| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

رحيم الحلي

arsrks@yahoo.com

 

 

 

السبت 17/11/ 2007



النوفرة

رحيم الحلي

جلستُ على احد كراسي الخيزران في المقهى الدمشقية القديمة (النوفرة) ، الغافية على عتبة الباب الجنوبي للجامع الأموي ، حيث السلالم الحجرية النازلة ، تحت التيار البشري المار ، خليط من الناس ، بلباس يمثل أزياء الماضي والحاضر ، نساء بلباسها الشعبي ، وأخريات بلباس عصري ، مشهد دافئ يمر أمام ناظريك بهدوء وانسياب لطيف ، أجمل ما يشدني في هذا المقهى هذا الامتزاج بين الألوان المتباعدة ، والسواح القادمون من بقاع الأرض المختلفة ، الغربيون هؤلاء كانوا أكثر وضوحاً من الشرقيين ، تراهم مثل قاع نهر هادئ وصافي ، ذات مرة اشترى أربعة سواح قنينة كولا واحدة تنابوا على شربها ، انشغلوا بشربها وبحديث هادئ منصرفين للتمتع بالمشهد التراثي الجميل ، التقطوا صورا للذكرى ، صوروا الجامع الذي مثل طرازاً رومانياً في بناءه ، وكذلك الأحجار التي رُصِفَتْ بها السلالم والطريق النازل إلى حارات دمشق القديمة ، أما أنا كنت الملم نفسي المبعثرة التي حطمتها صدمات كثيرة أولها كذب بعض من أصدقائي ، أولئك الذين ظننتهم حملة راية الثورة والفقراء .
ذات مرة كنت انتظر احد الثوريين عند احد الأصدقاء ، وقد حضرتُ من الريف البعيد حيث استطعت أن احصل على بيت زهيد الإيجار، هتف لي معتذراً بسبب نزول قطرات المطر التي سوف تتلف رونق هندامه الجميل ، ناسياً زوجته وأولاده الأربعة التي خلفهم في الوطن ، راح يعيش مراهقة متأخرة هاجت عنده في مغتربه الجميل، في شقته الحلوة في إحدى ضواحي دمشق المترفة .
اليوم أنتظر صديقاً أخر ، نموذج أخر للازدواجية التي تحدث عنها علي الوردي ، زميلي في كلية الادراة والاقتصاد في جامعة بغداد ، لأربع سنوات قضيناها مجتمعين ، جاء من الريف ، الريفيون تتجسد عندهم هذه الازدواجية بشكل مركز (طبعا لا اقصد جميعهم) ، لم نفترق أيام دراستنا الجامعية ، اجتمعنا على حب الشعر والعدالة ، عارضنا حكم العفالقة بسبب ظلمهم وجهلهم وإفقارهم للناس ، ثم غادرنا الوطن ، هو إلى المنفى الأوربي ، فانشغل هو بجمع الدولار ونسى كل شيء لا الفقراء عادوا يعنوه ولا الأدب ، وحتى العفالقة صار يمدحهم عند حضور والد زوجته الذي ينحدر من أصول ريفية على حدود العراق ، والذي زوجَّه ابنته حباً بالدولار كما أعلن ذلك بصراحة ، وهو يضحك واضعاً يده على كرشه المندلق أمامه ، ثم ما لبث يضرب على جيبه ضاحكاً بطريقة مزعجة ، وقد جَلَسَتْ إلى جواره زوجتهُ بكرشها المتدلي ، وراحت توزع ابتساماتها الممجوجة وهي ترفع ساعديها التي غطتهما أساور ذهبية سميكة ، وكأنها تريد أن تغيض الآخرين ، وهي تقول : لاينفعك شيء مثل المال ، المال أفضل من كل شيء ، بينما راح عم صديقي يتحدث عن بطولات القائد الميمون ، وحين حاولت أن اعترضه كشف عن صدره ، و ضربه بقوة براحة كفه المفتوحة ، الضربة أحدثت صوتاً قوياً ، ثم قال اسمع عمي افديه بروحي شو بتحكي أنت ! لم يتردد صديقي العزيز أن يتضامن مع عمه العظيم ، فخرجت مدحوراً مهزوماً ، هذا الصديق هتف لي اليوم ليراني ، بعد أن ابتعدت عنه سنوات طويلة ، انتظرته اليوم احتراماً لوعدٍ أعطيته إياه خجلاً .
قال لي الأستاذ حفظي ، الذي جلست معه مراراً في هذه المقهى ، بعد أن انجح في اقتلاعه ، من مقهى صغير في احد مداخل سوق المرجة المكتظ بالعابرين ، هذا المقهى يرتاده بعض الباعة المتجولين وبعض المارة من المتسوقين ، قريباً من باب احد الحمامات الشعبية القديمة ، يكتظ بالجالسين الغائبين وسط سحب الدخان التي تملأ المكان ، فيصبح الجو خانقاً لايطاق في هذا المقهى الصغير الضيق والممتد طولياً في احد جدران الحمام ، قال لي هذا الصديق الوفي : انك تهرب من الحاضر ، حين وجدني مهتماً بقراءة الكتب التاريخية والتراثية ، وحين وقفتُ طويلاً ، عند حياة الأبطال المضحون ، ضحايا نكوص العهد وغدر الناس ، حيث اغلب الناس يهربوا عند اشتداد الخطب ، هذه عادة بشرية تنحدر من أصولهم القديمة ، أما البشر الحقيقيين يثبتوا في ساحة المنازلة ، كما ثبت المسيح عيسى بن مريم ، ويحيى المعمدان ، والإمام علي والحسين (ع) ، وحجر بن عدي وجيفارا .
