| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

رحيم الحلي

arsrks@yahoo.com

 

 

 

 

الخميس 26/7/ 2007

 

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 


الجواهري شاعر الشعب والشهداء


رحيم الحلي

في هذه الأيام تمر الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر العظيم محمد مهدي الجواهري رفيق طريقنا ورفيق منفانا ، في دمشق التي كرمته ،فقبل عشرة أعوام ودعته دمشق إلى مثواه الجليل في موكب مهيب ، وانأ اليوم ازور ضريحه بهذه المناسبة الغالية ،يواجهني بهيبة قبره الذي أقف إمامه كمن يقف إمام قديسه، وكيف لا و قد حلق بالقصيدة بعلو المتنبي وفي زمن صعب ، وفي مكان أصعب ،اسمه العراك ، قُتِل فيه أئمة البشر والفكر ، وحكم فيه الأجلاف ، من الحجاج مرورا بصدام ،لا اقدر إلا إن ابكيه ، أجد فيه اختصارا لغربة المبدعين ولغربة العراق ،حين أقرا على قبره الذي رسمت عليه خارطة العراق ، ورسم عليها نهريه الخالدين ، كأنما امتدا فوق ضريحه ليشرب منهما ابا فرات ماءا فراتا ، أو ربما يرتويا من ماء قصائده العذبة ، وهو يعبر عن حبه للحياة وتعلقه بها ، وهو الذي افاض عليها من ادبه وفكره ، بحيث أصبح نهرا رابعا بعد المتنبي فهما الاثنان كانا رديفين لدجلة والفرات ، ابكي حين أقرا على قبره المقدس ، رفضه للموت رغم انه يعلم بأن مثله لايموت ولايقدر إن يخفيه قبر أو ان يغيبه الزمان

لغز الحياة وحيرة الألباب أن يستحيل الفكر محض تراب
إن يصبح القلب الذكي مفازة جرداء حتى من خفق تراب
إنا ابغض الموت اللئيم وطيفه بغضي طيوف مخاتل نصاب
ذئب ترصدني وفوق نبوبه دم إخوتي وأقاربي وصحابي

امتلك الجواهري ناصية القصيدة بعدما امتلك ناصية الكلمة ، فطوع الاثنتان وجعلمها ملك موهبته الفريده وخياله الخصب ، وطوعهما ليشكلا اعظم ابداعاته الشعريه ، ورسم بهما أجمل لوحاته الابداعية ، وحفر فوق سطوحهما أجمل صوره ، ولم يقترب من موهبته أي شاعر في القرن العشرين ، إما هو فقد اقترب من الناس في شعره فكان سهلا حلوا ، مفهوما لدى الاوساط الشعبية التي احبها وكتب كثيرا من قصائده لها ، واحس بأوجاعها ، وبجوعها حين يقول

نامي جياعَ الشَّعْـبِ نامي...... حَرَسَتْكِ آلِهـة ُالطَّعـامِ
نامي فـإنْ لم تشبَعِـي...... مِنْ يَقْظـةٍ فمِنَ المنـامِ
نامي على زُبَدِ الوعـود...... يُدَافُ في عَسَل ِ الكلامِ
نامي تَزُرْكِ عرائسُ الأحلامِ...... فـي جُـنْحِ......الظـلامِ
تَتَنَوَّري قُـرْصَ الرغيـفِ...... كَـدَوْرةِ البدرِ التمـامِ
وَتَرَيْ زرائِبَكِ الفِسـاحَ............مُبَلَّطَـاتٍ بالرُّخَــامِ

رغم حلاوة شعره فإنه اتسم بالفخامة والجزالة والبلاغة،فأحتوى ضدين قلما اجتمعا عند غيره ، وهذه الصفة تعكس مقدرته الشعرية العالية النابعة من ثراء لغته وتحكمه بالمفردة المبنية على مخزون كبير من القراءة منذ سنوات طفولته .

انحاز إلى الناس وخاصة ضحايا الظلم والاضطهاد وهو ينذر الظالمين بقصيدته :

أتعلم أم أنت لا تعلم ......... بان جراح الضحايا فمُ
فم ليس كالمدعي قولةً ......... وليس كآخر يسترحم
يصيح على المدقعين الجياع ......... اريقوا دماءكم تُطعموا
ويهتف بالنفر المهطعين ........... أهينوا لئامكم تُكرموا

وفي ابيات أخرى من القصيدة ذاتها يبارك الشهداء ، وقد تقدم أخوه جعفر في هذا الموكب الملائكي الازلي :

أتعلم أن جراح الشهيد ...... تظل عن الثأر تستفهم
أتعلم أن جراح الشهيد ........ من الجوع تهظم ما تًلهم
تمص دماً ثم تبغي دماً ........... وتبقى تلح وتستطعم
فقل للمقيم على ذلة ....... هجيناً يسخّرُ أو يُلجم

ثم يوجه خطابه إلى القاعدين المتقاعسين او المترددين فيحرضهم على الثورة ويطالبهم بالنهوض وعدم القعود :

تقحّمْ . لُعِنت ، أزيزَ الرصاص ........... وجرب من الحظ ما يُقسم
وخضها كما خاضها الأسبقون ....... وثّنِّ بما افتتح الأقدم
فإما إلى حيث تبدو الحياة ..... لعينيك مكرُمة تُغنَم
وإما إلى جدث لم يكن ......... ليفضله بيتُك المظلم
تقحّم ، لعنت ، فما ترتجي ...... من العيش عن وِرده تحرم
أأوجع من أنك المُزدرى ...... وأقتلُ من أنك المعدم
تقحم فمن ذا يخوض المنون ........ إذا عافها الأنكد الأشأم
تقحم فمن ذا يلوم البطين ..... إذا كان مثلك لا يَقحم
يقولون من هم أولاء الرعاع ......فأُفهمهم بدمٍ مَن همُ
وأفهمهم بدم أنهم ........ عبيدك إن تدعهُم يخدموا
وأنك أشرف من خيرهم ....... وكعبك من خده اكرم

