| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سنان أحمد حقي

 

 

 

السبت 15/10/ 2011

 

بورتريت سريع للشاعرالراحل عبد الخالق محمود!

سنان أحمد حقّي *

مرّةً أجد ملامحه في الموسيقي كمال الطويل إذ أجده يشبهه أحيانا، ومرّةً في بعض أوضاع للملحن الشهير فلمون وهبة فيما عدا مشاهده الكوميديّة،وقد أجده في ملامح الشاعر صلاح عبد الصبور ؛ كان يحبّ الغناء لا سيما على مائدة النشوة ويفهم في شئ من المقام العراقي ويجادل فيه إن كان عن يقين أو للتحبب فيه فقط  إذ أن النقاش في المقامات العراقية يصبح أحيانا كثيرة متعة إضافيّة، أحبَّ الشعر جدا وقرأ فيه كثيرا ولكنه عشق لوركا جدا وأحبّ سعدي يوسف والبريكان وبدرا كثيرا كما فعل معظم أبناء جيله . تعرّفت عليه في عهد الصبا وفي المرحلة المتوسطة مع شلّة قليلة من الأصدقاء منهم عبد الحسين عبد الله الذي هو الآن الدكتور عبد الحسين والذي كان مهووسا بعلم العروض في تلك الأيام وقد برع فيه فعلا ومعنا مهدي محمد علي وبعض زملاء الدراسة، وعبد الخالق كان في بداية الأمر مثابرا محبّا للحياة مجتهدا في المدرسة  ومن جملة المميّزين لدى أستاذنا الأثير فيصل عودة وقد لازمه فترةً طويلة صديقنا عبد الخالق معتوق فكنّا نجد في إسميهما وتلازمهما كثيرا من الحكايات الطريفة التي يتذكّر بعضها ولا شك الأستاذ الشاعر عبد الكريم كاصد وأستاذنا الكبير محمود عبد الوهاب، وأذكر أنه كان من طلاب الأستاذة الكبيرة نازك الملائكة عند دخوله الجامعة وأن الشاعرة المذكورة كانت تلاحظ نشاطه ومثابرته وموهبته ولكن ذلك فاق ما كنّا نتوقّع فقد تميّز لديها في الموضوعين الذين تحاضر فيهما وهما النقد الأدبي وعلم العروض ومن العجب أن الشاعرة الأستاذة كانت متشدّدة في الدرجات..أو كما يقولون(بخيلة في الدرجات) إلاّ أنه أحرز في كل من هاتين المادتين لديها 100% وهذا أمر عجيب لأنها لا يمكن أن تمنح مثل هذه الدرجة ببساطة أبدا ولا سيما النقد الأدبي ! وقد حدّثني (عبد،وهكذا كنّا نناديه) أنه في الإمتحان النهائي لمادة علم العروض وجد أحد الأسئلة يستلزم تمثيل بعض البحور أو مجزوءاتها النادرة  والمهملة ويقول ( أنه لمّا لم يجد فيما يحفظ من الشعر أي بيت يمكن أن يضربه مثلا لهذا البحر المجزوء أو المهمل نوعا ما، توقف قليلا ثم وضع بيتين من تأليفه هو ، في ساعة الإمتحان) وللأسف لم أعد أتذكرهما  رغم أنه قرأهما عليّ أكثر من مرّة وربما يكون الدكتور عبد الحسين عبد الله يتذكّرهما فهو ذو ذاكرة قويّة جدا ونظر ضعيف!فقط !، وجاءت الدرجة 100% وهي لا تزال كما هي في وثيقة درجاته المحفوظة في الكليّة كما روى لي عندما استخرج يوما نسخة منها.

لم تتدهور صحّته قبل أن تتداعى أركان حريّته التي كان شغوفا بها وحريصا عليها جدا، يكاد يخفيها بين ثنايا أسطر شعره الذي كان فيما مضى يحرص على سريّته .

مزاحه ونكاته كانت سخرية وتورية تسخر من فقدانه معظم الأصدقاء وتعذّر مواجهة القهر الإجتماعي والثقافي والكبت الفكري ومن مواجهة الخوف وإن لم يكن أحدٌ يستطيع أن يُشير إليه بهذا

لو كان قد شغل نفسه بالإلتحاق بأية دراسات جامعيّة عليا فأنا كنت أعتقد أنه ربما كان مساره مختلفا فيما بعد

إنه مثال مجسّم للإنسان الذي يفقد الحياة وهو ما يزال فيها ويفقدالحريّة التي لا بديل لها إطلاقا،كيف؟ وهي الغيث الذي يسقي الإبداع فإن انطفأت ؛ فإن جذوة الإبداع تنطفئ لا محالة.

كان طيب القلب جدا بسيطا ومتواضعا  ومتعلّقا بأمّه كثيرا حتّى بعد مفارقتها الحياة،وجدته يؤثر علاقته بالأستاذ محمود عبد الوهاب على جميع أصدقائه ومعارفه وهو محقّ في ذلك، إذ أنه أي الأستاذ محمود هو من حمله في النهاية كما بلغني إلى مثواه الأخير كما حمل من قبله الشاعر البصري بدرشاكر السياب وربما في أيام خريفية سابقة تماثلها أيضا، وياله من قدرٍ تقدّر عليك يا أستاذ محمود!؟

صُحبتـُهُ كانت ممتعة لأنه متسامح وساخر ومحبّ للنكتة والنكتة اللاذعة !ويروي عند السهر شيئا من أروع الشعر قديمه وحديثه ويُغنّي وقد يقرأ بعض الآيات القرآنية على طريقة عبد الفتاح الشعشاعي ويحفظ من الأغاني العراقية التراثيّة الشئ الكثير  لقد كان مقدّرا له أن يكون مشروعا أدبيا متفوقا لولا أن هجرته حبيبته بل معشوقته الأثيرة جدا( الحريّة!) في وقتٍ مبكّروجعلته لا يبالي بمفارقة أي شئ سواها.

لقد جسّد ماديّا حب الحريّة وصنع مثالا للحرمان منها!فقد كان حبّا من طرف واحد للأسف الشديد.

وكلنا كنا ومازلنا كذلك فهل يحقّ لنا أن نطالب بعدم إرغام غاليليو على أن يقول أن الأرض ليست كرويّة!وأن لا يحرق احدٌ شعر عمر الخيام بعد الآن؟وأن لا نعيش مرّة أخرى حياةً نجد أحدا منّا يضطرّ أن يعيد فيها كتابة رواية (المسخ ) لكافكا!

لقد أجاب هاملت الفتى الذي دسّه عمّه عليه ليعلم بواسطته مقدار ما كان يعلمه! قال: هل تعزف لي شيئا على هذا الناي؟ فأجاب الفتى بالنفي وهنا قال هاملت: إذا كنت لا تستطيع أن تُخرج صوتا من هذه الخشبة فكيف تستخرج سرّا من قلب إنسان؟

رحمك الله يا عبد الخالق محمود.

وألف رحمة على كل من لم يُتمّ مشواره الذي وُلِدَ من أجله!فلربما كانت ميتة الشهداء!؟

 

* مهندس ومنشغل بالثقافة

 

free web counter