| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

رشيد كَرمة

rashid_karma hotmail .com

 

 

 

الأحد 3/1/ 2010

 

المثقفون والدولـــــــــة

رشيد كَرمــــــة 

يشكل المثقفون العراقيون وتحديدا مثقفي التيار الديمقراطـي وممن يحسبون علــــــــــى تيار الثقافة اليسارية العراقية وما أنجزوه من تأسيس صحف ودور نشر ومجلات أدبية مهمة كمجلة الثقافة الجديدة على سبيل المثال لا الحصر, جزء من ضمير الناس , فلقد عملت الصحافة اليسارية على تنوير الشارع العراقـي وما زالت بما توفرَ و يتوفرُ لها مــــن ظروف , كالتي تكبل بلدا ًعربياً إسلامياً كالعراق ,تتنوع فيه القوميات والأعراق والنحل والملل وتتعدد فيه الأفكاروالأديان والمـذاهب وتتوزع فيه الإنتماءات والولاءات والعصبيات لهذا السبب أو ذاك ,معارضون حينا ً وحينا ً آخــــر متفقون , محرضون مؤمنون ملحدون , صعاليك و شٌطار , محافظون ,متطرفون يبالغُ (بنيه) فـــــــــي السلم والحرب يغالون في الحب ِوالكرهِ ,جلدون وعاطفيون , مشاغبون،تغلب عليهم طبيعة المعارضةعلى مدى التأريخ , مــن هنا تكمن المهمة الصعبة لشغيلة الفكر والإبداع , ولاشك أن من الإستحالة بناء دولة دون عون المثقفين , فلا حديث عــــن زراعة دون ماء , ومن العبث ِتهميش المثقفين في خارج وداخل العراق , انهم صمام أمان البلد , وبدونهم لايمكن كبح جماح الإرهاب والإرهابيين. المثقف في أي مكان يبهر ناظريه وخصوصا ً مــــن يتحجب بأفكار القرون الوسطى ولابد للمعنيين ورجال السياسة والسلطات الرئاسية الثلاث من إيجاد منفذ لعودة جيش جرار من المتعلمين_نساء ورجال_ يرغب فــــــي بناء العراق ولكن تنقصهم ضرورات الحياة كالمسكن والمأكل وماشابه وعلـــــــى الدولة تشريع قانون واضح وصريح ينصف مـــــن عارض نهج الدكتاتورية لثلاث عقود ونيف فلا يعقل أن يتخم ( زَيـد ُ) بالأراضي والهبات والتعويضات وراتب شهري مجزي لأنه عـُدَّ ضمن أحزاب الإسلام السياسي"الطائفي" , بينما يواجه (عَمْرْ) شبح الروتين و( البطاقة التموينية ) أو ضياع إضبارته الشخصية , إذن لابد من حل لهذه المعضلة ,ويجب ان تكون هذه إحدى أهم أمنيتنا للعام الجديد،ولابد للمثقفين المتضررين مــن حركة تعيد تنظيم أنفسهم ككيان مهم وضروري في إعتصامات وتظاهرات من أجل حقوقهم الطبيعية التي يسرقها البعض الآخر.
وأنا أشاهد من التلفاز المبدع العراقي الطيب (الفريد سمعان) وهو يذكر نجوم ونخيل العراق الباسقات من أمثال الجواهري والطاهر والمخزومي *, حتى إمتدت يدي إلى مكتبة متواضعة إنتشلت منها مجلة الثقافة الجديدة العدد289تموزـآب عام 1999 وهي من مطبوعات الحزب الشيوعي العراقي مكرسة في باب أدب وفن ملفاً للراحل الخالد (الدكتور مهدي المخزوزمي ). كتب المحرر ( مهدي محمد علي) أن الملف من فعل الدكتور (محمد حسين الأعرجي),وهو جهد راقٍ وسمين, وأقتطف فقرة لا تخلو من إشارة لذوي الألباب.لم يكن المخزومي عالماً فحسب،وإنما كان يزين علمه، خُلقٌ قل نظيره،في أيامه وفي أيامنا هذه، فمن هذا الخلق العالي ومدى تأثره فيمن عرفه أن هرّبه تلميذ ُ سلطوي من تلامذته إلى المملكة العربية السعودية بعد أن خرج من المعتقل عام 1963 بأن منحه جواز سفر وصل فيه الى السعودية.
ولقد كتب شاعر العرب الأكبر الجواهري:

أبا مهند لا آذتك نازلة ولا تخطت إلى عليائك العلل
يا كاسي الجيل مـــن أفضاله منناً منها تتيه على أكتافه حلل
وحاضن اللغة الفصحى وقد عبثت بها الجهالة ،، والأخطاء،،، والزلل .

ومن النوادر وهذا ما كتبه الدكتور الأعرجي في صفحة 148 :من عادة الجواهري أنه يحب أن يقرأ شعره لأصدقائه من الأدباء قبل أن يذيعه للناس ، فقرأ ذات يوم في بيته ( أإيها الأرق) أمام جملة من أصدقائه ومن بينهم المخزومي حتى إذا وصل إلى قوله فيها:

أنا عندي من ألأسى جبل يتمشى معي وينتقل
أنا عندي وإن خبا أملٌ جذوة في الفؤاد تشتعلُ
إنما الفكر عارم بطل أبد الآبدين يقتتل

فقال له المخزومي وهو مبتسم - الفكر لا يكون بطلاً في كل الأحوال، فما كان من الجواهري إلا أن قال : تمام، أبو نوال، عاشت إيدك:

إنما الفكر عارماً بطل أبد الآبدين يقتتل

ورحل جثمانه الطاهر الى بلده النجف ليوارى في مقبرة اسرته ورافقتُ الجثمان مع ولده (مهند ) فلما بلغنا كربلاء انتهى بنا السير الـى الموضع الذى يغسل فيه الراحلون عـن هذه الدنيا وخلع المشرفون علـــــــى الغسيل ثيابه بعد ان نفضوا جيوبه فلم يجدوا فيها صكوكا مصرفية ولا سندات مال ولا ما يذكر بشئ مــن حطام الدنيا ولكنهم وجدوا ورقة صغيرة كان الراحل حريصاً على حملها في جيبه وهو يودع دنياه لأنها في رأيه وفي الحقيقة المثلى أغلى ما يمكن أن يحمل الراحلون، ورقة صغيرة فيها شئ لا إدعاء فيه ولا رياء وهما سِمتا اغلب بني الدنيا ومَنْ سَلِمَ من الادعاء والرياء ورقة من سبطه الصغرى التى هى في السنة الثانية الابتدائية وقد كتبت فيها على ما أذكر : جدي العزيز إنى أحبك جداً جداً جداً , ثم نقشت بضع كلمات وكررت العبارة " أحبك جداً جداً جداً " لا جرم انها اغلى ما يملك الراحل العزيز واصدق ما قيل له في هذه الدنيا وهل اصدق واغلى من تعبير تلك الطفلة الصغيرة البريئة عن حبها (
مقال في الثقافة الجديدة العدد 289 تموز ـ آب 1999 بقلم الدكتور .عبد الجبار المطلبي صفحة 140).

