| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سنان أحمد حقي

 

 

 

الأربعاء 27/3/ 2013


 

المساومة في العمل السياسي..!

سنان أحمد حقّي *

كتب الزعيم البروليتاري الكبير لينين في كتابه عن مرض اليسارية الطفولي في الشيوعيّة وفي معرض تعليقه على إتفاقية بريسك يقول مع بعض التصرف والشرح أن هناك مساومتان أحداهما مساومة مشروعة والأخرى غير مشروعة فالأولى ، وضرب لها مثلا قائلا : أنه لو تعرّض أحدهم إلى بعض قطاع الطرق وطلبوا منه هويته وما في حوزته من نقود أو أنهم يقتلونه فإنه لن يُلام لو أعطاهم ما أردوا في سبيل أن يذهب في طريقه آمنا سالما ولن يُقال له أنه أقدم على مساومة غير مشروعة إذ أن سلامته وحياته لا شك أثمن بكثير من جميع ما أخذوه منه .

وهذه مساومة مشروعة بالتأكيد
أمّا لو أن هذا الشخص نفسه لم يكتفِ بإعطائهم النقود والهوية بل طلب إليهم أن يُصبح واحدا منهم وأن يقوم بأعمال قطع الطرق وتسليب الناس فهذه مساومة بالتأكيد ليست مشروعة .

وقبل أن نتطرّق إلى كون المساومة إحدى أدوات العمل السياسي
يمكن أن نضرب مثلا أعلى مما ضربه لينين حول معاهدة بريسك وهو عقد النبي محمد ( ص) لصلح الحديبيّة والذي تنازل فيه لقريش عن الحج والزيارة للعام الذي عقدت فيه وعلى أن يعود المسلمون للحج في العام القادم وقد إعتبره كثير من المؤرخين ضربا من المساومة الناجحة رغم أن المسلمين قد تنازلوا لقريش ألاّ أن السماح لهم في العام التالي بالحج من دون معارضة يُعتبر نصرا تفاوضيا كما أنه تم حقن دماء المسلمين وتم ضمان سلامة مفاوض الرسول( ص) عثمان بن عفان لأنه كان قد تم إحتجازه لدى قريش وضمن الصلح إرساء قواعد لسلام سيدوم عشر سنوات من تاريخه وبنود الصلح معروفة ولا داعي للخوض في تفاصيله ، ولكنه بالتأكيد صلحٌ يمثل مرحلة مهمة في السياسة الإسلاميّة ويمكن أن يُضرب به مثلا على المساومات المشروعة والتي وصفناها آنفا.

إن مبدأ المساومة هو أحد أدوات السياسة
والمساومة لغويا هي المجاذبة بين البائع والمشتري حول ثمن السلعة الذي يُرضي الطرفين ولهذا فكلنا يُمارس المساومة كل يوم تقريبا من حيث هذه المعاني اللغويّة أمّا سياسيا فلها معاني قريبة من هذه المعاني البسيطة وهي إحدى أدوات العمل السياسي وأدوات التفاوض والحوار أيضا .

ومن جانب آخر فإن غاية السلطات المحليّة أو السياسة الداخليّة ليس من المطلوب أن تستهدف إخضاع إرادة المواطنين جميعا إلى إرادة السلطات الرسميّة فهذه ليست غاية الدولة بل المطلوب سيادة القانون والقانون لا يستلزم إخضاع إرادة المواطن لأية إرادة سوى إرادته ، فإذا ما توفّرت أية فرصة للمساومة فإنه من المطلوب من السلطات أن تدخل في مساومات مشروعة مع من تجد أنهم يخرقون النظام أو القانون أو يتعرضون عن عمد أو بالمصادفة إلى متطلبات سلامة المجتمع والأهداف والقيم العامّة والرئيسة التي يمثلها القانون .

وهناك نوعان من المواجهة غالبا ما تتخذها الدول والحكومات في التعامل مع جميع ما يُعرّض السلامة الوطنية للخطر فإن كان مصدر تلك الأخطار خارجيا ولم تكفل الوسائل السياسيّة ولا الدبلوماسيّة الوصول إلى حلول فإن الحرب هي الحل النهائي وهو حل له متطلبات كبيرة وواسعة وتحضيرات واستعدادات مكلفة تشمل جميع جوانب الحياة العامّة تقريبا مع أن ذلك يعتمد على نوع وحجم تلك المواجهات والحرب كما يُعرّفها الخبراء والمعنيون هي محاولة أحد طرفي الصراع لإخضاع الطرف الآخر لإرادته وهذا يعني إكراه الطرف الآخر على التخلي عن منهجه واختياراته بل وإرادته والخضوع كليا إلى إرادة وطموحات ومصالح الطرف الآخر .

