| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سنان أحمد حقي

 

 

 

الأثنين 14/5/ 2012

 

أم عوف..! وغرائب وخفايا..!

سنان أحمد حقّي *

إن تقلّب الناس في مجاري الحياة و السياسة جعل أمر الركون إلى سلوكهم وأخلاقهم شيئا متعذّرا فكل يوم كلُّ امرئ في حال وكلّ يوم له وجه يظهر به على الآخرين، كنّا لا نخشى إلاّ الوحش واليوم لا نخشى إلاّ البشر والحكايات والمواقف كثيرة .

ففي أحد الأيام قصدني شخص أعرفه لعلّني أسعى له عند أحد أقربائي في مصلحة وفعلت ووعده الرجل أن يقضيها له ورآى أن يراجعه بعد بضعة أيّام وبعد مضيّ أيّام عديدة لقيت بعدها قريبي وعلمت أنّه قضاها له ولكن قريبي هذا سألني إن كنت أعرف لسلوكه تفسيرا فطلبت التوضيح فقال : لقد زارني صاحبك ثلاث مرّات في الأولى كان يرتدي ثيابا عربيّة بدشداشة وعقال وكوفيّة وفي الثانية كان يرتدي قميصا بنصف كم وقبّعة أمريكيّة كالتي يرتديها رعاة البقر وفي الثالثة كان يرتدي بدلة سوداء وفيونكة ؟؟وعقّب قريبي وأضاف : ففي أيّ مرة كان صاحبك متنكّرا؟

وقد نجد بينهم من يؤمن بأن المجتمع طبقيُّ وأنّه يرى المخرج في النضال ضد الطبقات بهدف زوال الإستغلال ويقف إلى جانب الطبقات المحرومة وإلى جانب الجياع و... ولكنّك عندما تمتحن سلوكه وتصرفاته تجد أنها مثالا ناطقا لأخلاق الطبقات المستغلّة بكسر الغين وأنه يتفنن باستخدام العبارات (Phrases) التي تشيع عن شخوصهم من المترفين حتّى ولو أنه من المعدمين وعندما تمتحن ملبسه ومأكله ومشربه لا تجده إلاّ موافقا لكل ما يُخالف موقفه في كل شئ في اللون والنوع وفي كثير من أمور الترف والبذخ، وقد يقول قائل هذه تصرفات شخصيّة وحرّيات لا دخل لنا فيها ! ولكن ماذا يكون موقفنا لو حضر أحدهم إلى مكتب العمل بملابس رياضيّة ؟ أو دخلت فتاة على محكمة ٍ ما بالمايوه الخاص بالذهاب إلى البلاج أو خرج أحدهم إلى السوق بقميص النوم؟ إن للملبس والمأكل والمشرب ولكل نشاط وفعاليّة إنسانيّة ما يناسبها وليس في هذا ما يعود إلى الفقر أو الغنى ، بل هي الثقافة بعينها أمّا كيف آل الأمر بالناس إلى أن يحترفوا النفاق الإجتماعي والتقلّب في مسرح عريض من الإنتهازيّة السلوكيّة؟ فهذا ما لا أجد له إجابة فاصلة ولكن ربّما تكون كثير من سلوكياتنا الفرديّة والإجتماعيّة قد ساعدت في تنميتها فنحن بدأنا بعبارة (دمشّي) و(دِعبّر) و (دِ يالله) وكلها تعني تساهل وتريدنا أن نتقبّل ما يبدر من الآخر من أخطاء وأنا تعلّمت من مهنة الهندسة أن الإنحراف عن استقامة أي خط مستقيم ولو بأقلّ من درجة ستّينيّة واحدة لو مضينا فيه لوجدنا أن مسافة الإنحراف تكبر كلما تبعنا المسار الجديد على انحرافه وكلما كانت الأهداف أبعد، فلو كنّا نريد أن ننطلق مثلا من بغداد إى سامرّاء وانحرفنا بمقدار نصف درجة كل مائة متر فإننا لن نصل إلى سامرّاء بل إلى مدينة أخرى .

