| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

رحيم الحلي

arsrks@yahoo.com

 

 

 

الأحد 4/11/ 2007



الضياع

رحيم الحلي

الشمس نزلتْ أسفل الأفق وكأنها حطتْ رحلها في الطرف البعيد ، لتستريح بعد نهار مضني تعبَ فيه الجميع ، إما قُرصها الكبير فقد لون الرمال بلون أحمر قاني ، فاثأر ذلك فيهم شيئا من الكآبة ، والإحساس باليأس والإحباط والضياع ، عندما غشيهم المساء ، وحين تعذر عليهم أن يجدوا مأوى ، وحين أيقنوا إن ثلاثة عشرة فرداً ، يسيروا مجتمعين في الصحراء ، أمر يثير الاستغراب والريبة ، ويعرضهم للاعتقال ، أصبح لزاماً عليهم إن يتفرقوا ، كي لايلفتوا النظر أثناء سيرهم وهم يقطعون الفيافي ، اختار أبو ذر في مسيرته سليم رفيقاً له ، الشاب الرقيق الذي أحب الأدب ، وحفظ قصائد مظفر النواب.
في البادية لا يمكن للمرء إن يستقبل ويستضيف في بيته الصغير المنسوج من شعر الماعز هذا العدد المثير للتساؤل المشروع والخوف أيضا ً ، كان سليم اقرب أفراد المجموعة إلى نفس أبو ذر الشاب النحيل الذي انهى دراسة الاقتصاد ، وكان ناشطاً في احد الأحزاب اليسارية ، جذبه إليها شعارات الدفاع عن الفقراء ، ثم وجد نفسه في هذا الحزب اليساري حيث جذبته أفكار العدالة والمساواة ، وبعد سنوات قليلة من العمل في هذا الحزب ، هاهو ألان ضائعا ً في هذه الصحراء ، إما سليم طالب الماجستير في جامعة لندن الذي عاد في الصيف لزيارة أهله في بغداد ، ثم أتت الحرب مع ايران ، ووجد نفسه عالقاً غير قادر على العودة إلى جامعته لإكمال الدراسة ، بعد قرار منع السفر ، اضطر إلى الهروب خارج الوطن، وهاهما يسيران لوحدهما يوحدهما حب الشّعر والأدب بألوانه ، ويتقاسما مرارة هذه الرحلة المجهولة ، تعذر عليهما معرفة مصير بقية المجموعة ، مضت ثلاثة أيام ، لم يعثرا على اثر لأحد ، عند غروب نهار أخر ، وحين أوشكت الشمس إن تنسحب من المشهد تماما ، كان يتهيئا ليناما في إحدى الحفر كما في الليالي الماضية ، ألا إن قطيع الأغنام الذي ظهر من بعيد ، كأنها نقاط سوداء في هذه اللوحة القاتمة ، زرعت في نفسيهما الارتياح ، حين اقتربا من القطيع ، وجدا فتىً صغير يرعى هذه الأغنام ، جلسا عنده بعض الوقت ، عرفا إن اثنين من المجموعة قد مرا منذ ثلاثة أيام ، شعرا بالحزن لتفرق المجموعة ، اقتنعا بأن من المستحيل ، إن يلتقيا مرة أخرى وسط هذه الصحراء الشاسعة اللعينة ، طلب الراعي منهما إن يذهبا إلى البيت ، حاول صاحب البيت إن يطردهما عندما اقتربا من مدخل خيمته أو بيته ، لكن زوجته وبخته بشدة .