الهوامش
*
ولد ( مهدي بن محمد صالح المخزومي ) في النجف سنة 1919 ميلادية وهي المدينة العربية ذات الجامعة الدينية ومركز الاشعاع في هذه المدينة مرقد الامام علي بن ابي طالب حيث يؤمها طلبة العلوم الدينية من مختلف ارجاء العالم الاسلامى لبنان وايران وافغانستان وباكستان والهند الى جانب الطلبة العراقيين .والجامعة في النجف بمنظارجامعة الازهر بمصر ولهذه المدينة ماضى في حفظ التراث العربي الاسلامي في العهد العثماني زمن التتريك لغايتها بحفظ العلوم العربية كما كان لها موقف وجهود خطيرة في الحركات الوطنية والسياسية التى ادت الى استقلال العراق خصوصا مع شقيقاتها كربلاء وبغداد والبصرة والموصل وغيرها من مدن العراق كما كان لها حضور في تاريخ العراق الحديث في مجالات الحياة السياسية والادبية والعلمية، ولإسكات صوتها وجه الطغاة اليها قنابلهم وصواريخهم كما وجهت الى باقي مدن العراق المناضلة.
فــي هذه المدينة كانت ولادة المخزومي ونشأته فتلقى علمه في حلقاتها العلمية على يد اساتذة علماء فإتقن العربية وكان لامعا فيها منذ نشأته طموحا متفتح الفكر علـــــــى آفاق المستقبل ولم يكن مكبلا ً بقيود المحافظة التي منعت غيره من التطور الفكري والعلمي لذلك سعى الى ان يدخل معترك التحصيل العلمي على الطريقة الحديثة وقد وجد في نفسة الكفاءة والقدرة على تكملة دراسته فأثمر جهده الحصول على بعثة لنيل الشهادة الجامعية من كلية الاداب بجامعة القاهرة , فحصل عليها سنة 1943 ميلادية وكانت جامعة القاهرة مركز جذب لطلبة الدراسات العليا فــــــــي الثلاثينات والاربعينات فبعد حصوله على الشهادة الجامعية وعودته الى بغداد عُين مدرساً للعربية فــي دار المعلمين الريفية في الرستمية ببغداد ولم يتخذ مهنة التدريس للارتزاق انما طمح ان يواصل جهده العلمي للحصول على الشهادة العليا فاستطاع بجهده ان يحصل على فرصة اخرى من وزارة المعارف للحصول على شهادة التخصص العالي (الماجستير )من الجامعة المذكورة فعاد الى القاهرة وقد أثبت جدارة بحصوله على درجة التفوق في الدراسات العليا مع اعجاب اساتذته وأبرزهم الاستاذ ( ابراهيم مصطفى ) صاحب كتاب ــ إحياء النحو ــ والمشرف على رسالته " الخليل بن احمد الفراهيدي اعماله ومنهجه " وقد اجيزت سنة 1951ميلادية لقد رأى المخزومي في شخصية الخليل المثال العلمي والاخلاقي الــــــذي يستحق العناية والجهد فكان موضوعه لمرحلة الماجستير اذ كان الخليل علما متفردا في علمه كما كان كوكباً ساطعاً في اخلاقه وزهده وإبائه وقناعته , فوجد المخزومي خصائص شخصيته في الخليل فاصطحبه في رسالته فكانت دراستة إياه دراسة علمية استحوذت على اعجاب اساتذته فمنحوه الدرجة العلمية مع اعجابهم بعلمه وقدرته واستمر في طريقه العلمي ليكمل دراسته والحصول على الدرجة العليا فاختار هذه المرة ( مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو ) موضوعا لرسالته للدكتوراه وكان المشرف عليه الاستاذ ـ مصطفى السقا ـ وانتهى من اعدادها ومناقشتها واجيزت سنة 1953 ميلاديه وكان فيها موضع اعجاب من اساتذة القاهرة لانهم رأوا فيه نموذجا لم يتوقعوه في مجال اللغة والعلم بها وكان لمدرسة الكوفة صدى في اوساط الدرس الجامعي والبحثى وكذلك موضوع رسالته السابقة مما دفع الاستاذ المشرف عليه ان يقول فيه : ( وقد وفق الدكتور مهدي المخزومــي في اختياره موضوعي البحثين توفيقا ً كبيراً جدا ً اذ اتاحا له الوقوف على المنبعين