| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

رحيم الحلي

arsrks@yahoo.com

 

 

 

الخميس 27/12/ 2007



بدر شاكر السياب باقياً كبقاء العراق وانهاره

رحيم الحلي

الرابع والعشرون من كانون الأول عام 1964 رحل بدراً من سماء الشعر في سماء مطيرة ، ربما كانت تلك نبوءة الشاعر حين كتب رائعته قصيدة المطر :

أتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر ؟
و كيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟
،بلا انتهاء - كالدم المراق، كالجياع
كالحب كالأطفال كالموتى - هو المطر
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر

رحل غريباً وحيداً منعزلاً أو معزولاً ربما بسبب مرضه أو ربما بسبب آراءه المنفعلة ، والتي تزيد من توهجها رهافه حسه ، وما يعانيه من المرض ، ومن الحرمان حيث شحت عليه الحياة باشياء تمناها ، وجادت بها لمن هو دونه في الشاعرية ، ولايمكن فصل ذلك عن الواقع المرير الذي احاط به ، حيث الفصل من الوظيفة والفقر والجوع ، الذي لم يعانيه بمفرده ، وكانت قصيدة المطر انطلاقته النوعيه في عالمه الشعري  :

و منذ أن كنا صغارا، كانت السماء
تغيم في الشتاء
،و يهطل المطر
وكل عام - حين يعشب الثرى- نجوع
ما مر عام و العراق ليس فيه جوع
مطر
مطر
مطر

