| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

رحيم الحلي

arsrks@yahoo.com

 

 

 

الجمعة 3/4/ 2009



قصة قصيرة

الاستاذ منسي

رحيم الحلي

وسط اشجار الجوز والزيتون والرمان توزعت العديد من القبور في مقبرة القرية الصغيرة المكونة من مجموعة بيوت مبعثرة وسط غابة كبيرة من اشجار الجوز والمشمش والزيتون ، الاشجار شكلت سياجاً منتظماً حول المقبرة التي لا يزورها اهل القرية الا ايام الجمع والاعياد ، وفي احد بساتين القرية المسّورة بسياج اسمنتي كان هناك حارس غريب عن اهل القرية وقليل الاختلاط بهم رغم محاولة العديد من شباب القرية زيارته ، الا انه كان يقف عند باب البستان دون ان يدعوهم للدخول لذا تردد الكثير من شباب اهل القرية في زيارته واستضافتهم في غرفته الصغيرة التي احتوت على فراش متهالك ومجموعة صحف ومجلات قديمة وكتب تبعثرت في ارجاء الغرفة اضافة الى موقد خشبي توسط الغرفة ، كان شخصاً غامضاً هكذا تحدث شباب القرية عن الاستاذ منسي كما يسموه لا يُعْرَفْ من اطلق عليه اول مرة كلمة استاذ رغم انه لم يدَّرس احداً منهم ، ولم يعرفوا ماهو اختصاصه ومن أي جامعة تخرج ؟ ورغم عمله البسيط الذي لا يرضى به اصحاب الشهادات الدراسية ، لا ندري كيف استحوذ على قلوبهم وكسب حبهم واحترامهم ؟ هل هو غموضه الشديد ؟ ام هي الكتب التي يحمل احدها في رحلته حتى ولو كانت الى حانوت القرية ؟ الجميع ادركوا ان هذا الرجل لم يكن شخصاً عادياً ، اثار فضول الكثيرين حتى اصبح البعض يتراهن على كسر جوزة اسراره ، كان غموضه مثار قلق للجميع ويدفع لكثير من التكهنات  .
احدهم قال : انتبهوا من الحديث امامه ولا تأمنوا جانبه ، كان الاستاذ منسي طويلاً ونحيفاً وعلى خده الايسر ارتسمت حبة بغداد.

