| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

رحيم الحلي

arsrks@yahoo.com

 

 

 

السبت 24/11/ 2007



غرباء

رحيم الحلي

كان يسكن في بيت دمشقي عتيق ، متصدع الجدران ، في غرفة عتيقة معتمة ، مسقوفة بألواح خشبية منحنية ، تكسر بعضها ، أمام نهر بردى الذي جرت في قيعانه ، مياه أسنة طرحتها البيوت المطلة على النهر ، رائحة العفن غلفت المكان ، والبعوض والذباب لايبارحا الطيران والوقوف في أركان الغرفة ، كانت هناك كومة من الكتب والمجلات ، وضعت دون ترتيب وتدل على حالة الضجر والاكتئاب ، جاء من الجزائر التي قدم إليها هارباً من وطنه المبتلى بالقهر المزمن ، فقد كان شجاعا ً صادقاً أحب الحرية ، ورغم انه لم ينضم إلى أيٍّ من الأحزاب ، فقط لأنه كان يرافق بعض المثقفين اليساريين ، دمغته السلطة بختمهم الأحمر وأُعتقل في شباط الأسود ، وكان على وشك الاعتقال أواخر السبعينات ، كان غريب الأطوار بعض الشيء ، عمل َ مدرساً للغة الانكليزية ، أمتلك بيتاً جميلاً وسيارة فاكس فاكن موديل الستينات ومكتبة صغيرة ، رغم ذلك أثر العزوبية ، ربما لأنه لم يشعر بالاستقرار حيث تعرض لعقوبة النقل المتكرر ، وتنقل بين البلدات المتباعدة بسبب تحديه لأزلام السلطة ، ورغم إلحاح أمه بالزواج حيث تقدم به العمر و اقترب من أربعيناته ، فقد شعر بالخوف والقلق على مصيره ، وغادر بلده يبحث عن حياة أفضل وأكثر أمناً.
في هذه الغرفة المسكونة برائحة الملل والعفن ، من سقفها الخشبي المتشقق تدلى مصباح صغير شاخَ ضوئهُ فزاد من كآبة الليل السقيم ، الذي تلازم مع صحن من اللبن الصغير وقنينة صغيرة من عرق دمشقي مع بضعة حبات من الفلافل ، في الغرفة المجاورة ، سكنَ منعم شاب بصري في أوائل الثلاثينات من عمره ، إما الثالثة فقد شغلها احمد الشاب الصغير بائع الصابون المتجول ، الملل و الضجر خيما على المكان ، منعم كان ودوداً واجتماعياً ، إما أحمد فهو يفكر بجمع النقود ويحلم بان يصبح ثرياً ، لم تجذبه أحاديث السياسة عندما تدور الخمرة في رؤوسهم ، حتى انه لايشربها ألا قليلاًً وبجرعة صغيرة ربما للمجاملة ، سرعان ما ينسحب ، إما منعم فقد كان يشربُ كثيراً دون أن يفقد توازنهُ ، أما حفظي فيصبح شرساً وتنطلق نرجسية حادة ترتسم في عيونه اللامعة ، ليتحدث عن سيارته الفاكس فاكن الخضراء وبيته في الحي الراقي ، ربما شعر بالخسران والضياع المبكر ، لايريد الغربة ولكنها فُرضتْ عليه ، ثم تحدث عن بطولاته حينما ضرب ابن مدير الشرطة رغم انه لم يكن مشاكساً ، ولكن أراد تأديب بقية الطلاب ، وكيف رفض الذهاب إلى مركز الشرطة ، منعم كان يتحدث عن وظيفته كمدير لاورزدباك البصرة ، وحين عرضوا عليه أن يصبح حزبياً رفض ، ثم غادر العراق عندما أنطلقت أولى شرارات الحرب وتسربت في الفضاء رائحة البارود ، دون أن يكمل حديثه ، يقاطعه حفظي بطريقة غير مبالية ليتحدث عن تصديه لمحافظ المدينة حين حضر في انتخابات المعلمين ، شعر احمد بالضجر فالحديث لايثير اهتمامهُ ، فلقد خرج مع أخوه حباً بالسفر ، لكن أخوه ذهب إلى كردستان ملتحقاً بحركة الأنصار ، إما هو وجد نفسهُ وقد فقد مهنتهُ التي اعتاد عليها منذ الصغر ، فكيف يبيع الماء في حارة السقايين ، فالصابون الذي يبيعه في طرقات مدينتهُ ، كان يجلبهُ التجار من هذا البلد الذي وجد نفسهُ فيه غريباً ضائعاً ، يسكن في غرفة صغيرة رطبة لكن أحمد زيَّنَ جدرانها ببعض صور النساء الشهيرات ، وغطى عيوبها بصفحات الجرائد ، ورتبها فبدت مريحة لزائريها ، لم يستقبل جيرانه رغم تمنيهم أن يتعاطوا طقسهم المسائي في تناول الخمرة في غرفته المرتبة ، فهو يخشى أن تتعشق رائحة العرق في أركان الغربة ، فتتحد مع العفن الأتي من مياه النهر الأسنة ، فيصبح الجو لايطاق لزائريه الخاصين ، في غرفة منعم التي زينت جدرانها صور جيفارا و عبد الكريم قاسم ، تقام طقوس الشرب اليومية ، حيث تشع لمبات النيون ضوءاً قمرياً مبهجاً ، وعلى أصوات أغاني سعدي الحلي التي تصدح من مسجلة منعم الصغيرة ، التي اشتراها من سوق الجمعة أو سوق الحرامية كما يسموه أهل البلد ، والتي يحن الجميع لسماعها ، فهي تبدد إحساس الغربة ، فيعتقدوا أنهم تحرروا من أسْر المكان ، وحين تنطلق اغنية سعدي( يمدلولة )يزداد هياج الخمرة ، ويرقص حفظي طرباً ويدور في المساحة الصغيرة قرب الطاولة العتيقة ، كان منعم يُهيي ء طعاماً للحضور ، فقد طبخ الباجة في طنجرة الضغط الإيرانية ، التي اشتراها من السوق ، فهو يبيع الملابس العتيقة والمسجلات الصغيرة والأحذية وطناجر الضغط المستعملة ، عند الصباح أو بالأصح عند اقتراب الظهيرة ينهض ضجراً ، ليعيد ترتيب الغرفة التي انتشرت الفوضى في إنحائها ، وبعد مرور عشرة أعوام أصبح أحمد بائع مصوغات ذهبية حيث تزوج من امرأة عديمة الجمال ومن أسرة ثرية ، إما منعم فقد وُجِدَ ميتاً في غرفته ، وقد صعقته المدفأة الكهربائية الصغيرة ، إما حفظي الذي نفدت نقودهُ ، وصار يعتاش من بيع المسابح ، في احد المقاهي الشعبية ، فمات أثر مرض هدهُ سريعاً ، ولم يستعيد المال الذي وضعهُ عند نسيبهُ الذي تحجج بأنه حوَّلَ المبلغ للدينار من اجل التجارة وقد تأكلَ بانخفاض قيمة الدينار ، مات حفظي وهو يحلم بشراء فوكس فاكن يقطع بها شوارع الغربة وبساتينها ، وباليوم الذي ينتهي فيه الظلم في بلاده ، ليعود إليها الغرباء المنفيون .

 


 

Counters