| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

رحيم الحلي

arsrks@yahoo.com

 

 

 

 

الثلاثاء 15/5/ 2007

 

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 

العودة الحزينة إلى الحلة الفيحاء


رحيم كريم سهيل الحلي

بعد ربع قرن من العيش في المنفى ،وبعد سقوط النظام ألصدامي ظننت إن الفصل الدامي في تاريخنا الحزين قد انتهى،شدني شوق عارم للعودة إلى وطني ورؤية أهلي وأصدقائي ومدينتي الحلة ،بعتُ أثاث بيتي بأزهد الإثمان ،وركبت السيارة كان الوقت صيفا ،وأخذت معي زوجتي وابنتيَّ ،لم نأتي على ظهر الدبابات الأمريكية لأننا الشيوعيون لم نوافق على المشروع الأمريكي في إسقاط النظام عبر الحرب والاحتلال ،ورفض الحزب حضور مؤتمر لندن ،عدنا لا طمعا بمغنم فالوطن ليس مغنم وكنا دائما نضع مصلحة الوطن قبل كل المصالح وكنا دائما لا نفكر بذاتنا لا ندعي إننا ملائكة ولكن كنا نضحي بالسلطة، بحياتنا عندما يلوح الخطر لهذا الوطن.
سارت بنا السيارة مسرعة وهي تطوي الأرض تحتها ،توقفت السيارة في الطريق عدة مرات، بسبب عطب دواليبها المتهالكة ،تطيرت من هذه الرحلة ، وبعد توقفات عديدة وبعد عناء كبير دخلت المدينة عند الغروب شعرت بالحزن والألم والخيبة مشاعر مختلطة تنتابني لحجم الخراب الذي حصل لبلادي ولان نظام صدام لم ينتهي بأيدي عراقية ولان هذا النظام ظل متمسكا بالسلطة مثل قراد الخيل وهو يمتص الدماء طول هذا السنوات والتي بدت وكأنها الدهر كله شعرت وكأنه لم يفصل الزمن بين الحجاج وبيننا.
لاحظت البؤس في شوارعها وأبنيتها وعلى وجوه الناس ،اهتديت إلى حارتي دون صعوبة ولكني لم استدل على بيتنا بعد إن توقفت السيارة قرب الحارة نزلت مجرجرا نفسي المتعبة توقفت كي استدل على دارنا ،نظرت يمينا وشمالا ، إلا إن احد الجيران عرفني وأخذني إلى أهلي،صُدمت من التغيرات التي لحقت بكل شيء انه زلزال دمر كل شيء ،الناس وكأنهم ليسوا أولئك الذين تركتهم ،وكأنني لا اعرفهم،القسوة قد وجدت طريقها إلى قلوب الكثيرين ،أخلاق الحروب والعنف تركت أثرها في نفوس الكثيرين الذين التزموا منهج الأنا وعدم التفكير بالأخر إنا لا ألوم احد سوى النظام الديكتاتوري الذي تسبب بكل هذا الدمار، الشوارع والبيوت متهالكة وأكوام القمامة مبعثرة في الأزقة ولايكاد إن ترى بيتا ولاترى إمامه تجمع للازبال ،الكهرباء تنقطع كثيرا وخاصة في الليل مما تخلق جوا كئيبا وحزينا ،في الوقت ذاته وجدت كثيرون ممن تماسكوا وحافظوا على ذاتهم من التبدل أو التصدع الداخلي وكانت هذه الظاهرة إي التماسك والحفاظ على الهوية الذاتية واضحة بالأسر المثقفة التي تعاونت وجلست في زورق النجاة من طوفان تلك المحنة ،وحملت معها في زورقها القيم والمفاهيم النبيلة التي تربينا عليها .
سألت عن أصدقائي وإخوتي الحقيقيين وهم إخوة الدرب ولا انسي المناضلة أم ظافر وهي ترشني بالسكاكر وتستقبلني بالهلاهل حين وقفتُ لأشاهد موكب الشيوعيين إثناء مسيرتهم الأولى ابتهاجا بسقوط الديكتاتورية وانأ أقف و أشاهد وجوه أحبتي الذين تركتهم ربع قرن.
حين زرت مقر الحزب وجدته وقد امتلأ بكثير من المناضلين الذين ابتهجوا بنهاية الديكتاتورية التي حرمتهم من العمل السياسي وعذبتهم وقتلت المئات منهم واضطهدت الباقين اضطهادا شديدا.