لقد رأيت شخصا بعد التغيير يمنح وثائق رسميّة للناس مقابل مبلغ محدد وعندما يُسأل عمّا يفعله فلعلّه يضرّ بالمصلحة الوطنيّة فيقول : (يا معوّد خلّينا نساعد الناس !) ولكم أن تتصوّروا مساعدة الناس كيف تكون معانيها لو اتّجهت إلى إصدار هويات شخصيّة مثلا أو وثائق أكثر خطورة!

لقد قرأت فيما قرأت في زمن ماضٍ أن أحد الصحفيين الإسرائيليين كتب عن عبد الناصر فقال : أتعلمون ما هي أكبر خطايا عبد الناصر؟ إن أكبرها كان يوم استلم الرئاسة وأصبح مسؤولا عن كلّ شئ وقائدا عامّا للقوات المسلّحة .أنه بقي يتصرّف وكأنه (بكباشي!أي مقدّم) أو بعقليّة بكباشي.

من غرائب البشر أيضا أننا نتصوّر أن الرتبة أو المنصب يوفّر لنا المعرفة بكل شئ فالجندي الساذج يعتقد أنه حين يحصل على نجمة تزيّن كتفه فإنه سيصبح عسكريا يفهم كلّ شئ عن القيادة والعسكريّة ولا يمكن أن تجعله يفهم أن العكس وحده هو الصحيح إذ أنه يجب أن يتعلّم كثيرا ليحصل على الرتبة التي يطمح بها وليس خلافه.

ومما يثير استغرابي أن أناسا ممن سبقونا وممن لم يتحصّلوا على ما يكفي من التعليم أدركوا كثيرا من هذه الحقائق فقد كانت جدّتي تحدّثنا عن رجل بدوي منّ الله عليه بالنباهة والوعي والذكاء والفطنة ولكنه كان فقيرا وكان عندما يدخل مضيف العشيرة لا أحد يوقّره ولا يجد من يستقبله ويُبدي له حّق اللقاء والإستقبال فيجلس في أطراف المضيف وفي أحد الأيام وبعد أن وجد أن أغلب الضيوف هم ممن لا يستحقون كل ذلك الترحيب الذي يلاقونه فلا منطق ولا نباهة ولا سلوك مميّز ولا بداهة جليّة فقرر أن يلبس أفضل الملابس واستعار شيئا وتدبّر أمره وأقبل على المضيف فتم استقباله أحسن الإستقبال والترحيب به أفضل ترحاب واُجلِسَ في صدر المجلس وأخذ الجميع يستشيرونه ويسألونه رأيه فلمّا حضر الطعام وباشر الناس بتناوله أخذ صاحبنا بتلابيب رداءه وغمسها في الطعام وهو يقول : (كل يا زبوني أي ردائي)، ولمّا استغرب الحضور أمره وتوقّفوا عن تناول الطعام أردف قائلا : (نعم ! أنتم وقّرتموني لردائي وملبسي ولهذا فإن ردائي أجدر بتناول الطعام منّي) .

وليس الهدف من قولنا إعتبار أو عدم اعتبار الزيّ والملبس بل أن نعرف أن الناس والرجال مخابر وليسوا مناظر وانظروا إلى أغلب القادة الكبار والفطاحل الذين غيّروا التاريخ فهل كانوا بالضرورة أصحاب مناصب أو رتب ليتمكّنوا من إنجاز ما أنجزوا من أفعال عظيمة فهذا محمد بن عبد الله (ص) ما كان زعيما ولا ثريا ولا ملكا ولا جنرالا وقد أمكنه الله من أن يغيّر وجه البشريّة ومسارها وكل الكبار في الناس كانوا في مقاربة من هذه الهمّة والقدرة.

