| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

رزاق عبود

razakaboud@hotmail.com

 

 

 

الجمعة 9/7/ 2010

 

البصرة بعد 32 عاما!

رزاق عبود

(3) من بلد النخيل الى مقبرة النخيل
"النخلة والانسان يولدان متلازمان في البصرة"! هكذا دون الكاتب العراقي/الكويتي اسماعيل فهد اسماعيل في روايته (يحدث امس). فاول شجرة تقع عليها عين البصري عندما يولد هي النخلة، واول ما يسجى عليه الطفل الوليد بساط (بلّه) من خوص النخيل، والحقيبة التي تحملها امه، او اخته، وهي تذهب الى السوق هي (علاگة) من سعف النخيل. في الشتاء يتدفا على "اطراف" من سعف النخيل، وتهز يده في الصيف اللاهب "مروحة" من سعف النخيل "مهفة" لتلطيف الجو. ويحمص رغيفه، او يشوي سمكه في تنور تشتعل فيه نار من سعف النخيل، او جذوعها اليابسة (الشلاخ). اول مركب يسيره في الماء وهو طفل صغير "كرب" النخيل. كرب النخيل تحمل شموع الخضر، او يحيى زكريا تدفعها النسوة مع مجرى الماء. اول شجرة يتعلم تسلقها هي النخلة. التمر ثمرة النخيل، فاكهته المفضلة. حلاوة تمر اشهى انواع الحلويات. يسكن في بيوت من سعف، وجذوع النخيل. ينظف بيته بانواع المكانس، ويحمل اغراضه في "زنابيل"، ويكبس تمره في خصاف (حلانة) من اوراق النخيل. الجمّار، ماء اللگاح، الظلال الاليفة، البساتين الحميمة، السفرات المدرسية كلها مرتبطة بالنخيل. اول رسم "يشخبطه" البصري على اوراقه المدرسية، او البيتية هو للنخلة. حبال مراجيحه يشدها ايام الاعياد، او في حدائق، وبساتين البيوت على جذوع النخيل. في الاعياد والمناسبات تزين ابواب البيوت، والدوائر، وحتى الجوامع، والكنائس اقواس من سعف النخيل. اغصان النخل هذه يحملها قساوسة البصرة اثناء مسيراتهم واحتفاللاتهم تيمنا، وتشبها بالسيد المسيح. مع النخلة ترتبط ذكريات عديدة. اسماء اصحاب البساتين، اشهى الثمار، والفواكه، مواعد العشاق، والدراسة، واللقاءات السرية، واعشاش، وتغريد الطيور. منذ فجر التاريخ، والنخلة رمز البصرة. مع أغاني المحبين، وبستات المغنين، واهازيج الفلاحين لابد وان ياتي ذكر النخلة. ناظم الغزالي غنى "فوگ النخل فوگ"! ورددها بعده العشرات من المغنين. القناطر، والسدود، ودعم الشطئان، بجذوع النخل ايام الفيضان. زارع النخلة يرعاها مثل ابنائه تكبر معهم، وتشيخ معه، وتتجاوزه. مكابس التمر، ومعاصرالدبس الشهي، وحلاوة نهر خوز، والمعسل، والشعثة، والكليجة. حتى الاسماء، والالقاب، والكنى ارتبطت بالنخلة: "طويل كالنخلة"، "قوي كفحل النخلة" شهي كالرطب، حلو كالدبس، وهكذا، يمكن ان نستمر الى مالا نهاية في علاقة البصرة، والبصري بالنخلة!

اما اليوم، والسيارة تدور بي على الطرق، والشوارع، والازقة، وبين البيوت، والمعامل، والمعسكرات، والاحياء الجديدة، ومرافقيني يتحدثون بالم ومرارة، واحيانا بعدم اكتراث "يشلع الگلب" حسب لهجة اهل البصرة. اين كوت الحجاج؟ هذه البيوت امامك! اين الخضرواية؟ صارت منطقة سكنية! اين بساتين التنومة؟ لم يبق الا ذكرها! اين "لوفات" ابي الخصيب المظلمة التي كان يخشاها "سواق" السيارات، والباصات الخشبية حتى في عز الظهيرة فالظلال دائمة هناك. اليوم: بقايا نخيل. التيتم، والارهاب، والقمع، والحروب، والتلوث، والفساد شملت حتى النخيل. شاهدت نخلات تبدو، وكانها مشنوقة، او منتحرة، تركت لتموت وحدها من الم الاهمال، محدودبة الساق تشكو ظلم الزمان، وقسوة الانسان. جذوع هامدة، كانت يوما ما، نخيلا باسقة. كأنك في ساحة معركة ضحاياها النخل الخالد. بساتين زراعية تباع بغفلة. تقطع بقسوة الى قطع سكنية. مزارع تباد، وتنصب بدلها اعمدة كونكريتية، لبيوت هجينة الشكل.