في مكتب الحزب تعرفت على العزيز مزاحم الجزائري وكان هو الذي يقوم بدور التعريف والتعرف على الرفاق الذين شتتهم سنوات البطش ألصدامي يدخل للقلب منذ اللحظة الأولى لما يحمله من الطيبة العراقية ودماثة الأخلاق وإصغائه للأخر وسماعه لرأيه، لهمومه ،وكان حلو المعشر يتعامل مع الأخر وكأنه أخ حقيقي ،يسمع الانتقادات ويرد على بعضها ويساهم في انتقاد المظاهر الخاطئة فهو يشاركك معاناتك فهو مثلنا عاش الاضطهاد لسنوات طويلة بل وأكثر منا فنحن خرجنا من الساحة وظل هو وأمثاله من المناضلين من أمثال الأخ العزيز أبو مروان ،المناضل المخضرم ،ورمز الشجاعة والصبر والتحمل، معلمي زهير ناهي الذي حمل لقب الحجي ،أطال الله بعمره ،تعرفت على مناضلين رأيت نضالي إمامهم قزما ذلك الذي قضى سنوات في نكرة السلمان مثل المناضل مهدي الرهيمي والذي لازال يدفع فاتورة الظلم بعد إن بلغ به العمر عتيا وهو بلا راتب يقضي به بقية عمره المديد فهو من مؤسسي التنظيم في الحلة واول الرفاق الذين تعرف عليهم رفيقنا حميد مجيد موسى ،التقيت بالأخ الكبير أبو أسيا خضير مصطاف الذي ساهم في تربيتي السياسية والاجتماعية عندما كنت اجلس في مقهاه ،حيث إعطاني كتب أوصاني بقراءتها ، إعطاني كتاب للخالد فهد وأخر للقائد الإفريقي لومومبا وأخر لنكروما وكتب لمحمود سلامة ولينين ، وهو من رشحني للحزب بتعريفي على أخوه الأستاذ شاكر مصطاف وهو من رفاقنا القدامى الذي يجب ان لا ننسى معاناتهم حتى ولو ترجلوا مؤقتا أو ربما لم يتحملوا إرهاب السلطة وخداعها ،يجب إن لا ننظر فقط لكبوة المناضل بل يجب إن لا ننسى الوجه المشرق له ، تضحياته ومعاناته ، فنحن لم نكن حزبا حاكما يجب إن لا ننسى أولئك الذين ركبوا قطارنا المتعب الذي صوبت له بنادق القمع من كل حدب وصوب هم من أطيب أبناء شعبنا ،وتعرضوا لأضطهاد الشارع المتخلف والذي امتلأ بأفكار مضادة لنا عندما كنا رأس الحربة في الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية التي عبأت جهات عديدة لمحاربتنا وتأليب الشارع علينا بحجج واهية، وتحالفت مع قوى كثيرة لتحطيمنا وكان على رأسها الطاغية صدام.
حزنت على معلمي خضير مصطاف أبو أسيا ،أصبح بائعا للسكائر على الرصيف ، ويسكن بيت للإيجار وأصبح صاحبه يهدده بشتى الأساليب كي يخرجه من البيت، وقد بلغ من العمر عتيا، وأخذ منه المرض مأخذه.
التقيت بأصدقاء الطفولة ،منهم العزيز عماد حسن ،الذي عرفني على الشاعر ولاء الصواف الذي أصبح من أعز الأصدقاء ،ومن خلاله تعرفت على الدكتور اسعد أبو علي ،وعلى الأستاذ الرائع مسلم بادين ،ولا انسي زيارة اثار بورسيبا برفقة الأخ عماد وولاء ،حيث صعدنا إلى تلك الإطلال المرتفعة،والتي أكدت لي بان الإنسان راحل ولن تبقى له سوى أثاره.
النساء في وطني هن الأكثر معاناة في كل الأزمان ،وخاصة في الزمن ألصدامي ،الرجل المبتلى بالسجن أو بالحرب ،ستفقده المرأة سواء كانت إما أو زوجة عليها تحمل فراقه أو فقدانه ،عليها تربية المتبقين من الأسرة بغيابه،إطعامهم خصوصا في زمن الجوع ،وإذا تأكدوا من رحيل الزوج إلى خالقه ،عليها إن تتحمل ضغط الأهل بالزواج من رجل أخر ،فهم لن يتحملوا الإنفاق عليها وعلى أبنائها بسبب الفقر في أحيان كثيرة،أو اعتقادا بان الزوج سيكون سترا لها وخيمة لها،وتبدأ بالخشية على أبنائها الذي غالبا ما يستلمهم الشارع بكل مخاطره ،ويتعرضوا لظلم الاهمال والنسيان، هؤلاء شكلوا ابرز القواعد الاجتماعية للعنف والفوضى وكانوا غالبا المادة المنتجة لعتاصر الإرهاب والعصابات المنظمة والمليشيات،و هم في الواقع من اكبر ضحايا النظام الديكتاتوري ألصدامي.