إن هذا الكون والوجود متوافق مع مكوناته أي بمعنى أن هناك انسجام مع أجزاءه ومحيطه فعندما ننظر إلى الدبّ القطبي نجد بجلاء أنه تم خلقه خصيصا لبيئته ولتحمّل البرد القارس وإلاّ فكيف يسير في الثلج طوال حياته ولا تتجمّد أصابعه فلو كان المشوار في سيره قصيرا لقلنا أنه اكتسب قدرته بالتدريب والتمرّن ولكن أي مواد تلك التي تغلّف قدميه وتقاوم توصيل الحرارة تماما من جسمه إلى الثلج ليفقد في النهاية حرارة جسمه تماما فيموت ! فينقرض!

ولماذا وكيف تقلل الدببة دقّات قلوبها في موسم السبات إلى بضعة دقّات فقط وبالتالي لا تحتاج إلى الطعام طيلة موسم السبات حتّى تستيقظ بعد أشهر من بدء سباتها؟ أو لماذا نحتاج نحن بنو البشر إلى شتّى أنواع الفيتامينات والمكملات الغذائيّة في حين أن الضواري وأولها الأسود والذئاب لا تحتاج إلاّ إلى اللحوم ولا تأكل خضروات ولا فيتامينات بل أن بعض الأحياء لا تتناول الماء كليّا وطيلة حياتها بل تكتفي بما موجود في الطعام!

ولذا فإنني أخاطب أهل الرأي أن ينتبهوا إلى أن كثيرا من المناصب والرتب والمراكز لها ما يناسبها من الناس ولا يصلح أي إنسان لكل شئ أو لأي منصب أو رتبة فإن وضعنا أحدهم في أدنى مما يستحق شعر بالإحباط وفقد الحماس والرغبة وإن أعليناه أكثر من استحقاقه نكون قد أشعنا الجهل بدل نور المعرفة وكلُّ له ما يناسبه بتقدير من الذي خلقه وبموهبته ثم بالتعلّم واكتساب المعرفة والخبرة.

لو نطاوع الناس على هواهم فإننا نحطّم الإنسجام الموصوف ولو اتّبعنا نواميس الوجود يطمئنّ كل المرئ ويؤدّي ما عليه من وجائب برغبة وحماس فأنا مهندس ولكنّني لا أستطيع أن أحلّ محلّ السّبّاك أو البنّاء الذي يبلّط الأرضيّات بالكاشي وليس مطلوبا منّي ذلك وكثير من الأطباء لا يُحسنون الإحلال محلّ المضمد أو الممرّضة في تنظيف الجروح أو زرق بعض الإبر أو سرعة ومهارة تركيب كثير من المستلزمات الطبّية وكل هذا لا يعني أن الطبيب أفضل من سواه من المساعدين ولا المهندس أفضل من سواه من أهل الحرف والمهارات فكل من يقوم بواجبه بصورة متقنة فهو ما نبحث عنه ولنتذكّر قوله صلى الله عليه وسلّم ( إن الله يُحبّ إذا عمل أحدكم عملا أن يُتقنه ) صدق الذي لا ينطق عن الهوى.

في هذه السنوات المتأخّرة لم يبقَ من الناس ولا من الفلاّحين إلاّ قليلُ ممن يُتقنون تلقيح النخيل وعندما يحين موسم التلقيح نحتار في إنجاز الأمر لقلّة من بقي منهم ولكنّنا حين نعثر على أحدهم وخصوصا إذا كان ممن تعلّمه على يد أولئك المهرة القدامى فإنه يُنجزه بسرعة وجودة ويتم التلقيح من أوّل مرّة وسرعان ما تنتشي الشجرة وتريّع وتمتلئ بالعذوق الصفراء والذهبيّة لتملأنا سرورا ولكنّنا لو قلنا وماذا سيفعل الفلاّح؟ نحن نستطيع أن نقوم بعمله ، فهيهات ! إذ سوف يتطلب الأمر أن نتحمّل وخز الأشواك وعناء مكابدة الصعود والتعرّض لمخاطر السقوط التي قد تودي بالحياة أحيانا وقد نحتاج إلى مرّات عديدة لكي يتم التلقيح أي مرّات عديدة لمواجهة نفس المخاطر ..

