| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

رحيم الحلي

arsrks@yahoo.com

 

 

 

                                                                                   الجمعة 6/1/ 2012

 

قصة قصيرة

بين القرى الغريبات

رحيم الحلي

وقف على الطريق الزراعي المُزَفَتْ حديثاً والذي لا يبعد كثيراً عن بيته الصغير منتظراً المركبة الصغيرة التي يسمونها سرفيس ، وقف ينتظر ترميشاً من سائق المركبة كي يتعرف عليه ، انتظرعلى طرف الطريق الترابي الواصل لبيته يحمل مظروفاً فيه مجموعة اوراق حسابية قضى ردحاً من الليل منكباً عليها ، سمع صوت مواء القط الابيض الذي تتبعه من لحظة انطلاقه من البيت دون ان ينتبه اليه  ، نهره وانحنى صوب الارض ملتقطاً حجراً صغيراً رماه قريباً منه ، جفل القط الابيض قليلاً لكنه لم يعد ادراجه ، فهو دبق ُ أليف الطبع ، جاء منذ عدة سنوات ثم غاب ، وعاد منذ فترة قصيرة وظل ملاصقاً للبيت ، فما زال كبير الحجم ومكتنز ، يحمله مثل طفل صغير وهو يمسد وبره الناعم وفي بعض الاوقات يضع خده عليه ، إلتفت الى الطريق كي ينتبه لمرور المركبة فقد لاينتبه السائق اليه ، انه اليوم الاول الذي يصعد الى هذه المركبة الصغيرة ، لم تمضي سوى دقائق حتى انعطفت مركبة بيضاء اللون اتجهت صوبه ، وحين اصبحت على بعد بضعة امتار خففت من سرعتها وتوقفت امامه

: صباح الخير قال سائق المركبة ثم اكمل

: تفضل اخي ، انت ابو خالد اليس كذلك ؟

رد ابو خالد السلام ، والاخير رجل خمسيني وهو الغريب الوحيد الذي يسكن القرية ، ثم تمسك بعروة ثُبِتَتْ امام المقعد والقى بنفسه في المقعد ، انطلقت المركبة نحو القرية القريبة "حوش الفارة" التي استغرب اسمها لحظة وصوله الى تلك القرية قبل ثلاثين عام حين وصلها ليلاً مع حضيري احد ابناء العائلة البدوية التي عمل راعياً لأغنامها في الصحراء قرابة عاماً كاملاً ، فقد استطاع اقناعه بإيصاله الى القرية كي يتوجه صوب لبنان ليلتحق بالمقاومة الفلسطينية واخبره بانه لم يخلق ليعيش في البادية وفي رعي الاغنام فهو لا يطيق هذه الحياة القاسية ، حيث يشح الماء وتنقطع وسائل الاتصال بالحياة ، انتبه الى استغراقه في تلك الذكريات حين مر قرب جبانة القرية التفت صوب القبور كي يميز قبر حضيري الذي لسعته افعى ولم يكمل عامه الرابع والعشرين ، حين زارهم بعد بضعة سنوات وأخبروه بوفاته أنفجر باكياً متذكراً تلك الايام التي قضاها معه في الصحراء وكيف كان يحب الاستماع لأغانيه ويقول له غني ان الغناء يغسل الهموم ويجليها ، علم منه عشقه لتلك الفتاة السمراء التي التفت اليها منبهراً حين زارهم يوماً حيث توسطت خيامهم الاربع المنخفض السهلي الاخضر المنحدر من تلة عالية ، نزل منها حين كان يبحث عن مكان يأويه في تلك الصحراء الظالمة .