حمله نفر قليل من الأصدقاء إلى مقبرة الحسن البصري ، في بلد تتلبد سماؤه بالغيوم السوداء لتبتلع نجومه واقماره ، انه لخطب شديد الاسى أن يقتل فاتك المتنبي ، وان يقتل المرض السياب ، ولكننا دائما نجيد البكاء على موتانا ولانعرف قدر الأشياء ألا عند فقدانها .
ربما يعتقد البعض أن هناك جزء من شهرته ، يعود إلى نكوصه عن أفكاره وارتداده ، فكلنا يعرف أن بدرا ً ، كان شيوعياً ثم حدثت انعطافة حادة في آراءه ، كان معيار الولاء الحزبي في تقديم الشعراء وتقييمهم ومنحهم بعض الامتيازات وكما تقول الشاعرة لميعة عباس عمارة : تمنيت لو أكمل بدر دراسته العليا مبعوثاً لإحدى الجامعات المشهورة في العالم كما أتيح لغيره، لو درس كما درس غيره من غير ذوي المواهب، لم يشأ له ذلك المدرسون الذين كانوا يقررون مصائرنا من دون أن نعلم، ويقدرون درجاتنا مهما كانت إجاباتنا بحيث لا نصل الى مستوى يؤهل للبعثة. بدر لم يكن من المرضي عنهم سياسياً، وظل عطاؤه لذلك معتمداً على موهبته وحدها، ومع أن هذه الموهبة كانت كبيرة، إلا أن صاحبها كان يسبح ضد التيار محملاً الجسد النحيل والأعصاب المرهفة فوق ما تحتمل، ومع ذلك أعطى الكثير. وسيظل مادة غنية لكل دارس. في المنح الدراسية والمقاعد الدراسية أو التدريسية ، ذلك جعله يشعر بالاضطهاد وجعله ينكفيء ويشعر بالصدمة والذهول ، كانت صدمته من حزبه حزب الكادحين ، والذي يراه الأمل وميزان الذهب الذي لايغش في قراءاته ، أن انقلابه الفكري المملوء بالانفعال قد افقده صفاءه الفكري ، فهناك دول تحسب على النظام الرأسمالي استفادت من الفكر اليساري وافادت الناس من مزاياه الانسانية أكثر من دول اعتبرت نفسها اشتراكية ولم تكن كما تدعي .
ليس معيباً أن يطور المرء أفكاره وان يضيف إليها أو يشطب منها ، فطريق الحياة هو مثل صعود الجبال وليس كدوران الناعور حول خشبة محوره ، لكن بدر ربما انقلب في انعطافته ، وفي كل الاحوال نحن تهمنا شاعريته الفذة ، أما أفكاره و معتقداته ، فهي ملكه الشخصي ، رغم أن عقيدته الشيوعية جعلته ينتبه إلى حقائق الظلم السياسي والطبقي التي مارسها أقطاب النظام الملكي واسياده المستعمرون ، وجعلته ينتصر للفقراء ، وان ينهل من معين الثقافة العالمية ، وان لاتكون مادته الثقافية محدودة في محليتها ، ولهذا ليس مصادفة أن يكون الشاعر العظيم لوركا أوبول ايلوار أوناظم حكمت شيوعياً ، أن الانتماء لليسار يعني انتماؤك للناس للحياة للثقافة من أوسع الأبواب ، وان ترى الافق امامك رحباً صافياً ، لاتحده اسوار التزمت والتعصب القومي أو الديني ، رغم إني لاأقصد الانتماء الحزبي الذي غالبا مايضر الشاعر حين يؤطره ويضع اللجام في رأسه ، والابداع يعني الانطلاق في الفضاء الفسيح.
أن بقاء قصائد بدر طازجة رغم مرور قرابة نصف قرن على كتابتها هو احد مظاهر عبقرية بدر ، فهي تنبع من موهبة حقيقة اصقلتها المعرفة الكبيرة المستمدة من قراءاته الضخمة إضافة إلى انه عجن قصيدته بهموم الناس ولم تكن جامدة أو متعالية ، فقد صدرت الكثير من الدواوين الشعرية التي تلاشت مع أصحابها من ذاكرتنا ، لكن قصائد بدر ظلت شامخة في الذاكرة ، مثل أنشودة المطر ، وغريب على الخليج ، والاسلحة والاطفال ، والمومس العمياء ، والمسيح ،والنهر والموت ، في زمن كثر فيه المدعون ، وحاولت كثير من الأحزاب أن تجعل الشعراء منبر دعائي ، وحاولت امتطاء صهوة بعض المبدعين مستغلة ظروفهم الحياتية أو طموحاتهم الانسانية واحتياجاتهم ، لذلك كان تجنيد الشاعر والفنان في ميادين الجدل السياسي والفكري المفتعلة أضر بايقاع حياة بعض المبدعين ، وسببت لهم جلطات ابداعية وشوشت صفاء مواهبهم ، فتلكأ البعض بسبب انزواءه في قوقعته الذاتية ، واستغراقه في بذخ الحياة الاستهلاكية .
أن القصيدة تصبح طيبة عندما تخبز في تنور مكتمل الشروط ، حيث تشترك الصورة والفكرة والجرس الموسيقي ، لتقدم شيئاً جمالياً محسوساً ، فقد اخرج بدر القصيدة من حالة الضيق والجمود التي مرت بها ، لكن الحياة لم تسعفه بالسنوات لكي يقدم أعظم ماعنده رغم انه قدم اروع القصائد ، فقد كان بيت من شعره يعادل دواوين عند بعض الشعراء الذين تضخم حجمهم الشعري بفعل الصخب الدعائي .
كانت الصورة عند بدر مميزة ، حيث استخدم تفاصيل الحياة اليومية للناس ، واستخدم الاسطورة وكانت حالة جديدة ملفتة النظر ، ثم لحقه شعراء آخرون ، كان يريد بالاسطورة الابتعاد عن المباشرة في لغته الشعرية وتوظيفها لتوصيل بعض افكاره ، فالفن ليس فقط تعبير عن الحركة الخفية للمجتمع بل وللطبيعة وإظهار جمالها وبريقها .
كتب بدر كثيراً من شعره للعراق ، فقد لاتحصى الأبيات التي ورد فيها اسم العراق وقبلها تغنى بجيكور وبويب النهر الحزين ، و ولم ينسى فقراء بلاده ، من الجياع والعراة ، ولم ينسى المهاجرين الذين يكافحون من اجل حياة أفضل ، ففي كل عام نجوع  :

أكاد أسمع العراق يذخر الرعود
و يخزن البروق في السهول و الجبال
حتى إذا ما فض عنها ختمها الرجال
لم تترك الرياح من ثمود
في الواد من اثر
أكاد اسمع النخيل يشرب المطر
و اسمع القرى تئن ، و المهاجرين
،يصارعون بالمجاذيف و بالقلوع
:عواصف الخليج و الرعود ، منشدين
مطر"
مطر
مطر
وفي العراق جوع
وينثر الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبع الغربان و الجراد
و تطحن الشوان و الحجر
رحى تدور في الحقول … حولها بشر
مطر
مطر
مطر
وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع
ثم اعتللنا - خوف أن نلام - بالمطر
مطر
مطر
و منذ أن كنا صغارا، كانت السماء
تغيم في الشتاء
،و يهطل المطر
وكل عام - حين يعشب الثرى- نجوع
ما مر عام و العراق ليس فيه جوع
مطر
مطر
مطر
في كل قطرة من المطر
حمراء أو صفراء من أجنة الزهر
و كل دمعة من الجياع و العراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حلمة توردت على ف الوليد
في عالم الغد الفتي واهب الحياة
مطر
مطر
مطر
".. سيعشب العراق بالمطر
أصيح بالخليج : " يا خليج
"يا واهب اللؤلؤ و المحار و الردى
فيرجع الصدى
:كأنه النشيج
يا خليج"
" يا واهب المحار و الردى
وينثر الخليج من هباته الكثار
على الرمال ، رغوه الاجاج ، و المحار
و ما تبقى ن عظام بائس غريق
من المهاجرين ظل يشرب الردى
من لجة الخليج و القرار
و في العراق ألف أفعى تشرب الرحيق
من زهرة يربها الرفات بالندى
و اسمع الصدى
يرن في الخليج
مطر"
مطر
مطر
في كل قطرة من المطر
حمراء أو صفراء من أجنة الزهر
وكل دمعة من الجياع و العراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حلمة توردت على فم الوليد
في عالم الغد الفتي ، واهب الحياة "
ويهطل المطر