انهر الاغاني، و شطوط العشق، وجرفان اللقاء، وترع وسواقي السقي، تطمرها الاوساخ، تمنع الماء عن النخيل العطشى الصامدات. الابلام، وبقايا السفن القديمة، و"مهيلات" التمر مهجورة، كئيبة، تخالها معتصمة احتجاجا على اغتيال النخيل. النخيل محاصر هو الاخر مثل الانسان. كل شئ نحيل، كالح، مغبر، سقيم،عليل حتى النخيل. لازلت اذكر، وانا صبي، في بداية ستينات القرن الماضي موت احد الفلاحين، وهو يرى المكائن الحديثة تجرف النخيل القديمة، وتطمر الترع، والسواقي. كان ذلك في مركز المدينة. مع هذا لم يكن منظرا عاديا، ولا فعلا مقبولا. لن انسى الفلاحات خلف حائط (طوفة) البستان الملحق ببيتنا تبتل عباءاتهن بالدموع على منظر الجرافات تلتهم النخيل، وتحولهن الى جذوع بلا حياة. كانهم يذلون عزيزا غدر به الزمان. حتى النخل صار له "مگصب" علقت احداهن!

كان الزعيم عبد الكريم قاسم قد امر وقتها، ان كل بيت يبنى يجب ان تزرع فيه نخلة. اما زعماء اليوم، ساسة المحاصصة، فان شجرة الجنة، التي بها يؤمنون، وفاكهة الجنة التي يصلون، ويصومون ليشبعوا منها في اخرتهم فان الاف، بل ملايين النخيل تقلع باستمرار لتشاد محلها بيوت بلا ذوق، ولا احساس، ولا مشاعر. ليس لها علاقة بالعمارة العراقية. تقلع اشجار الجنة لتقوم بدلها بيوت الاسمنت الحقيرة. كانهم يهيئون حطبا لجهنم. حروب صدام، واوامر صدام، وتعامل صدام مع شيوخ الخليج حرم البصرة من افضل انواع النخيل. احدهم، بعد ان عاتبته: كيف تبني بيتك على اشلاء النخيل؟ اخذني الى شاطئ شط العرب، وهناك كاد ان يغمى علي! ارى ايران من شواطئ حمدان! كيف حصل ذلك؟ ولماذا؟ اشار، وعبرة تنكسر في صدره: هناك مقبرة النخيل الحقيقية، وليس بيتي! قالها وهو يسرع لاسناد جسدي المتهالك نحو الارض. مسح بيديه الخشنة دموع عيني. ثم رفعهما ليغطي دموع عينيه. قال بصوت متهدج: صدام قطع النخيل كي لا تكون ستارا للعدو. وضع المدافع بين النخيل، لتكون هدفا للعدو. حفر المواقع، واقام الخنادق بين النخيل. اما كان بالامكان التستر بها مثلما يفعل العدو؟ ام انه الحقد الاسود على البصرة ونخيلها؟؟!

العلم الصدامي كان اخضر، والعلم الاسلامي اخضر لكنهم، وهم يواصلون القضاء على خضار البصرة بكل وقاحة وسفالة حولوا بلد النخيل الى مقابر للنخيل. ذاك بحروبه، وهم بعدم اكتراثهم. انهم يكرهون الخضرة لانها اشارة للحياة، والنمو، والبهجة، وهم يكرهون كل هذا. فهل تنتفض النخلة؟ هل تتظاهر البساتين؟ هل تثور الشطئان؟ هل يهب احفاد المزارعين؟ لقد انتفض المزارعون، بوجه ملاك الاراضي القساة، عندما كان هناك من ينظمهم، ويدافع عنهم وكسبوا قانون المزارعة! فهل يثبون ويعيدوا للنخلة فسيلتها، للارض نخليها، للبساتين زينتها، للمدرسة سفرتها، للاطفال فرحتها، للبصرة عزتها، وفخرها، ورمزها، للحياة شجرتها الاجمل؟؟!!

ام حتى النخيل في البصرة صارت لها مقابر جماعية؟!


5/7/2010

للحديث صلة

البصرة بعد 32 عاما! (2) الحلة الزاهية التي تمزقت.....
البصرة بعد 32 عاما! (1) صورة الماضي الجميل، وواقع الخراب المريع!


 


 

Counters