الاصيلين اللذين تفجرت منهما الدراسات اللغوية والنحوية منذ نشأة التأليف فيهما كما وقف على منهجين مختلفين اختلافا كثيرا في مقاييسهما لتفسير الظواهر اللغوية والنحوية .. أول المنهجين منهج علماء البصرة ورأسهم الخليل الفراهيدي الازدي 100ــ 175 هجرية وهم يعتمدون على القياس العقلي وثاني المنهجين منهج علماء الكوفة ورأسهم" علي بن حمزة الكسائي " النحوي شيخ القراء فــــــــي مدينة السلام توفى 189 هجري , وهؤلاء لا يسرفون فـــي القياس إسراف علماء البصرة وإنما يعولون على ما سمع من العرب ) .
ولم يكن المخزومي في أثناء وجوده في القاهرة غافلا عما يجري من تطور ودراسات في العربية نحوها وصرفها وأصواتها , وبوادر التحديث فــي هذه الدراسات , ومـن الاطلاع على ما لدى الغرب من دراسات ومناهج لغوية كانت الجامعة انذاك تطل عليها وتفيد منها من خلال المبعوثين الاوائل الى الغرب ثم من خلال الزيارات العلمية للمستشرقين الــــى الجامعات المصرية وخصوصا جامعة القاهرة مثل بول كراوس وبرجستراسر وغيرهما ومن خلال ترجمة الدراسات او المقالات في مجال علم اللغة الحديث ومناهجه خصوصا المنهج الوصفي الذي كان شائعاً , وكان المخزومي محتفظ ببعض الترجمات وكانت ذات صلة بدراسته كمقدمة ( غوتولد فايل ) لكتاب الانصاف ( للإنبارى ) ومقدمة (فلوجل) في المدارس النحوية لكتاب الفهرست لابن النديم كل ذلك كان تحت بصر المخزومي وقد تفاعل مع هذا التيار الحديث فـــي الدرس اللغوي مكوناً رأياً وصورة لما جرى عليه النحو العربي ثم لما ينبغي للدرس النحوي ان يكون عليه .
لقد كان المخزومي عالما واستاذا لذا كان له مريدون وتلامذة معجبون في وسط جامعة بغداد التي كان فيها او خارجها ممن اطلع على بحوثه وأرائه وفي حياة العلماء الكبار يكون لهم حاسدون ومنافسون كما يكون لهم معجبون مريدون وكان لذلك الحسد اثر في احداث حياته ولكن لم يكن له اثر في سمو خلقه وتطوره العلمي لذا ظلت آراؤه في الدرس النحوي تحرك قاعات الدرس وافكار الدراسين وسأتناول ذلك بعد حين ......وبعد احالته على المعاش (التقاعد) سنة 1979 ميلادية لازم بيته ومكتبته فكان مجلسه فـــــي بيته عامرا بتلامذته ومريديه وزملائه وكنت من رواد مجلسه الاسبوعي يوم الجمعة بعد نقلي الى جامعة بغداد سنة 1991ميلادية فكان كما وصفه الدكتور المطلبي جلداً صبوراً كتوماً لا يشكو من الحياة بالرغم من صعوباتها ومعاناته فيها يستقبل الأحداث بابتسامته الرقيقة وتعليقاته الواعية على الاحداث في العراق وكم كان يتمنى ان يرى لليل العراق آخرا ً.... كان هذا أمله حتى آخر ايامه .... كانت وفاته يوم الجمعة 1993-3-5 ميلادية ظهرا ً فبينما نحن في مجلسه نستمع الى حديث عن الخليل والقياس لديه اذا به وضع يده على جبهته ثم ارتمى متكئا على كرسيه فاسرعنا لاسعافه فكان القدر قد سبقنا(المخزومي وجهوده في تفسير النحو بقلم الدكتور ( زهير غازي زاهد ) الثقافة الجديدة العدد 289 تموز ــ آب 1999 صفحة 154و 155و 156 )

[تنويه وملاحظة ]  أمنيتان للعام 2010 أن يجري التعريف بعلمائنا ونقادنا ومثقفينا الذين رحلوا قبل أن يروا رحيل الدكتاتورية البعثية,وآمل أن لا تتكرر دكتاتورية أخرى أخطر من سابقتها كالتي يجري التمهيد لها باسم الدين! وثاني الأمنيتان أن يسمح لي الوقت والعافية بأن أعرج على رسالة الراحل ( المخزومي ) عن الخليل بن أحمد الفراهيدي , وسيبويه. (ر.كَ)


السويد 2كانون الثاني 2010
 


 

free web counter