لقد تأثر السياب أثناء دراسته للأدب بشعراء المدرسة الغربيةمثل ت.س. اليوت ، وايديث سيتويل ، وجون كيتس ، وشيللي لكونه شاعر إنساني النزعة ، ربما ساهم ذلك في انحيازه إلى القصيدة الحرة التي خرجت على قاعدة العروض للفراهيدي ، لكن ذلك لن يبعده عن رؤيه واقعه المليء بالظلم ، ليقف مع الناس المضطهدين الذين سحقتهم أيدي الظالمين من الإقطاع والراسماليين ، ورمتهم في ساحات الجوع أو السجن  :

أود لو عدوت أعضد المكافحين
اشد قبضتيّ ثم أصفع القدر
أود لو غرقت في دمي الى القرار
لأحمل العبء مع البشر
وابعث الحياة، إن موتيَ انتصار

عاش السياب حياة عوز وحرمان في حين عاش شعراء اقل منه موهبة ، ترف الحياة ونعيمها ، وعاش غريبا يحن إلى وطنه إلى شمسه وحتى ظلامه :

الشمس أجمل في بلادي من سواها ، و الظلام
حتى الظلام - هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق
واحسرتاه ، متى أنام
فأحس أن على الوساده
ليلك الصيفي طلا فيه عطرك يا عراق ؟
بين القرى المتهيبات خطاي و المدن الغريبة
،غنيت تربتك الحبيبة
وحملتها فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه ،
فسمعت وقع خطى الجياع تسير ، تدمي من عثار
فتذر في عيني ، منك ومن مناسمها ، غبار
ما زلت اضرب مترب القدمين أشعث ، في الدروب
،تحت الشموس الأجنبيه
متخافق الأطمار ، أبسط بالسؤال يدا نديه
صفراء من ذل و حمى : ذل شحاذ غريب
،بين العيون الأجنبيه
بين احتقار ، و انتهار ، و ازورار .. أو ( خطيه) 2
(و الموت أهون من (خطيه
من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبيه
قطرات ماء ..معدنيه
،فلتنطفئ ، يا أنت ، يا قطرات ، يا دم ، يا .. نقود
يا ريح ، يا إبرا تخيط لي الشراع ، متى أعود
إلى العراق ؟ متى أعود ؟
يا لمعة الأمواج رنحهن مجداف يرود
بي الخليج ، ويا كواكبه الكبيرة .. يا نقود
ليت السفائن لا تقاظي راكبيها من سفار
أو ليت أن الأرض كالأفق العريض ، بلا بحار
ما زلت أحسب يا نقود ، أعدكن و استزيد ،
ما زلت أنقض ، يا نقود ، بكن من مدد اغترابي
ما زلت أوقد بالتماعتكن نافذتي و بابي
في الضفة الأخرى هناك . فحدثيني يا نقود
متى أعود ، متى أعود ؟
أتراه يأزف ، قبل موتي ، ذلك اليوم السعيد ؟
سأفيق في ذاك الصباح ، و في السماء من السحاب
،كسر، وفي النسمات برد مشبع بعطور آب
و أزيح بالثوباء بقيا من نعاسي كالحجاب
:من الحرير ، يشف عما لا يبين وما يبين
عما نسيت وكدت لا أنسى ، وشك في يقين
ويضئ لي _ وأنا أمد يدي لألبس من ثيابي-
ما كنت ابحث عنه في عتمات نفسي من جواب
لم يملأ الفرح الخفي شعاب نفسي كالضباب ؟
اليوم _ و اندفق السرور علي يفجأني- أعود
واحسرتاه .. فلن أعود إلى العراق
وهل يعود
من كان تعوزه النقود ؟ وكيف تدخر النقود
و أنت تأكل إذ تجوع ؟ و أنت تنفق ما تجود
به الكرام ، على الطعام ؟
لتبكين على العراق
فما لديك سوى الدموع
وسوى انتظارك ، دون جدوى ، للرياح وللقلوع



 

Counters