ترفع الخيمة المنسوجة من شعر الماعز الأبيض اعمدة خشبية ، تفصل بين اقسامها الثلاث ، قواطع صوفية تشكل جدران البيت ، الجزء الأيسر هو ديوان الضيوف ، إما الجزء الأوسط فهو مخدع الزوجية ، حيث تحيط به أربعة أضلاع من القصب ، دخلا مترددين تتعثر خطواتهما ، وكاد الخجل إن يطرحهما ، لم يتعودا إن يكونا ذليلين بهذا الشكل وغير مرغوب بهما ، احْمّرَ وجه سليم وقد تحجّرت دمعتان صغيرتان في طرف عينيه ، بعد إن تناولا عشاءاً لذيذاً كان بيضاً مقلياً بالسمن العربي ، دخلت امرأة في الأربعين من عمرها إلى مكان الضيوف ، كانت زوجته الأولى كما قدمت نفسها ، وهي تحمل فراشاً وفيراً ، بدا نظيفاً للغاية وقد جُهّزَ حديثاً و هو فراش زواجه الثاني ، والذي حصل قبل فترة قصيرة هكذا تحدثت الأولى متندرة متهكمة ، حاول العريس إن يتملص من ضيوفه ، حيث لاجدران تكبت الأصوات ، وهو لا يريد إن يخسر ليلة من لياليه الأولى ، إما هما فلقد ناما بمجرد إن وضعا رأسيهما على المخدة الناعمة ، غرقت أجسادهما النحيلة المتعبة في صوف الفرش الوفير ، عند الصباح أيقظهما صاحب البيت ، ثم وضّعت أمامها صينية كبيرة ، عليها صحون اللبن والقشطة والزبدة والبيض ، أكلا بشهية مفرطة ، دون إن يفارقهما القلق ، حيث سيخرجان مرة أخرى إلى الصحراء ، عليكم إن تعملا راعيا للأغنام ، تفرقا يابني لن يحتاج البدوي سوى لراعي واحد ، هكذا أشار عليهما صاحب البيت قبل إن يودعهما ثم دست صاحبة البيت ورقة نقدية في جيب احدهما ، قائلة ربما تحتاجا للنقود يا أولادي كان الله في عونكما وأمهاتكم .
عادا إلى البحر الأصفر الكئيب والمخيف ، ربما يبتلعهما عندما ينفد الماء والطعام ، وحين لايجدا أحداً ، فان الموت عطشاً سيكون مصيراً محتوماً ، تنغرز أقدامهما في وحول الرمل الناعمة ، والليل موطن الخوف ، يجعلهما يرتجفان في ساعاته الأخيرة قبيل الفجر ، وهما يناما متعانقين يتلاحفان بأجسادهما الملتصقة كجسد واحد ، سمعا دقات قلبهما ، وحدتهما الغربة والوحشة والضياع والخوف ، مرت أيام عديدة يناما على الرمل في الحفر والجحور ، سمعا عواء الذئاب دون إن يخافا ، كان خوفهما الوحيد ، هو أن يقعا بأيدي الذئب البشري ، الذئب العادي يدفعه الجوع ، إما الذئب البشري يدفعه الحقد في أذاه ، فرحتهم كبيرة حين يناموا على الفرش في احد بيوت الشعر ، ويتدثروا بغطاء ، وحين ترى عيونهم سقف يمتد فوق رؤوسهم ، منسوج من الصوف أو شعر الماعز ، فيشعروا بالبهجة والهدوء ، هذه البيوت كانت أجمل من القصور ، حيث تمنحهم الأمان والدفء لسويعات قليلة ، فيناموا بعمق حتى يوقظهم صاحب البيت إما لتناول الفطور أو الرحيل مبكرا .
تمر أيام عديدة يقضونها في العراء تحت وهج الشمس في النهار والبرد أواخر الليل ، حتى يعثرا على بيت يعيدهم للحياة مرة أخرى ، يستريحا لليلة واحدة ، ثم يتزودا بالطعام والماء حتى أنقضت أسابيع وهم على هذه الحال ، ارتدوا ثياب البدو كما نصحهم احد مستضيفيهم ، لكي يندمجوا في مجتمع البادية ، ثم اقتنعا بان عليهم إن يفترقا ، كل واحد يذهب في اتجاه يبحث عن احدٍ يؤويه ، يعمل معه راعياً ، فقد نال منهما التعب والإجهاد ، عليهم إن يستريحا ، تعانقا بشدة بكيا كثيراً قررا أن يفترقا وكانا طول المسافة المرئية ينظرا لبعض حتى تحولا لسراب وذابا في الأفق ، فلم يلتقيا مرة أخرى .