منظر النسوة وهن يحملن الماء الآسن على أكتافهن،كان من اشد المناظر إيلاما لي والتي دفعتني إلى التمسك بالحزب الشيوعي أكثر من السابق ،الذي لم أرى حزبا دافع عن المرأة مثله ،ودافع عن حقوقها وإنسانيتها المستلبة في بلداننا التي ترتكز على موروث عدائي للمرأة ،فكان الحزب الوحيد الذي ساهم فعلا في رفع الظلم عنها ،عبر تثقيفه للجماهير بحق المرأة ولم يكن عمله دعائيا أو مجاملة .
كان الحزب الشيوعي هو أول من حذر من مغامرات الطاغية صدام وأثارها المدمرة على الوطن والمواطن ،ورأيت بأم عيني الشوارع المحطمه والنفوس المهشمة التي أذلها الظلم والفقر والجوع ،بيوت متداعية اخشى إن أمر جانبها ،أفاجأ بأنها مسكونة ،بشر يسكنون تحتها أتالم لأني رأيت في البلد الذي اقمت به في هجرتي وهو بلد عربي غير نفطي ،رأيت بيوت الابقار قصور إمام هذه البيوت المتداعية التي لم تصلها يد الترميم وكأنها اثأر بابل أو بورسيبا المنسية .
في مدينتي الحلة لم أجد شارعا معبدا سوى الشارع الذي يربط بين المحافظات ،ولا مجارير صحية ،وفي منفاي العربي غير النفطي حتى القرى قد تسللت بين بيوتها المجارير الصحية وربطت حاراتها وازقتها ،ماذا قدم الطاغية لشعبي المبتلى ،اهو جاء لمعاقبة هذا الشعب المسكين؟ ولكن ماهي جريرته أو جريمته؟.
مدينتي الحلة شاركت بزخم كبير في الانتفاضة الشعبية ضد الظلم ألصدامي ،وقدمت ألاف الشهداء ونادرا ما أجد بيتا لم يقدم قربانا ،وكانت مدينتي هي بفخر مدينة المقابر الجماعية وهذا يدلل على حجم مساهمتها في الثورة الشعبية ضد الظلم ألصدامي .
وافتخر بصديقي الفنان ماجد يونس جابر الذي صور المقابر الجماعية واخرج فيلمه المعروف وهو الفيلم الأول الذي وثق هذا الحدث المحزن والمؤلم ،الفنان ماجد كان دائما مرهف الحس ويمتلك مشاعر انسانية جياشة وكان يضحي بنفسه من اجل الآخرين خاصة من ضحايا النظام ألصدامي وشارك بنفسه في الانتفاضة ،مع اخوته الشجعان وفي مقدمتهم الأخ سلام الذي كان على صلة تنظيمية بحزبنا ،وكان يجازف بحياته من اجل مقاومة الحكم ألصدامي ،تحية تقدير للشهداء لكل هؤلاء الشجعان.
ذهبت لبيت صديقي المفقود في سجون صدام ، المناضل الشيوعي كريم شاكر عاشور ،لم أجد أصدقائي الذين كثيرا ما التقيت بهم في هذا البيت الطيب الذي امتلأ حنانا ودفئا وكان ملاذا لكل إنسان يلوذ به من الاضطهاد،ولا أنسى كريم يوم بنى حيطان بيتنا المتصدعة والتي كادت إن تقع علينا لقد بناها بيديه الطاهرتين ومن ماله الذي يدخره من عمله الشاق في بناء البيوت.
ذهبت إلى بغداد ابحث عن خبر عن المناضل كريم شاكر عاشور ،برفقه شقيقه الاصغر ،ذهبنا إلى مكتب السجناء الأحرار في الكاظمية ،واجهتنا صور الشهداء ،اعداد لا يمكن حصرها من الشهداء أغلبهم شبان في ريعان الزهور،فوجئت بالبيت الذي حوى هذا المكتب انه قصر لاحد أقطاب السلطة الصدامية لم أرى مثله في حياتي من حيث المساحة والبناء والترتيب ،يطل على نهر دجله الخالد شعرت وكأني في قصر فرعوني،الفقر في بلدي ليس له مثيل وكذلك الترف هل نحن بلد المتناقضات أم بلد التطرف.