره أوّلا فهو حياته وصفاته ومنجزاته ولا أحسب أن ما حدث من تقديم جنّة البستان على سائر شعره قد حدث بإهمال لحقّه أو إزاحة له عن مساحة الشعر والشعراء أو حسداً من ( أنفسهم) ولكنّه شاعر .

هو شاعر منذُ أن وُلِدَ وحتّى آخر لحظة من حياته ولا يمكن أن يكون غير ذلك وأختم مقالي البسيط هذا بأن أقول إن سطرا واحدا من الشعر الجيّد يمكنه أن يبدّد أحدث الأساليب المقترنة بالتشفير وادعاءات التنظير وتجارب شعريّة لا  يُبتغى منها سوى طرق أبواب جديدة وإن كانت بائسة .

إن مهدي محمد علي شاعرُ قبل كل شئ وعلى من يريد أن يتعرّف عليه أن يطرق أبواب شعره ولا يكتفي بجنّة البستان على ما فيها من أدبٍ رفيع إذ أنه شاعرٌ .

شاعرٌ قبل وبعد جنّة البستان إلاّ إذا لم يقرأ  من يُحيي ذكراه ويأسى لفقده شعره بعد، ولا أظنّهم كذلك!

 

* مهندس ومنشغل بالثقافة

 

 

free web counter