| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

رحيم الحلي

arsrks@yahoo.com

 

 

 

 

الاربعاء 25/4/ 2007

 

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 

الحلة احدى مدن الشجن

رحيم الحلي
arsrks@yahoo.com

احببت الغناء مذ كنت صغيرا ، حيث عشت في مدينة الحلة في احدى حاراتها الشعبية ، كنا نسمع الغناء في ترانيم الامهات لاطفالها ، وغناء العمال في ورشاتهم ، وحين تندب النساء موتاها ، وكانت تفريغا لشحنات الالم النابع من الفقر والظلم والحزن والامال المفقودة ، تعبيرا عن بؤس لم يعشه حتى ابطال قصة البؤساء لفكتور هيجو ، جئت للدنيا في حارة ولد فيها المطرب سعدي الحلي وهي (عكَد الكَرعين ) في محلة المهدية ، وكانت الحارة تفتخر بذلك ، نتراكض إلى الراديو ، حين كان يأتي الينا احد الاطفال ليخبرنا بأن الراديو يذيع اغنية لسعدي الحلي ، حكى لي عمي عبد علي عن ذكرياته معه ، كان عمي عبد علي ضارب ايقاع بارع ، سمعت انه كان يضرب على الطبلة في الحفلات الشعبية في بدايات سعدي الغنائية ، وعرفت إن سعدي قد توفت والدته وهو صغير وانه عاش سنوات في بيتنا ، حيث يرتبط بقرابة بوالدتي فهو ابن عمها ، ولما بلغت السادسة عشر من عمري ، شاركت في مسابقة برنامج للهواة التي كان يقدمها الفنان كمال عاكف ، ومن شجعني على الدخول إلى هذا المجال ، صديق طفولتي الاخ العزيز الفنان مقصد الحلي ، حيث قدم اسمائنا إلى كمال عاكف ، بتوصية من الفنان ياس خضر الذي تعرف اليه الاخ مقصد الحلي ، كنت أئنذاك طالبا في الصف الثالث متوسط ، كان انشغالي في الدراسة يحول دون سفري إلى بغداد لاكمال المشوار، وكنت اخشى إن يؤثر ذلك على دراستي ، اما مقصد الحلي فقد اصر على السير في طريق الاحتراف ، وهو اليوم مطرب معروف رغم انه لم يأخذ مايستحق من شهرة بسبب حالته المالية الفقيرة وانتمائه إلى اسرة معدمة مثل اسرتي
وفي محلة المهدية ، ترعرع الشاعرالراحل محمد علي القصاب ، وهو شاعر غنائي معروف ، كان السبب في ولوج سعدي عالم الشهرة والنجاح ، الشاعر القصاب الذي رحل في اواخر عام 2003، شاعر فطري موهوب ، كان يكتب لسعدي اغانيه الاولى ويصوغ لحنها بطريقة فطرية ،وقد سجلت اشرطته الاولى في تسجيلات مهدي الوادي أبو عامر في الحلة الكائنة في شارع المكتبات ، الشاعر محمد علي القصاب يكتب كلمات الشريط ، مواويل واغاني ويصوغ لحنها فهو لا يعرف العزف ، ولكنه يمتلك رصيد استماع كبير ، واذن موسيقيه مرهفة ، فكتب اغاني شريط يخمري ووضع لحنها او طريقة غنائها ، وهو الشريط الاول للفنان سعدي الحلي في أوائل الستينات ، وكان احيانا يصيغ كلمات اغانيه وفق لحن معين مسموع ، مثل اغنية اريدك دوم تدلل ، على طريقة تلحين خدك المياس ياعمري للفنان السوري صباح فخري ، واغنية مابدلك والنبي التي أخذ لحنها من اوبريت قدمه الفنان كمال السيد ، كما اخبرني الفنان كمال السيد بذلك ، عندما عملت معه في فرقة المنظمات