| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

رحيم الحلي

arsrks@yahoo.com

 

 

 

الأثنين 21/1/ 2008



القاص جمعة كنجي
والرحيل المأساوي

رحيم الحلي

منذ عام بدأت أبحث عن قصص قصيرة ، أروي فيها ضمئي إلى عالم القصص والحكايا ، فدلني البحث على موقع القصة العراقية الرائع والذي أسسه الأستاذ الأديب جاسم المطير والقاص عدنان مبارك ، ومن خلاله قرأت بنهم كتابات القصصين المعروفين مثل فؤاد التكرلي ، وجاسم المطير، وزعيم الطائي وأخرين ، فتعرفت على قاص شدَّني بشكل عجيب وغريب إلى كتاباته ، هو القاص الراحل جمعة كنجي ، لا أدري هل شدني إليه تاريخه النضالي الطويل أم بساطة اسلوبه ، حين ابتدأت الدخول إلى هذا العالم الابداعي الساحر ؟ فلقد تسلل إلى نفسي عذباً رقراقاً مثل صفحات الماء حين تجلس على حافات الأنهار العذبة ، دون تقديم أو تعريف ، دخل مثل ضوء الصباح حين يتسلل عبر نوافذ العقل والقلب ، أحزنني رحيله المبَّكر كعادة الأقمار في سماء العراق المظلمة ، لا ادري لماذا ترحل الأقمار مبكراً ؟ وبطريقة مفجعة ! تترك جروحاً في القلب وندوباً في الروح ، هكذا رحل هذا المبدع القاص جمعة كنجي .
تمتاز كتابات القاص جمعة كنجي ببساطة وسلاسة عاليتين ويكاد يعتقد القاريء أن هذه القصص موجهة للاطفال وحسب ، وهي حقاً ستكون مميزة في هذا المجال ، وستلقى اعجاباًً عندهم وإستمتاعاً عند قراءاتها ، بينما تحتوي هذه القصص في الواقع كلاماً أشبه بالحكمة و التوجيه والتحذير ، وهي تريد أن تقدم خطاباً سياسياً رمزياً غير تقريري ، قد عجنه بماء الأدب وباسلوب قصصي مشوق وبلغة متماسكة ، ففي قصة الأشجار لاتموت أقص اليكم هذا المقطع : مضى الصيف ، واقبل الخريف ، وبدأت أوراق الأشجار تتساقط .. في هذه المرة ، لم تخف الأشجار ولم تضطرب ، فهي تعلم أنها مقبلة على حوادث خطيرة : ستهب العواصف . وتتساقط الثلوج ، وتفيض الوديان وتقصف الرعود ، وتنتشر الحرائق ...وسيأتي الأنسان أيضا ًحاملا ً فأسه ، وبرغم كل ذلك ستبقى الغابة مزدهرة ، خضراء ، يانعة ، ولن تموت الأشجار أبدا ً ..
لغة الأمل وحب الحياة والسلام تنضح من بين كلماته وتنفذ إلى قلوبنا بدفء واشتياق .
وفي قصة السمكة الفضية يكتب : " إن الأفعى السوداء كبيرة بحجم الجاموس ، وشرسة كالذئب ، ونهمة بحيث تبتلع كل من يسوقه القدر إلى طريقها .. وهي في كل عام ، تلد آلاف الأفاعي السوداء التي لا تقل عنها غدرا ً .. ماذا يفعل لو هاجمته تلك الأفعى ؟"، أن هذه الأفعى في هذه القصة هي الديكتاتورية وأذنابها حين إبتلعت أبنائنا في حروبها ، وبهذا إلتجأ إلى هذا الأسلوب الرمزي وحكايا الأطفال ليوغل في الرمزية ، وليوصل رسالته دون أسلوب مباشر ، كي ينجو من العقاب الذي لم ينجو منه في النهاية ، ولتبدو قصصه أشبه بحكايا أو قصص أمريكا اللاتينية التي استخدمت الخرافة الشعبية في النسج القصصي .
ففي قصة الشمس والثلج والجبل يكتب : الشمس اكبر منا جميعا ً ، هي التي أذابت الثلج ، فجعلته قادرا ً على الوصول إلى البحر .
يقول الشاعر خلدون جاويد : ذكرتني مجموعة القصص القصيرة للأديب الراحل جمعة كنجي بشاعر انجليزي يدعى توماس كراي ، اذ يقف هذا الشاعر أمام مقبرة فقراء ليعاتب الزمن القاسي قائلا كم من عبقرية تحت هذا التراب وقد عتمها الفقر .
قصصه كانت تتحدث عن الناس وخاصة الفقراء الذي انتمى إليهم ، بدأ الكتابة في الصحافة العراقية عام 1952 حيث كتب في جريدة فتى الموصل ، وكتب في صحف " أتحاد الشعب " وفي " طريق الشعب " وفي " الفكر الجديد " وشمس كردستان ، وله العديد من المقالات في مجلة التراث الشعبي ، أن هذا المنهج السياسي والفلسفي الذي انتمى إليه جعله يكتب بأسلوب هادف يطمح لبناء عالم يحلم به ، عالم يملؤه الحب والخير والسلام ، ليس فيه عدوان أو حروب ، ليس فيه ظلم ونهب وجوع ، تشرق فيه الشمس وينزاح من أُفقه الظلام ، كي يذوب الثلج وتنسكب المياه في الأنهار والجداول ، أَحبَّ الإنسان وإنحاز إليه في صراعه مع الظالمين والسارقين لقوته ، والمعتدين على حقوقه وحريته ، يريد حياة بلا متطفلين مزعجين ، ففي قصة الطوفان أقتطف النص الأتي : هكذا ظل هؤلاء الكسالى يلتهمون طعامهم بشراهة ، إستطاعت الجرادة ُ أن تأكل بقدر حجمها من الأوراق الخضراء ، أمّا الذبابة فرشفت من قشر بطيخ حتى إنتفخ بطنها ، بينما بقيت البعوضة ملتصقة بأحد السيقان ، غارسة خرطومها الحاد فيه ، تنهل عصيره بغير حساب... إستمروا يأكلون ببطر ، والفلاح منشغل في عمله
وفي قصةالسمكة الفضية يتضح خطابه وانتصاره للفقراء حيث كتب المقطع الأتي : متى يمتلك الفقراء اللؤلؤ؟؟. نظرت السمكة إليه مليا ً ، وأجابت بتريث:
سيمتلكونه ذات يوم . لكن ذلك اليوم ، سيكون معمدا ً بالدم . ولن يتحقق ، إلاّ إذا عرف الفقراء لماذا هم فقراء ..!
أليست هذه القصة هي دعوة للثورة أو الاستيقاظ ؟ كي تنتهي حكاية الظلم والاستغلال ، كي يمضي ليل القسوة الطويل .
لقد حلم بالربيع بالدفء يدخل بيوت الفقراء ، وحياة الناس ، ليرحل الثلج والبرد والخوف ، لقد إنتظر شروق الشمس طويلاً ، ومرت سنوات عجاف ينتظر ، كي يفرح الجبل وتبتسم الحياة والانسان ، كي تكبر شجرة السنديان والجوز وتعشب الحقول ، الذئب والدب والثعلب والزنبور هما دلالات الأذى والاعتداء على الإنسان الخلاق المنتج للخيرات والذي يزرع الثمار والفواكه والقمح ، رغم ذلك يجوع ، فهو يحلم بعالمٍ يحب الناس بعضهم ، ويتعاون الناس بينهم لبناء عالم سعيد .
في حكايا المسافر كتب الشهيد جمعة كنجي : " ذات يوم جميل ، قبل أعوام قليلة ، هدمنا جداراً قديماً ، لكننا لم نفكر كثيراً بطرح الأنقاض خارج المدينة !!! فعاد الآخرون وبنوا ذلك الجدار مرة اخرى ثم بنوه في غفلة منا " .
انه جدار الديكتاتورية التي ناضل ضدها ، حين أطبقت على أنفاسه وعلى ابداعه ، ومنعته من النشر ، وضيقت عليه حياته بالإستدعاء المتكرر لأجهزتها القمعية ، وفي أجواء العوز والجوع التي عاشها أبناء شعبنا المبتلى ، والتي دفع فاتورتها المثقفون بشكل مضاعف ، حيث أراد نظام صدام تركيعهم وإخضاعهم ، بقي جمعة كنجي على دربه وعهده شجاعاً متحدياً الديكتاتورية ، والتي تسببت برحيله المبكر حيث تعرض لسكتة قلبية ، يوم 18/10/1986 بعد خروجه من مبنيى مديرية أمن نينوى ، وإنتقموا منه حتى بعد رحيله المفجع ، حيث إعتقلوا زوجته وأبناؤه الثلاثة ووالدته وشقيقته واولاد شقيقه ( أبو عمشة) ووالدتهم وإختفت أخبارهم إلى اليوم ، ولم يعثرلهم على أي أثر في كل المقابر الجماعية التي إمتدت في طول البلاد وعرضها .

