| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

رحيم الحلي

arsrks@yahoo.com

 

 

 

الأحد 21/10/ 2007



الأنهيار

رحيم الحلي

كان الوقت مساءا ، حين وصل الباص الذي أقله من منفاه ، مع أسرته الصغيرة المكونة من زوجته وابنتيه ، كان مرتبكاً وخائفاً ، كل شيء أمامه بدا غامضاً ، بالكاد تعرّف على ملامح مدينته ، فالجسر الذي عبر عليه الباص ، وكذلك مدخل المدينة ، لم يستطع تذكرهما ، لكنه حين وصل إلى مدخل المدينة القديم ، تعرف على دار السينما التي دخلها مراراً منذ طفولته البائسة ، واطلعته على العالم الواسع ، وانخرط في فترة شبابه المبكرة في احد الأحزاب اليسارية ، حيث جذبته أفكارها المدافعة عن الفقراء ، ووجد نفسه مضطراً للهروب بعيداً ، إذا أراد أن لا يبوح بأسرار من عمل معهم ، فقد أحبهم ، ولم يكن أمامه خيار أخر ، سوى إن يموت بأيدي الجلادين ، هاهو بعد ثلاثة وعشرين عاما يدخل مدينته التي كان يحلم برؤيتها ، رؤية والدته التي تنتظره وشقيقاته الثلاث وشقيقه الوحيد ، رؤية أصدقائه كي يعرف من نجا من مراحل الموت المتعددة ، بدءاً بالسجن ثم ساحات الحرب والموت المجاني .
وقف الباص قرب حارته ، تعرف إليه احد جيرانه ، طلب منه إن يدله على الدار ، فهو قد نسى مداخل الحارة ، يبدو أن بعض التغييرات البسيطة ، قد أوهمته ، ثم جاء صوت الطبل وقدم إليه الأهل فرحين ، يعانقوه الواحد تلو الأخر ، وجاء دور الجيران ، تعرف بصعوبة على أولئك الذين تركهم صغاراً .
جلس مع أهله ، يريد إن يعرف ما حصل بغيابه ، بدأت تتساقط عليه صخور الأحداث مثل جبل تهاوى بعد بركان ، لقد تصدع كل شي ، فقد تعرضوا لكيد السلطة ، التي أرادت إن تمرغهم بوحلها ، كي يبدو المعارضون أمام الناس ، بأنهم أبناء أسر وضيعة رديئة ، أخته الوسطى بدت تتحدث بلغة غريبة عليه ، لا قاسم مشترك ، إذ اعتبرت الثوار مجموعة من اللصوص ، حاول إن يشرح لها أن كل الثورات تتعرض إلى استغلال بعض اللصوص لغياب الدولة ، وهؤلاء كثيرون ، بسبب البؤس و الفقر الناتج عن النهب والاستبداد و الفساد ، ثم بدأت تدافع عن الطاغية ومنجزاته ، الصغيرة تزوجت من احد اللصوص الشرعيين الصغار ، والذين كانوا مطية لأزلام السلطة الفاسدة ، لم يتعرف على ذلك بسهولة ، لكنهم أرادوا أن يوصلوا له بعض الحقائق بجرعات صغيرة ، كما يعطى الفرد جرعات صغيرة من اللقاح ، اصابته الحمى والدوار والذهول ، أرادوا أن يلقحوه من رومانسيته الثورية ، فقد تحمل الغربة والجوع ، ولم ينحني لا إلى إغراء و لا إلى تخويف ، وبقى صابراً ، أكل خبزته المرة ، بكد يديه ، لم يأخذ مساعدة من حزب ، حيث رفض عروض كثيرة ، بان ينضم إلى بعض الأحزاب الكريمة ، التي أعطت رواتب سخية ، لمن ينضم إلى صفوفها ، وعمل أثنى عشر ساعة يوميا وبأجر زهيد ، كي لا يبيع نفسه ، لقد أتعبته طهارة نفسه في عالم السياسة المملوء بالزيف والمتاجرة ، لقد اكتشف إن كثيراً من الشعارات كانت مجرد كلمات ، وتبين كذب كثير من الذين أحبهم ، وسار ورائهم ، وأضاع سنوات عمره في دربهم ، لكنه لم يرمي رايته ولم يفقد الأمل ، وظل مؤمنا بأن دربه ، هو الطريق الأفضل وان أصحابه هم اصدق من الآخرين ، رغم وجود كثير من الكاذبين بينهم.
عند الصباح شعر إخوته إن شقيقهم لايمكن شفائه من أحلامه الرومانسية ، لم يتقبل الواقع ، لايريد إن يتفاهم مع الآخرين ، أنهم يريدون إن يعيشوا حياتهم ، دون مصاعب ، لا يمكن ترويضه يبدو مثل ثور هائج ، يريد إن يهدم كل ماحوله ، نظرت إليه شقيقته الوسطى عند الصباح ، بدا وجهها مشوهاً متصدعاً ، طلبت منه ان يخرج ليبحث عن بيت للإيجار ، نظر إلى أمه التي بدت غير مكترثة ، والى شقيقه الذي كان مخرجاً ماكراً ، يدير الأحداث بدهاءٍ بارع ، ويراقب بعيون ثعلبية .
لابد له من صدمة قوية كي يستفيق من أحلامه ، هكذا همست شقيقته الوسطى بعد أن سكبت طاسة ماء خلفه ، أدار عينيه صوب أشقائه ، رمقهم بنظرة ازدراء ، ثم سار مع زوجته وبناته ، فقد أحس بالغربة ، لابد إن يعود إلى وطنه ( المنفى) ، وبعد إن عرف أن لا أحداً أكترث بقدومه من أصدقاء الأمس ، ربما لأنه لايحمل شيئاً ذا جدوى.
 


 

Counters