أمّا إن تكلّمنا في القدرات القياديّة فحدّث ولا حرج ففي يومنا هذا يتصدّى للقيادة كل من هب ودب وهي لا تصلح إلاّ لأهلها فإن شئنا أن تكون مسيرتنا وحياتنا آمنةً ورخيّة فعلينا باختيار القيادات فإن فيها البركة ومنذ القدم كانوا يختارون لها بشرا لهم مزاياهم ويتوصّلون لهم حتّى لو لزم الأمر بالتضريب وكما يحصل للخيل الأصيلة حتّى يُظهروا الجواد الفحل الذي تتوفّر فيه الخصال المطلوبة ومن تصدّى للقيادة وليس من أهلها فإنه يتعب ولكن صاحبها يكرّ ولا يفرّ لأنه مخلوقُ لها وكذلك الرتب والمهن والصناعات وسواها  .

أيها الأعزاء إن أغلب الطعام يحتاج في طهيه إلى الملح ولكن الملح لو تمت زيادته بأكثر مما يجب فإن الطعام سيفسد فكل شئ بمقدار أو كل شئ بقدر !
الحياة كالكيمياء تعلمنا أن تحضير أي مركّب له مقادير ونسب وتجاوزها لن يجعلنا نصل إلى تحضير ما أردنا في البدء .

أنظروا للضواري وإلى الأسود والنمور والذئاب فإنها لا تقتل إلاّ لتأكل فقط فإن شبعت فإنها تكفّ عن القتل حتّى لو كانت الفريسة قريبة منها، هذا انسجام وتوافق وتناسب وعلينا أن لا نغفل هذا التناسب في ممارساتنا فنحطّم البيئة التي منّ علينا بها بارئُنا، وها هو ماؤنا يُصبحُ غورا.

وأنا ما زلت أستغرب سلوك كثير من الناس وتقلّبهم في أمزجتهم وآرائهم وحراكهم الواسع في النفاق المستمر وافتتان الدنيا بهم ،وكأن أبيات الشاعر الجواهري أصبحت ملازمة لي هذه الأيام أينما حللت:

يا (أم عوف) عجيبات ليالينا يدنين أهواءنا القصوى ويقصينا”
في كل يوم بلاوعي ولا سبب ينزلن ناساً على حكم ويعلينا
يدفن شهد ابتسام في مراشفنا عذباً بعلقم دمع في مآقينا
ويقترحن علينا أن نجرعه كالسم يجرعه (سقراط) توطينا
يا (أم عوف) وما يدريك ما خبأت لنا المقادير من عقبى ويدرينا
أنى وكيف سيرخي من أعنتنا تطوافنا.. ومتى تلقى مراسينا؟
أزرى بأبيات أشعار تقاذفنا بيت من (الشعر المفتول) يؤوينا
عشنا لها حقباً جلى ندللها فتجتوينا.. ونعليها فتدنينا
تقتات من لحمنا غضاً وتسغبنا وتستقي دمنا محضاً وتطمينا
يا (أم عوف) حرمنا كل جارحة فينا لنسرج هاتيك الدواوينا
لم يدر أنا دفنا تحت جامحها مطالع، يتملاها براكينا
يا (أم عوف) بلوح الغيب موعدنا هنا وعندك أضيافاً تلاقينا
لم يبرح العام تلو العام يقذفنا في كل يوم بمرماة ويرمينا
زواحفاً نرتمي آناً.. وآونة مصعدين بأجواء شواهينا"


دهوك في 12.5.2012
 

* مهندس ومنشغل بالثقافة

 

 

free web counter