كتب الأستاذ صباح كنجي السطور الاتية عن حياة هذا المبدع  :

جمعة كنجي
مواليد 1933 الموصل ، بعشيقة _ بحزاني .
انهى الدراسة الاعدادية – القسم – الادبي سنة 1953 .
خريج الدورة التربوية سنة 1954 ، عين معلما ً في مدارس سنجار والشيخان والموصل .
التحق بصفوف الانصار عام 1963 ، بعد فصله من التعليم .
كان له إهتمام بالتراث ونشر العديد من المواضيع في مجلة التراث الشعبي .
كتب القصة القصيرة ، وله عدة مجاميع غير منشورة .
نشر قصص للأطفال من خلال دار ثقافة الطفل عام 1985.
نشرت له مجموعة قصصية في سوريا بعنوان ذلك المسافر عام 1966 عن دار بترا للطباعة والنشر.
له مخطوطة غير منشورة عن الديانة الأيزيدية .

سلاماً لك أيها القاص جمعة كنجي ، وسحقاً للظُلْمَةِ والظلامْ ، لابد للشمس أن تشرق ، ولابد للعدالة أن تتحق ،
والسعادة أن تكون ذات يوم ملك الجميع .
هل ندعوا للاهتمام بنتاجك القصصي ؟ أم ننتظر إنقشاع الغيوم من سماء العراق الجريح ! كي ينتهي ليل العراق الطويل ، وتشرق شمسنا الحزينة أيها المناضل الراحل القاص جمعة كنجي ، حيث لازالت كثير من العصافير تطير في سماء الغربة الطويلة ، ولازال أزيز الرصاص يزرع الخوف ، واصوات المدافع تهز أغصان الاشجار ، ولم يحط السنونو بعد ولازال مهاجراً يحلم بنهار جديد.

 

Counters