يأتي للقرية في بعض الاوقات عندما يريد ان يشتري حاجاته من ابو مرزوق صاحب الحانوت الوحيد في القرية الذي انتصب حانوته على الطريق المزفَّتْ متوجهاً صوب الغرب عند الكتف الايمن لباب المدرسة ، يسمونه الغلوجي فهو يتحكم بالبيع ويرفع الاسعار بطريقة قاسية ، فحانوته هو الحانوت الوحيد في القرية يبيعهم بالدين لاجل محدود ، فيسكت الجميع على مضض عن غلاء اسعاره ، على كل حال لا خيار عندهم فالقرية بعيدة عن المدينة ، فهم مضطرون للشراء ، اما الاستاذ منسي كان يقف بهدوء مثل شجرة حور أيبسها الزمن الطويل وتنتظر ريحاً تحرك اغصانها المتهدلة ، يظل واقفاً حتى يسأله صاحب الحانوت عن حاجته او حتى ينتهي الاخرون من شراء بضاعتهم فهناك معمل صغير لتعليب الخضار في الجانب الغربي من المقبرة او الجبانة كما يسموها اهل القرية سيجتَّه اشجار الجوز العالية ، وعلى بابه الرئيسي كانت هناك غرفة صغيرة لبواب المعمل الذي يجلس على كرسي بلاستيكي صغير امام طاولة صغيرة يضع عليها ابريق الشاي يرقب القادمين من خلال نافذة صغيرة بدت عيناه من بعيد كعيني ابن عرس تتحرك صوب اليمين والشمال ، عند الظهيرة يخرج كثير من العمال لشراء احتياجاتهم كان الكثير منهم قدموا الى القرية من انحاء بعيدة ، الاستاذ منسي كان يتعاطف مع العمال فيعطي دوره للعمال وهو يقول لصاحب الدكان : مَشّْيهُمْ خطية ساعة الغذاء محدودة ، كان يجلس بعض الوقت في مقهى القرية الوحيد الذي كان عبارة عن دكان يطل على فسحة خضراء صغيرة ارتفعت في وسطها شجرة تين كبيرة كان يجلس في احدى الزوايا بعيداً عن الاخرين امام احدى الطاولات الخشبية ليحتسي كأس الشاي الذي لم يطب له مذاقه الا حين يصنعه بيده في غرفته ، اما صاحب المقهى ابو رياض فهو الوحيد الذي استطاع ان يحصل على نتف من اسرار هذا الرجل الغريب الذي يبخل في الكلام على الجميع ، وذات يوم سأله عن القَدَرْ الذي ساقه للعمل في هذه القرية النائية ، وسط اهلها الفقراء ، نظر اليه طويلاً ثم اخذ نفساً عميقاً وادار ببصره صوب البستان البعيد الذي يعمل به ناطوراً ، كثيراً ما كان يحمل بيده كتاباً يتصفحه اثناء جلوسه في مقهى القرية او احياناً يستغرق في قراءته ، ابو رياض كان يرفع صوت مسجلة الكاسيت على اغاني سعدي الحلي ، فلقد انتبه الى ارتياح استاذ منسي لسماع صوت سعدي الحلي ، وقد لاحظه يوماً وقد اصابه حزن شديد وهو يستمع لأغنية يمدلولة ونزلت دموعه ، ولمَّا احسَّ ان صاحب المقهى يختلس النظر اليه ، خرج بسرعة يداري حرجه فقد اعادته الاغنية الى الايام الخوالي في مدينته العراقية حيث عمل مدرساً للغة الانكليزية عدة سنوات وظل اعزباً رغم الحاح والدته عليه بالزواج كي ترى اولاده قال لها : اريد الرحيل ياامي ، تذكر الزورق الذي ينقله كل يوم الى مدرسته وهو يشق صفحة الماء ، وكم من المرات كاد ان يميل الزورق لولا سواعد قائده التي تشد الحبل الواصل بين ضفتي النهر قريباً من ضريح النبي ايوب ، اما عند الظهيرة فقد اصبح زبون دائم لباجة شرارة ، اما هنا في الغربة لا شيء يعوضه عن تلك الايام الغابرة ، جاءته اخيراً اخبار من وطنه المشغول بضجيج الحرب ، انبأته بمقتل العديد من اصحابه واعتقال واختفاء اخرين ، وبموت والدته وحيدة في غرفتها ، ظل يمشي طويلاً بين الاشجار يتأملها ينظر الى ظلالها التي ترسمها فيودعها بعض احزانه وهمومه ، يتأمل زرقة السماء ويتمعن برؤية الغيوم فهو يخاف المطر ، وتثير فيه كأبة غريبة رغم فرح الجميع بالمطر ، لكن صوت المطر يثير في قلبه الحزن والمواجع ويجعله حبيس غرفته الصغيرة وسط البستان الكبير ، وبعد عشر سنوات مضت ثقيلة ورتيبة ، وجدوه ميتاً وقد اوصى ان يُدْفَنْ في القرية هكذا قال صاحب المقهى وقد اعترض الكثيرون بدعوى انهم لا يعرفون اصله وفصله ، لكنهم وافقوا بعد تدخل معلم القرية استاذ رمضان حيث قال : عيب يا ناس لا تستكثروا عليه قبراً هذا الرجل تشرد بسبب شجاعته ، فطلب منهم احضار صديقه الحميم فيصل ، ذهب احد شباب القرية لجلب فيصل الذي يعمل بائع للسكائر في مدخل المدينة ، كان في الاربعين من عمره طيب القلب وحلو المعشر ذو وجه باسم رغم التعب الذي افقده نضارته وخط عليه بعض التجاعيد التي ربما اكتسبها من تلك السنوات الطويلة التي قضاها في السجن ، كانا من مدينة واحدة هاجرا ليس بحثاً عن رزق بل هربا بجلديهما ، كان يتردد عليه كل خميس حيث ينام عنده حتى صباح السبت ليتفرغ الاثنان لعمليهما حتى يحصلا على لقمة العيش في هذه الغربة المريرة ، وحين حضر فيصل وقف مثل تمثال امام جثمان صديق غربته الوحيد الاستاذ منسي ، وجده ممدداً وقد فتح عينيه الذابلتين ، ثم انتبه الى كتاب صغير قرب رأسه لم ينتهي من قراءته بعد ، حيث وضع ورقة قبل اخره ، جلس فيصل القرفصاء على ارض الغرفة واضعاً رأسه بين يديه ، أحس بالمرارة واليأس ثم اخذ بالنحيب فتساقطت دموعه على الكتاب الذي كان ديواناً شعرياً لشاعر غريب .

في المقبرة حيث تبعثرت بضعة قبور كان بعضها قد درست اثاره ولم تبقى سوى كومة تراب واحجار ارتفعت عن سطح التربة ، قبور اخرى دهنت باللون الاخضر والازرق وضعت امام احدها باقة من الأس لا زالت خضراء كان قبراً لشاب دهسته سيارة مسرعة ، وبضعة زهرات لشقائق النعمان الحمراء نمت في بعض الاماكن ، بضعة اشخاص هم من حمل الجثمان او ما يسمونهم بالمشيعين ، بقي فيصل يحمل التابوت من احد اركانه يتقدمهم وقد اغرورقت عيناه بالدموع ، وفي احد زوايا المقبرة انزل التابوت وبدأ الحاضرون يتعاونوا في الحفر تحمل فيصل الجهد الاكبر وانزل الاستاذ منسي الى لحده ، اصر فيصل على وضع ديوان الشعر قرب رأسه ، ثم اقتطع بضعة وردات من شقائق النعمان وضعها على القبر.

عند الغروب من كل خميس كان فيصل يأتي للمقبرة لزيارة صديقه ويقضي ليلته كعادته ، لاحظ اهل القرية ان فيصل كان يغني طوال الليل حتى يغلبه النعاس حتى ظن الجميع ان الرجل قد فقد عقله ، كانت بعض النسوة يضعن صينية طعام قرب قبر الغريب كل خميس ويشعلن البخور .
 

 


 

free web counter