ولكن الأمر في الصراعات الداخليّة المتنوعة يختلف عن هذا كليّا إذ أن الأطراف المتصارعة أو المتنازعة في المجتمع الواحد لا تنتهي بالضرورة إلى الحالة الموصوفة في الصراعات الخارجيّة فليس من المطلوب إخضاع طرف كليّا إلى إرادة طرف آخر وليس ذلك مطلوبٌ في الأعم الغالب أي أن أطراف الصراعات ولا نحبّذ تسميتها بالصراعات بل الإختلافات الداخليّة تنتمي إلى مجموعات مشتركة ومصالح متقاربة وأهداف في العموم تكون أقرب من بعضها من تلك المكونات المنفصلة إجتماعيا فالمكونات السياسية في المجتمع الواحد ليس بالضرورة أن تتحكم فيها تناحرات تؤدي إلى الفصل بينها كليا تصل معها إلى حالة الإستقطاب الشديد فقد تتنازع مكونات سياسية مختلفة وتظل مكامن الإختلاف قائمة وفي نفس الوقت يمكن أن تبقى عناصر كثيرة مشتركة قائمة بينها وتبقى تمثل مصالح مشتركة للجميع .

أي أنه على العكس من جميع أنواع الصراعات الخارجيّة فإن الصراعات الداخليّة لا تستلزم بالضرورة إخضاع إرادة أحد أو طرف لأي طرف آخر لا سيما وأن صاحب المصلحة الأساسيّة هو النظام العام والسيادة الوطنيّة وهي أيضا تمثل مصلحة مشتركة لجميع الأطراف الوطنيّة أو هكذا يُفترض .

ومع أن المساومة المشروعة مطلوبة في حل النزاعات الخارجيّة أيضا لكنها مطلوبة أكثر من ذلك في فض النزاعات الداخليّة بما يُغني عن إستخدام القوة بهدف إخضاع أي طرف لإرادة طرف آخر حتّى ولو كان يمثّل الحكومة أو الدولة وهذا كله يرجع إلى أن الجهات السياسيّة التي تمثل الدولة هي جهات متغيّرة ويمكن أن تستلم سوط السلطة أية جهة من الجهات السياسيّة الداخليّة وعندذاك تتحوّل المشاكل الداخليّة إلى مركب معقّد من الإنتقام والثأر الذي يُشكل في النهاية مسلسلا طويلا يكاد لا ينتهي ولا يُفضي إلى أية نتائج متوخاة.

ولنا في بلادنا أمثلة كثيرة وعديدة على عدم صواب إستعمال القوة بهدف إخضاع طرف ما لإرادة طرف آخر ومنها وهو على سبيل المثال لا الحصر جنوح مختلف الحكومات إلى معالجة القضيّة الكرديّة على مثل هذه الأسس فما إن إنطلقت أولى المطالب الكرديّة حتى شرعت الحكومات إلى معالجتها بالقوة والسلاح واستخدام القوات المسلحة وهو هدف واضح يُراد باتباع تلك الوسائل إخضاع الجماهير والقيادات الكرديّة إلى إرادة القيادات السياسيّة المركزيّة ولم يحدث هذا مطلقا بل أن القضيّة أصبحت تتعقّد وتكبر كلما تقدّم الزمن أي بالضبط كما يُقال عن كرة الثلج التي تكبر كلما تدحرجت .

إن مبدأ المساومة والحوار والتجاذب الذي تتسم به عمليّة دراسة المطالب في ضوء الإمكانيات المتوفرة وبروح الأخوة وبإدراك الطابع القومي والفوارق القائمة كان بإمكانه أن يحل القضيّة بشكل أفضل بكثير مما آلت إليه الأوضاع فيما بعد وكلفت البلاد أنهارا من الدماء والفواجع وإنفاق الثروات الهائلة التي لا يمكن حصرها وكل ذلك كان على حساب تقدّم البلاد وتحسين الخدمات ووضع الشعب على خط التقدم والرقي بدلا من خط الفقر والمرض والجهل الذي ما زال يرزح تحته بل إزداد فيه زيادة دراماتيكية كبرى .

إن المملكة المتحدة وهي من أهم وأقوى دول العالم وتمتلك تراثا سياسيا متنوعا وخبرات واسعة عندما تواجه المطامح الإرلنديّة فإنها غالبا ما تقدم جانب المساومة على المعالجات العسكريّة وعندما تضطر أو يُخالج مسؤوليها إمكانية الحل العسكري فإنها سرعان ما تتخلى عنه وتعود إلى الحوار والتفاوض وكل هذه المحاور تتطلب إعتماد أدوات المساومة لأنها الأدوات التي تحقن بها الدماء وتصل في النهاية إلى أهداف مشتركة مقنعة للجميع بما لا يمكن الوصول له عن طريق الحل بالقوة وحدها كما أن كل الحلول العسكرية وغير العسكرية تنتهي عادةً بإتفاقيات وعهود سلمية تكون مختلف الأطراف راضية فيها وهذا هو أفضل السبل وأقصرها إلى طموحات جميع مكونات المجتمع وهو صاحب الحق الشرعي في التصرف والسيادة .