أما النبي يحيى فهو يرقد في هذا الجامع الذي بناه الأمويون ، جوار النبي زكريا ، قريباً من جرن التعميد الذي لم يزل يدل على ماضي المكان ، هنا جلس الطاغية يزيد وهو يتشفى بقتل سيد الثوار الحسين ورؤية رأسه الشريف المقطوع والمحمول على الرماح ، ممنياً نفسه بدوام ملك آبا سفيان ، كنت ابكي كثيراً عند مقام الرأس الشريف ، ابكي تاريخنا الدموي ليس كما بكى أهلنا خيبتهم بخذلان إمام المتقين وزعيم الثوار ، وحولوا الثورة إلى موسم للطم والندب والأكل ، ابكي حاضرنا المليء بالزيف والادعاء الكاذب .
في مقهى النوفرة تجاورك نافورة ماء صغيرة ، بقي حوض الماء الذي بنيت جدرانه بأحجار الموزائيك الملونة ، أما النافورة فقد توقفت منذ زمن بعيد كما اعتقد ، وبقي اسمها التي حملته هذه المقهى الدمشقية القديمة ، وتوزعت شجيرات البرتقال القصيرة ، والتي تُقَصْ أغصانها باستمرار ، كي لا تتدلى على رواد المقهى ، في حين امتدت عريشة الكرم ، لتغطي ارض الجادة الممتدة إمام السلالم الحجرية ، المرصوفة على الجادة الموصلة إلى أزقة حارات دمشق القديمة ، ببيوتها ذات الأبواب الخشبية الملونة ، المفضية إلى باحة الدار التي تتوسطها نافورة الماء وأشجار البرتقال وعريشة العنب ، فالمرأة الدمشقية معروفة باعتنائها الشديد بأناقة البيت بجدرانه الملونة ، وحديقته المزدانة بالخضرة .
في داخل المقهى يجلس رواد الحارة القدامى ، حيث افردوا أمامهم أوراق اللعب ، وراحوا يضحكوا بصوت مجلجل ، فيبدوا وكأنهم بلا هموم ، هكذا يبدوا الأمر لغريب مثلي يرى الأمور من الخارج ، فلا يدخل إلى عمق الأشياء ، حيث لايرغب الآخرون من الغوص في علاقة مع الغرباء ، فيظل الغريب يراقب الأشياء من بعيد ، كانوا أحياناً يخرجوا أصواتاً غريبة من أفواههم ، هذه الأصوات عرفتها في المقاهي الشعبية في حارتي في الحلة ، لكن النظافة تطبع المكان ببصمتها الحلوة ، السواح الغربيون يتميزوا بهدوء وأدب واضح ، يركزوا النظر على المكان فقط ، احتسيت دون رغبة كأس الشاي ، الذي وضعه أمامي على الطاولة عامل المقهى المسن ، حيث أدار ظهره يجرجر أقدامه المتعبة ، وبملامحه الباهتة وإزاره الأحمر الملطخ بألوان الشاي والتبغ ، شربت الشاي بعجل ، حيث أُعِدَّ بطريقة سوقية غير مستساغة ، تصاعدت رائحة الدخان في أنحاء عدة من أركان المقهى ، من الأركيلات المشتعلة هنا وهناك ، لتتعطر الأجواء برائحة التفاح من التبغ المعسل المدفون على فوهات الأركيلة ، والمغطى بأوراق الألمنيوم الرقيقة جثمت فوقه بضعة جمرات لامعة ، فتطايرت سحب الدخان مثل غيمات سوداء ، لتتلاشى في الفضاء المفتوح ، شعرت بشيء من السعادة والهدوء السرور ، وحين أيقنت أن هذا الصديق المزيف ، قد تأخر بعض الوقت ، اتخذت من ذلك حجة للهروب إلى حارات دمشق القديمة ، حيث الأبواب الملونة ، والأزقة النظيفة ، والهدوء .
وحين انعطفت إلى يمين الجادة ، وفي زقاق ضيق أختبأ قبر يزيد عن عيون المارة ، وهو يحاول الاختفاء من لعنة التاريخ والناس ، أدرتُ ظهري إليه ، فهو يذكرني بالظلم الذي هربنا منه ، حتى أرى وجوه الناس الحلوة القادمة من باب توما حيث يسكن إخوتنا المسيحيون الطيبون ، حيث المحبة والتسامح تلك الطباع التي طبع السيد المسيح (ع) الناس بها ، في هذه الحارة التي تفوح منها الحضارة بمعانيها المتعددة ، النظافة الاحترام والتسامح والهدوء ، هنا أحب أن اقرأ مع نفسي بعضاً من قصائد مظفر النواب واحلم بأن صديق العمر الشهيد فاخر الخليلي يسير معي ويشاركني القراءة ، فاسرح في عالم ملائكي لامنتهي .



 

Counters