وثم ينتقل في قصيدة أخرى إلى الشهيد الغريب و سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام فكتب إليه واحدة من رائعاته الشعرية ، فهو ينحاز دائما إلى جانب الضحايا ويناصر الثائرين ويعبر عن حبه وتقديسه لهم ولثورتهم :

فِدَاءٌ لمثواكَ من مَضْــجَعِ...... تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَعِ
بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنـانِ...... رَوْحَاً ومن مِسْكِها أَضْـوَعِ
وَرَعْيَاً ليومِكَ يومِ "الطُّفوف"...... وسَقْيَاً لأرضِكَ مِن مَصْـرَعِ
وحُزْناً عليكَ بِحَبْسِ النفوس...... على نَهْجِكَ النَّيِّـرِ المَهْيَـعِ
وصَوْنَاً لمجدِكَ مِنْ أَنْ يُذَال...... بما أنتَ تأبـاهُ مِنْ مُبْـدَعِ
فيا أيُّها الوِتْرُ في الخالدِينَ...... فَـذَّاً ، إلى الآنَ لم يُشْفَـعِ
ويا عِظَةَ......الطامحينَ......العِظامِ...... للاهينَ عن غَـدِهِمْ قُنَّـعِ
تعاليتَ من مُفْزِعٍ للحُتوفِ...... وبُـورِكَ قبـرُكَ من مَفْـزَعِ
تلوذُ الدُّهورُ......فَمِنْ......سُجَّدٍ...... على جانبيـه ومـن رُكَّـعِ
شَمَمْتُ ثراكَ فَهَبَّ النسيمُ...... نسيـمُ الكرامـةِ من بَلْقَـعِ
وعَفَّرْتُ خَدِّي بحيثُ استراحَ...... خَـدٌّ تَفَرَّى ولم يَضْـرعِ
وحيثُ سنابِكُ خيلِ الطُّغَاةِ...... جالتْ عليـهِ ولم يَخْشَـعِ
وَخِلْتُ وقد طارتِ الذكرياتُ............بِروحي إلى عالـمٍ أرْفَـعِ
وطُفْتُ بقبرِكَ طَوْفَ الخَيَالِ............بصومعـةِ المُلْهِـمِ المُبْـدِعِ
كأنَّ يداً من وراءِ الضريحِ...... حمراءَ......" مَبْتُـورَةَ الإصْبَـعِ"
تَمُدُّ إلى عالـمٍ بالخُنـوعِ............والضَّيْـمِ ذي شَرَقٍ مُتْـرَعِ
تَخَبَّطَ في غابـةٍ أطْبَقَـتْ...... على مُذْئِبٍ منـه أو مُسْبِـعِ
لِتُبْدِلَ منهُ جديـبَ الضميرِ...... بآخَـرَ مُعْشَوْشِـبٍ مُمْـرِعِ
وتدفعَ هذي النفوسَ الصغارَ...... خوفـاً إلى حَـرَمٍ أَمْنَـعِ

كان الجواهري يساريا ، ووقف مع الشعب وقواه الثورية ، بدءا بمناهضته للحكم الملكي البعيد عن الناس ، والقريب إلى المصالح الاستعمارية ، وايد الجواهري الثورة الجمهورية في الرابع عشر من تموز عام 1958 ، وكان من انصار تطهير ثورة تموز من الفردية ، وتطهير ادواتها من الجيش والشرطة من القوى الرجعية ، التي نجحت باسقاط الثورة ، تنفيذا لارادة الغرب الراسمالي وانتقاما من قواها الثورية وفي طليعتها الحزب الشيوعي العراقي ، وظل الجواهري طول حياته قريبا من الشيوعيين وصديقا ومناصرا لهم شاركهم الامهم واحزانهم ، وحلهم وترحالهم ، وفي دمشق جائنا نحن المنفيون المعارضون لديكتاتورية صدام وغجره ، قادما من عدن بعد براغ التي سكنها سنينا طوال ، واقام في دمشق ضيفا كبيرا ، وكرم فيها غاية التكريم ، واقام في دمشق قرابة العشرين عاما ، كان فيها لنا ملهما في وقفتنا ضد الديكتاتورية ، يشاركنا في كل المناسبات وتبقى خالدة في الذاكرة ، مشاركته في العيد الخمسين لميلاد الحزب الشيوعي العراقي ، وفي الحفل الكبير الذي أقيم في صالة الزهراء في دمشق وحضره الجواهري والقى فيه بعض من قصائده ، فكانت طلته البهية ، أجمل من باقات الورد التي زينت المكان ، على جمالها وجمال مرسلوها ، والهب الحماس وجدد الأمل وهو يلقي قصائده الرائعات وشكل وجوده في المنفى دعما كبيرا لنضال الشعب العراقي وقواه الديمقراطية ضد ديكتاتورية صدام وكأنه ساهم بشكل أدبي في الحكم على الديكتاتورية و شارك في رسم نهايتها .
وفي الذكرى العاشرة لرحيلك أيها الجواهري الكبير اضع اكليلا على ضريحك المقدس .