العراقية عام 1982 في دمشق ، وكتب القصاب اغنية تناشدني عليك الناس ، واغنية يمتة الكاك ، وانا وحيد ، يمدلولة ، خذني يالسريع ، شكثر عندي صدقان ، عيوني مساهرات الليل ، واغاني اشرطته وكاسيتاته في الستينات والسبعينات ، ولما دخل سعدي عالم الشهرة من اوسع ابوابه وهو الاذاعة والتلفزيون ، بدا سعدي يتجاهل مرحلة البدايات ، والايادي التي دفعته إلى عالم النجاح والشهرة وبالتحديد الشاعر محمد علي القصاب ، حين بدا بالتعاون مع ملحنين محترفين مثل محمد نوشي وشعراء شعبيين مشهورين مثل الشاعر كاظم الرويعي في اغنية ليلة ويوم ، وبدا يتجه للعمل مع ملحنيين محترفين نقلوه من شهرة الكاسيت إلى شهرة الاذاعة والتلفزيون ، ولكن المحزن إن المرحوم سعدي الحلي قد تنكر للبدايات ولم يشر في جميع المقابلات التلفزيونية إلى تلك المرحلة ، مرحلة الكاسيت والتي كان بطلها الحقيقي اضافة إلى صوت سعدي الحلي الشجي الشاعر الفنان محمد علي القصاب ، والذي لم يأخذ نصيبه من الاهتمام لا في حياته ولا في موته ، حيث توفى في مرحلة انحطاط الغناء بعد هيمنة قوى الظلام على الشارع التي تكفر الغناء وتحتقر الشعرالعاطفي والغنائي ، فمرت وفاته دون اهتمام اعلامي بعد إن عانى من المرض سنوات عديدة ، ولكن ايادي الشرفاء والطيبين ، امتدت له رغم قسوة الايام ، وسيطرة افكار التخلف والجهل على رؤوس الكثيرين ، اتذكر ذات يوم اني كنت اجلس في مقهى ام كلثوم في الحلة التي اسسها رشيد التكريتي ، كنت اقرا طريق الشعب ايام الجبهة الوطنية كان ذلك عام 1975 ، كنت اقرا الصحيفة وكانت مسجلة المقهى تصدح بأغنية ام كلثوم اسال روحك ، لفت انتباهي إن هناك شخص يجلس على الاريكة المجاورة ، راح يشرح ابيات وكلمات ويحلل الصور الشعرية في هذه الاغنية واقتباساتها ، لدرجة شعرت إن المتحدث هو احد اساتذة الثانوية في مجال الادب او اللغة العربية وحين سألت عنه احد الجالسين جنبي قال لي انه الشاعر محمد علي القصاب .
المدن العراقية قدمت كثير من الفنانين ومنها مدينة الناصرية التي قدمت اعظم المطربين مثل جبار ونيسة وحضيري أبو عزيز وناصر حكيم وداخل حسن وحسين نعمة والشهيد صباح السهل وستار جبار ، والبصرة التي قدمت فنان الشعب المناضل فؤاد سالم والملحن حميد البصري وطالب غالي والمطربة شوقية في فرقة الطريق العراقية ، ذات يوم سألت الفنان كمال السيد عن صوت الفنان ستار جبار ، اجابني بانه من أحب الاصوات إلى نفسه وانه لم يأخد مايستحق من الشهرة بسبب خجله الشديد وبعده عن العاصمة .
أعود إلى مدينة الحلة وهي موضوع مقالتي ، قدمت ايضا الملحن كوكب حمزة التي جاء للدراسة فيها من ناحية القاسم التي ولد فيها في اواسط الاربعينات ، وكان هناك مطربين شعبيين ظلمهم الزمن مثل المطرب مهدي الحلي الذي سار على طريقة سعدي الغنائية ولكن قادسية صدام المجيدة قد التهمت حياته وفي ريعان شبابه وعطائه الفني