اه ان القبور هي الشواهد الباقية لحياة اولئك البشر الراحلين ، فكم تعبوا وكافحوا لكنهم رحلوا دون ان ينتبهوا الى ان مركبة سوداء ستحملهم فجأة من عالمهم الذي اجتهدوا كثيراً من اجله ، تذكر مرضه المزمن وعمليته الجراحية التي سيجريها بعد ايام فهل سيأتوا بنعشه لينام قرب حضيري صديقه القديم ، ام ان الارض قرب ضريحه سكنها الراحلون خلال السنوات الخمس والعشرين الاخيرة ، انعطفت السيارة بسرعة غرباً نحو قرية اخرى في طريقه الى عمله ، اعطى السائق ثلاثة كاسيتات غنائية اعتبرها عربون صداقة ، رغم عدم معرفته بميول السائق وخشيته من ان يكون احد السلفيين الذين كثروا في هذه الايام ، نظر السائق الى الكاسيتات الثلاث فأختار كاسيت لياس خضر وادخلة في مسجلة السيارة ، قائلاً

: انك تحب الغناء العراقي مثلي ، لازالت روحك مخضرة مثلي ياصاحبي ثم اكمل قوله

: الدنيا مافيها شي

: نعم لازلت احب الغناء فهو سلوتي الوحيدة في غربتي قال ابو خالد

: لا حاشاك ماغريب الا الشيطان اجاب سائق السيارة الذي بدا وسيماً في اواخر الثلاثينات من عمره ، واخرج زفيراً دل على لوعة مدفونة وهو يسمع كلمات الاغنية التي طفحت بالحزن

: انها اغنية حلوة ، ياس خضر صوته حلو حقاً ، والاغنية مناسبة رغم ان الصباح لفيروز كما يقولون لكن الاغاني العراقية تظل حلوة ومناسبة لكل الاوقات .

: اشكرك

: يبدو انك عراقي اليس كذلك ؟

: نعم

: لكن صدقني ان ماقلته ليس مجاملة

سادت حالة صمت وراح الاثنان يستمعان بعمق الى تلك الاغنية التي اطلقت سرباً من الذكريات والاحزان في سماء ملبدة بالوجع والخيبات ، راحت المركبة تندلف في شوارع ضيقة بين بيوت متنائرة ، كان بعضها طيني صغير ، تلك البيوت الطينية تذكره ببيته البعيد الذي بني من الطابوق والجص وسُقِفَ بجذوع النخيل ، احتوت اغلب تلك البيوت على حظائر للابقار والمواشي وتوزعت بعض النسوة في تلك الزرائب والحقول ، فيما شاهد بعض النسوة ينظفن مداخل البيوت ، لم تخلوا تلك القرى الفقيرة من جوامع فخمة بمأذن عالية بنيت ببذخ كبير، وبعد بضعة انعطافات يميناً وشمالاً دلفت المركبة نحو طريق ترابي صوب بيوت طينية احتضنت بعضها وتوقفت عند احدها ، اطلق السائق زمور السيارة وهو يقول

: لن يأتوا على موعدهم ، فهم لايخرجوا الى عملهم الا بالشد والجر

بعد دقائق قليلة وبعد ان مزق زعيق الزمور الغاضب هدوء المكان خرج بعض الصبية الصغار من بيوتهم وقد لفحت اجسادهم النحيلة برودة الافق المشبع برطوبة الريح النازلة من القمم الثلجية البيضاء ، احنوا ظهورهم وهم يجرون اقدامهم ببطء ليدخلوا بكسل وضجر داخل المركبة ثم خرجت صبيتان صغيرتان من البيت االطيني القريب ، احدهما سمراء غير جذابة اما الاخرى فكانت بيضاء فاتنة بعيون عسلية رسمت حواجبها بالكحل العربي ، وبسرعة تذكر احدى صبايا حارته القديمة ، وبعد ان صعد الجميع انطلقت السيارة تشق الطريق بعجلاتها المندفعة بغضب متجهة غرباً حيث المدينة القريبة التي احتوت على معامل وورش صغيرة .

هطلت غيمة احزانه مطراً كئيباً فسحب ابو خالد شهيقاً عميقاً وهو يتطلع صوب الحقول الخضراء والبيوت

 

 

free web counter