عصر ذلك اليوم الذي يسميه أبو ذر بيوم الفراق ، كان يمشي وحيدا ً ، متكدراً وهو يفارق صاحبه وحبيبه ، لقد انقضت ساعات عديدة وهو يسير بمفرده ، لن يستمع إلى الوتريات الليلية التي كان يقرأها سليم كثيراً ، ظهرت أمامه تله رملية حجبت الأفق ، حين أصبح في أعلاها ، انبسطت أمامه قطعان من الأغنام أثارت البهجة في قلبه ، وظهرت أمامه من بعيد أربعة بيوت متباعدة ، الليلة ستنام على الفراش لا على الرمال ، إلى أي بيت أتوجه ؟ سأل نفسه سأذهب إلى البيت الأيسر ، هاجمته كلاب شرسة ، فخرجت صبية سمراء جميلة ، وهي تنهر الكلاب ، وخرج رجل يبدو انه والد الفتاة ، دعاه للدخول ، وبعد إن استراح قليلاً ، تناول طعام العشاء ، جلبت الفتاة طعاماً لذيذاً ، تحلقن حول الضيف ثلاثة فتيات ، كان الأب طيباً مبتسماً يرحب بضيفه ، وكذلك الأم التي طرز وجهها قوس من الوشم الأزرق ، لم يتكلم أبو ذر ألا قليلاً وهو يرد على أسئلتهم ، أراد إن يداري لسانه الذي يكشفه ، حاول إن يقلد لهجتهم لكن البدوي ابتسم وقال لست من هذه الديار ! يبدو انك من ارض بعيدة ، تطمن ياولدي واخبرنا ، أصر أبو ذر إن لايفصح عن هويته حتى تحصل ألفة بينهم ، في اليوم الثالث ، قال صاحب البيت لقد انقضت أيام الضيافة ، تحدث يابني وكن مطمئناً ، إن سرك في بئر ، حينها قص أبو ذر قصته ، نزلت الدموع في عيون الفتيات ، وحين هم بالخروج ، طلب منه الجميع إن يبقى بينهم مثل ابنهم ، قائلين لقد فقدنا أخونا الذي لدغته أفعى كبيرة وهو يسرح بأغنام الأسرة ، نريدك أخا لنا ، بكت الأم بمرارة وهي تتذكر ابنها الذي فقدته منذ عام وقد دفنوه عند التلة .
مضت أيام يعيش بينهم ، يخرج أحيانا إلى الرعاة يتلقط أخباراً عن أصدقائه ، عن سليم الذي ربما وجد أسرة أحتضنته ، ذات يوم سأله احدهم الذي جلس عنده يتجاذب أطراف الحديث ، وهو يحاول أن يستنطقه ، اراك أتيت من الشرق ياصاحبي ، اخبرني الرعاة أنهم وجدوا أغرابا ، عرفوا من لهجتهم أنهم متعلمون وأبناء مدن ، عمل بعضهم رعاة ومات البعض الأخر ، وجدوا احدهم مشنوقاً على شجرة يتيمة عند البئر الكبريتي ، وأخر وجدوه منذ أيام ميتاُ من العطش ، كان يرتدي دشداشة بنية غامقة ، مر ّعلى جماعتنا ، بدا مذعوراً وحكى حكاية هروبه ، كان سياسياً ، خاف جماعتنا من إيوائه ، فطلبوا منه الرحيل ليلاً ، ثم وُجّدَ ميتاً بعد عدة أيام ، عرف أبو ذر أن سليم قد فارق هذه الدنيا اللعينة ، ثم مشى هائماً يبكي صديقه الذي رافقه طويلاً ، ندم كثيرا للفراق فقد أقترح سليم عليه أن لايفترقا ، شعر بالذنب والحزن ، لم يكن أمامهما خيار أخر في هذه الصحراء اللعينة ألا أن يموتا معاً ، وكان ذلك الأفضل هكذا أيقن أبو ذر في النهاية .