عند مغادرتي وطني العراق ومدينتي الجميلة الحلة الفيحاء ، واقامتي في دمشق الحبيبة التي حمتني من اعدام نظام صدام ، وقدمت لي الزوجة والام لابنتي الوحيدتين نغم وغدير ، عند اقامتي في دمشق في بداية الثمانينات عملت كما ذكرت مع الملحن الكبير كمال السيد ، والذي قدم من اليمن الديمقراطية مع الملحن سامي كمال والملحن حميد البصري والملحن كوكب حمزة اضافة للفنانة شوقية وعازف الايقاع الفنان الحلاوي حمودي عزيز في نهاية عام 1981 ، وقدمت فرقة المنظمات اجمل الحان الملحن كمال السيد أبو الحان ، وبالمناسبة الحان هي ابنته البكر من زوجته الحلاوية الشهيدة سناء عثمان عبد السادة ، في دمشق قدمنا على اشهر صالاتها ومسارحها الاغاني الوطنية الثورية ، مثل اغنية ويهه يهله واحنه منهه وبيهه ، بغداد شمعة وماهوا يطفيهه ، للشاعر كريم العراقي ، واغنية سعود للشاعر العظيم مظفر النواب ، والتي تقول كلمات الاغنية يسعود احنه عيب نهاب يابيرغ الشرجية ، هذي يشاميغ الثوار تبرج نار حربية ، وذات يوم اختارني الفنان كمال السيد لمشاركته في حفل مصغر اقامته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري ، وحضرت الحفل الذي اقامه الحزب الشيوعي العراقي في العيد الخمسين ، على صالة سينما الزهراء في دمشق وحضر الحفل الشاعر العظيم الجواهري ، وكان مدير الحفل الراحل عامر عبد الله ، وبعد سفر الملحن كمال السيد بمعية الشاعر مظفر النواب إلى ليبيا توقف عمل الفرقة ، وبدأت هجرة اعضاء الفرقة إلى المنافي الاوربية .
عرفني على الفنان كمال السيد ، الشهيد أبو توفيق ، المهندس رشاد عباس ، استشهد في بشت اشان في كردستان عام 1983 ، وهو من اهالي النجف ، اوصلني له الدكتور عبد الحسين شعبان .
في الفرقة غنينا اغاني اكثرها من الحان كمال السيد ، ومن الطرائف التي تدل على اخلاق الفنان كمال السيد العالية وادبه الجم وشدة تهذيبه ، كان لي رفيق من السليمانية يسكن معي في البيت الحزبي ،وكنت واياه لانستطيع إن نفارق بعضنا وهو الصديق رزكار عبد الفتاح من محلة شورش في السليمانية ، حين انضممت إلى الفرقة الفنية ، قال لي: كاكا اني مايقدر يضل وحدي بالبيت يضوج اني ، اطلب من الفنان كمال السيد يضمني للفرقة ، شرحت للراحل كمال السيد الموضوع ، ولما جاء للاختبار وجده لايجيد نطق العربية واحتار كمال ، حين وجد الدمعة كادت تنزل من عينه ، فقبله عازف ايقاع ، وبدأ يعلمه فن الايقاع ، وكان ذلك عملا مرهقا اخذ كثير من وقت الفنان كمال السيد ، كان معنا في الفرقة عازف الكمان الاخ أبو نجيب من كربلاء وعازف العود أبو صفاء من الناصرية ، واصوات نسائية عديدة ، كنا نؤدي الاغاني بطريقة حماسية ، فهي اغاني وطنية تلهب الحماس ، كنا نؤديها وكأننا نقاتل وفي لحظات تكاد الدمعة تسقط من العيون ، وكثيرا ما اجد الاخ رزكار يضرب الطبلة والدموع قد سالت على خديه ، حين يصعد اللحن إلى ذروته ، في اغاني كمال السيد مثل سعود وبغداد وياشعبي دمي الك للشاعر كريم العراقي.
