| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

رحيم الحلي

arsrks@yahoo.com

 

 

 

 

الأثنين 10 / 9 / 2007

 

 


العبور للضفة الأخرى

رحيم الحلي

مضت قرابة ساعتين وهو يسير بسرعة أشبه بالهرولة متجهاً للضفة الأخرى ، يريد الهروب من ارض الرعب الهمجية ،انتظر قدوم الليل كي يتغطى بظلامه ، لكن القمر نشر ضيائه عند منتصف الليل و جعل الأفق مكشوفاً ، والهروب في مثل هذه الحالة يعرضه لرمي الحرس الموجودين قريباً من موقعه ، والذين لديهم الأوامر برمي كل شخص يتحرك أمامهم ، وحين اختفى القمر في كبد السماء وأطبق الظلام ، أنسل مبتعداً مودِعاً بعضاً من أصدقائه الذين ترددوا في مرافقته ، حاملاً بندقيته كي يدافع فيها عن نفسه إذا طوقته عناصر الملاحقة التي تطارد الهاربين ، بعد أن سار مبتعداً قرابة ربع ساعة تذكر انه لم يجلب ذخيرته لذا فأن اصطياده حياً سيكون امراًَ سهلاًَ لعناصر الملاحقة ، بدأ الفجر يلوح في الأفق ، وهو لم يصطدم بأي لغم ارضي بعد ، فالأرض مزروعة بالألغام ، قرر المخاطرة بحياته كي يتخلص من أكثر من جحيم ، فهو قد أعطى تعهداً بأنه ليس عضواً في حزب محظور ، كي لايعترف على رفاقه الذين أحبهم مثل حبه لأخوته ، وكان يخشى التعذيب ولم يجرب قدرته على التحمل ، ولن تدوم كذبته على أجهزة الأمن إذا أعترف أحدهم عليه مستقبلاً ، وستلتقطه أجهزة المخابرات العسكرية التي لم يخبرها بمنطقة سكناه الحقيقية ، وان نجا من هذه المخاطر الجمة ، سيذهب كبشاً رخيصاً في هذه الحرب العبثية الرعناء .
بدأت خيوط الصباح تمزق العتمة و تَكْشِّف أمامه المسرح المجهول ، ظهرت أمامه بساتين النخل ، فشعر بفرحة تسري بين جوانحه ، بشََّرته بقرب الخلاص ، سيقدر أن يختفي بين أشجار النخل ، ولن يكون وحيدا في الأفق الخالي ، فتكتشفه نواظير المراقبة التي تمسح الأفق يمينا ويسارا ، بقيت أمامه مسافة قصيرة كي يدخل بساتين النخل ويختفي ، إلا إن تلك المسافة بدت بالنسبة له طويلة كالدهور ، هاهو بعد نصف ساعة من المشي السريع ، قطع الجزء المتبقي مهرولاً وإلا سيفضحه ضياء الصبح .
دخول البستان كان يعني له دخول بيت يملكه ، سوى إن البستان لاباب له ، التقط بعض التمرات الساقطة على الأرض فهذه أيام تشرينية ، والنخلة لازالت تجود بثمارها ، ينظر في الأفق يراقب كل الأشياء أمامه ، يبحث عن مأوى عن ماء ، لقد أفرط في سيره ، والتمر أيضا سبب له العطش .
لاح أمامه بيتاً طينياً صغيراً ، توقفت عند بابه دراجة بخارية ، طرق الباب خرج إليه رجلاً مسناً يعتمر كوفية ، دعاه للدخول ، سأله هل انتم متقدمون ، قال أنا لست منهم ، أنا هارب أبحث عن خلاص ، أدخله إلى إحدى الغرف حيث جلست زوجته مع فتاة صغيرة حول صينية وضع فيها اللبن وبضعة خيارات ناوله العجوز إحدى تلك الخيارات ،فأكلها بنهم وكانت الأطيب في حياته ، عليك إن تغادر مسرعاً يابني فقوات الملاحقة تفتش البيوت جميعاً مبتدئة ببيتنا لأننا على تخوم البستان ، ولا تدخل القرية فأهلها منقسمون في الولاء ، وهناك مخبرون لديهم أجهزة اتصال سيخبرون عنك فورا ، والقوات العراقية هي الأسرع في الوصول إليك طالما انك لم تعبر نهر الكارون ، ولا تنسى أن هناك طائرات ملاحقة هيلكوبتر ، ألقت القبض على البعض من الذين حاولوا الهرب المهم يابني كن حذراً ، وفقك الله أخرج بسرعة .
حين أصبح على ضفة النهر بدا له عريضاً لايقدر على عبوره سباحةً ، فلم يمتثل لنصيحة العجوز ، ومشى إلى ضفاف النهر مقترباً من القرية ، رأى زورقاً صغيراً ، ينقل فيه احد الأشخاص بعضاً من حاجيات بيته كي ينقذها من أيدي العسكر التي ينهبوها كغنائم حرب ، إنها جزء من إغراءات الحرب العبثية ، والمدنيون الأبرياء يدفعون الضريبة في هذه الحروب ، أقترب من الزورق ، واستأذن صاحبه بالصعود ، فقال له انتظرني سأعود ، أحتار في أمره فلازال في ضفة الخطر ولن يبلغ الأمان حتى يعبر النهر ، وصاحب الزورق قد ضرب عصاه في طين الضفاف ، فارتد الزورق بعيدا عنه ، ومضت الدقائق ثقيلة وخطيرة ، إلا إن السلاح الذي يحمله وعدم اكتراثه بما حوله ، لم يجعل أحداً يقترب منه ، فلم يلتفت إلى أحدٍ كي لايبدو خائفاً ، ويبقى غامضاً بالنسبة إليهم .
عاد الزورق مرة أخرى ، فقفز صوبه ، حاول صاحبه إن يمنعه ، متذرعاً بالخوف من عواقب إن يحمل جندياً في زورقه ، طلب منه أن يشهر سلاحه كي يتذرع بذلك عند السؤال ، عند منتصف النهر سمع صوت محرك طائرة الملاحقة السمتية ، يمزق السكون بضجيجه ، نصحه صاحب الزورق إن يخلع قميصه العسكري كي يبدو مدنياً ، وتلتبس الصورة عند طاقم الطائرة ، وراح يجدف بسرعة شديدة ، والزورق يشق عباب الماء وتتقاذف الموجات الصغيرة حول المجدافين ، حتى إذا بدت الضفاف الطينية في مرمى القدمين ، رمى الاثنان بأنفسهما من الزورق ، ليختبئا بين الأشجار المزروعة ، والتي كأنها انتصبت هنا بقدرة قادر لتخفيهما بين سيقانها ، إنها أشجار التوت دائمة الخضرة ، وأوراقها كثيرة وكثيفة ، كيف لا وهي ترتوي حد التخمة من ماء النهر الجاري ، مرت الطائرة فوق خط سير الزورق ثم لامست عجلاتها أغصان الشجرة التي اختبأ تحتها ، انتبه إلى صاحب الزورق كي لايعطي أي إشارة لقائد الهليكوبتر تفضح مكانه ، لم تقطع الطائرة سوى بضعة أمتار ثم استدارت عائدة ، وهنا صعد الخوف إلى ذروته ، ولامست مرة أخرى أغصان الشجرة عائدة بنفس الطريق الذي قدمت منه .