عاد إلى البيت ، انتبه الجميع انه كان يبكي فلقد احمرت عيناه ، يمتاز البدوي بفطنة شديدة ، وبقوة الملاحظة ، قال الأب يابني انسى الماضي يابني إذا أردت أن تعيش هنا في الصحراء انسى انك ابن مدن ، انسى انك درست كثيراً ، تعلم مهنتنا في رعي الأغنام ، وطريقة معيشتنا ، أصبحت منا سنزوجك إحدى بناتنا لتعيش معنا إلى الأبد.
حل الخريف في هذه البقعة النائية في الصحراء ، بدأ يتعلم الرعي وطرقه ، أنواع العشب المفيدة والضارة ، الانتباه إلى حركة الذئاب وفتكها ثم الانتباه إلى الأفاعي والعقارب والعناكب الخطرة ، المناخ أصبح لطيفاً في النهار وبارداً في الليل ، وعند حلول المساء ، كان يعود بقطيع الأغنام ، لتقضي هي الليل قرب الخيمة ، ولينام هو على الفراش لا على الرمال ، وفي ساعات الغبش الصباحي ، يخرج بأغنامه ممتطياً حماره ، حيث الشمس لازالت غافية ، والظلام يخيم على المكان ، يسري بها بين الإعشاب ساعات عديدة ثم يعود بها مرة أخرى ، كي ترد الماء ، حيث تمتد أمامها قنوات معدنية ، تُملأ بالماء من الخزان المحمول بالعربة الكبيرة ، يحضر الجميع لحلب النعاج ، وبعد تناول الفطور يذهب بها بعيدا ً، لكي تتناول الإعشاب في البراري .
الرياح في الصحراء هي محنة أخرى ، حتى ولو كانت خفيفة ، يصبح الهواء أصفراً بعد أن يمتلئ بالغبار ، وإذا اشتدت الرياح فان الغبار والتراب المتطاير يغلفا كل شيء فتنعدم الرؤيا ، وتنخلع كثير من أوتاد البيوت ، أو تقع بعض الأعمدة التي تحمل هذه البيوت ، فتنهار على من تحتها ، الحياة شديدة الصعوبة ، عليه أن يشرب من الماء المتجمع في البرك ، وقد تكاثر فيه البعوض ، وأن يغتسل كل شهرين ، ذات يوم أحس بحكة مؤلمة ، حين خلع ثيابه وجد القمل يمشي بين ثناياها ، أراد أن يتصل بعالمه الذي أحبه ، فأوصى على جهاز راديو صغير ، بدأ يسمع الموسيقى والأغاني والأخبار والبرامج الأدبية .
قالت له الأم بعد عودته بالقطيع :ستعيش معنا ، سنعطيك إحدى بناتنا ، سننسج لك بيتاً ، ونعطيك بضعة نعاج تبتدئ بها حياتك الزوجية ، قم لكي تستحم في المربع ، فلقد سَخِنَ الماء ، خلع ثيابه وجلس القرفصاء قرب قدر الماء الموضوع على النار ، ثم دخلت عليه البنت الكبيرة وهي تحمل له صابونه وثوباً نظيفاً ، أحس بالخجل فأطبق ساقيه ، واضعاً يديه فوقهما ، فخرجت مبتسمة وهي تسترق النظر ، أصبح يفكر بها ، بالزواج منها ، أن يترك الماضي وراءه ، الشتاء على الأبواب فالزوجة ستمنحك الدفء والطمأنينة في هذه الأرض الموحشة ، لابد من حواء تدق لك وتداً في أرضك الجديدة .


 

Counters