ثم تشتت اعضاء الفرقة رزكار ذهب إلى كردستان ، الباقي هاجروا للمنافي الاوربية ، الفنان كمال السيد هاجر للدانمارك .
بقيت في دمشق وقد رحل احبتي ، يؤنسني وجود الشاعر العظيم الجواهري ، والشاعر العظيم مظفر النواب وكثيرون من اقمار وطني ، ولكنني عشت الوحدة والحزن وبقيت كالسيف وحدي اعانق غمدي ، يلفني صدأ الغربة.
قررت إن افتح محل لبيع اشرطة الكاسيت ، تقليدا للفنان كمال السيد ، حين افتتح محلا في مساكن برزة عام 1985 اسماه تسجيلات الشموع ، على اسم اغنية الشموع التي لحنها للفنان حميد منصور، اما محلي الذي افتتحته في الريف قرب عذرا ، اسميته تسجيلات بغداد ، حبا لبغداد عاصمة وطننا الحبيب ، وبدأت احقق الشهرة والنجاح نتيجة حبي للغناء ، وايماني بدور الاغنية في تشكيل المفاهيم والقيم الاجتماعية ، فهي تعبيرعن المستوى الحضاري لاي شعب .
وكانت مساهمتي الاهم ، حين قدمت إلى السوق ، عبر شركات التوزيع والانتاج الفني ، اشرطة منوعات ، اولها شوق الغريب كانت الاغنية الاولى فيه اغنية لفؤاد سالم تحمل ذات الاسم ، وضعت فيها اغاني المطربين الممنوعين مثل قحطان العطاروالشهيد صباح السهل وانوار عبد الوهاب ، ومقاطع شعرية شعبية لشعراء كبار مثل مظفر النواب وشريط لاحياء ذكرى رحيل الملحن كمال السيد اسميته ياغريب الدار وكانت الاغنية الاولى فيه ياغريب الدار بصوت كمال السيد ، قدمتها إلى مكتب الحزب في دمشق ، والذي كان يديره الرفيق أبو عادل وكان المكتب يوصلها إلى اذاعة الحزب في كردستان ، صوت الشعب العراقي .
حين جائتني ابنتي الاولى اسميتها نغم تيمنا بالفنان فؤاد سالم والذي يكنى وقتذاك بابو نغم ، والذي كنت اقدره كثيرا ، واحب اغانية الرائعة ، وقد ساهمت مساهمة اعتز بها ، في ازالة التعتيم الذي كان يريد إن يفرضه اعلام نظام صدام على الفنانين المعارضين لحكمه ، وعلى قلة امكانياتي المادية والفنية كنت استثمر ، علاقاتي مع شركات الكاسيت من اجل المساهمة في اعلاء صوت الفنانين المحاربين من نظام صدام واذنابه .
وحين عدت إلى الوطن اغلقت محلي وقلت سأعود إلى وطني كي استريح استراحة المحارب ، فوجدت الناس هناك وبالذات الاقرباء قد صدعتهم المحن وغيرتهم ، فاكتشفت ان هذا المحارب بحاجة إلى سيوف اضافية لا الراحة ، وحين اعيتني الحيلة بسبب الفقر وسيطرة النفاق الاجتماعي والسياسي عدت إلى دمشق بخفي حنين ، رافعا الراية البيضاء ، وتركت العمل في مجال الاغنية ، بعد إن خسرت زبائني ، وبعد إن اخذ مني التعب مأخذا .
يحزنني تجاهل الاعلام العراقي اليوم لكثير من الفنانين المظلومين مثل الملحن كمال السيد ، والمطرب قحطان العطار ، فحتى في ميدان الغناء لم اجد تبدلا ، وكأن العراق لازال في عهد الصنم ، اتمنى من الفضائيات المتفتحة ، والتي تمتلك روحا حضارية ، ونفساً ديمقراطياً ولو بشكل محدود ، أن تنصف هؤلاء ، اما آن للظلم أن يزول ولشمس الحرية أن تشرق ، ام إن ظلاما اشد وعورة قد دخلنا صوبه .