وغني عن القول أن المساومات كلما كانت حرّة وغير مقيّدة وفي أجواء طبيعيّة غير مشروطة كانت النتائج أطول مدى وتتوفر لها القدرة على الديمومة ويمكن أن تعمّر أطول كما هو الأمر بين البائع والمشتري على ضوء المثال الذي قدمناه في مطلع مقالنا هذا .

وتتطلب المساومات المشروعة في كثير من الأحيان بعض القدرات والإستعدادات لتقديم تنازلات متقابلة لا تخرق حد المشروعيّة لكي يظل كل طرف يشعر أنه عقد صفقة رابحة وصحيحة رغم ما قدّمه من تنازلات متقابلة وهذا أمرٌ ممكن وحدث كثيرا في عدد من المواثيق والمساومات التي أدت إلى مواثيق خالدة كما وضّحنا في المثل الذي ضربناه حول صلح الحديبية بين النبي محمد ( ص) وقريش وكذلك في المثل الآخر الذي قدّمه لينين عندما تحدّث عن معاهدة بريسك والتاريخ يقدّم لنا أمثلة لا يمكن حصرها هنا على عمليّة وصحة أداة المساومة في حل المعضلات السياسيّة المختلفة بشرط أن تكون مساومة مشروعة أي بالضبط كما ضرب لها لينين مثلا كما تقدّم .

إنني أدعو بكل تواضع مختلف القيادات السياسيّة في البلاد وعلى رأسها القوى التي تستلم إدارة البلاد أن تـُفعّل إستخدام أدوات المساومة في حل المشاكل والمعضلات السياسيّة الداخليّة كلما أمكن ذلك وكلما أتيحت الفرصة وقبل بها أي طرف من الأطراف المعارضة أو المختلفة ومهما كان إتجاهها وتغليب هذه الأدوات على أي من أدوات إخضاع الإرادة التي تتضائل أهميتها في النهاية كأدوات ناجعة في الوصول إلى حلول لها ديمومة وعمر طويل .

إن تكاليف الحلول العسكريّة واستخدام القوة باهضة جدا فضلا عن تعريض وحدة البلاد والعباد إلى المجهول ولا ننسى أننا نتعامل في كل الأحوال مع أبناء الوطن الواحد وجميعهم يجب في النهاية أن يحظوا بالكرامة والحقوق المتكافئة مهما طال الزمن ولكن إستخدام كل الأدوات دون أداة المساومة لا يخلّف سوى الأحقاد والكراهية ويكبّد البلاد نفقات وهدر للثروات فضلا عن الدماء من قبل كل الأطراف ولا ينجم سوى تعطيل الحياة الطبيعيّة ودوام التخلف والتراجع عن مسيرة الإنسانية نحو الرقيّ والوقوف إلى مصاف الشعوب المتطلعة إلى الحياة الأفضل .

بكل تواضع وباحترام شديد وحب وبكل ما أملك من نبذ للبغضاء ومشاعر الكراهية أو غيرها من مفاهيم الحط من الشأن فإنني أدعو كافة الجهات السياسيّة إلى عدم الإستهانة بمبدأ المساومة المشروعة والتحلّي به في فض النزاعات وحل المشكلات ولا سيما الوطنيّة منها بهدف ترصين الصف الوطني والإستعداد إلى بناء البلاد على المنهج القويم ، ونحن اليوم أحوج ما نكون له في ظل الأزمات المتوالية والنزاعات المتفاقمة .


أبعث بتحياتي إلى جميع الفصائل السياسيّة التي تقود السلطة اليوم وكذلك إلى المكونات التي تقف في مواجهة مواقف المكونات التي تقدم ذكرها وجميع الذين لهم إهتمامات في الشأن السياسي والوطني وأرجو إيلاء هذا الموضوع ما يستحقه من أهمية وترك أي حلول أخرى تقوم على الرغبة في إخضاع إرادة الآخرين لأي طرف مهما كان فالحرية هي المادة الخام للديمقراطيّة وكرامة المواطن وحقوقه العامّة تتطلب كل ذلك بل تستلزم إستخدام مبدأ وأداة المساومات المشروعة كبديل لأي خيار آخر ما دام مطروحا .

 

 

* مهندس ومنشغل بالثقافة

 

 

free web counter