| الناس | الثقافية |  وثائق | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

نعيم الزهيري

 

 

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 

السبت 31/3/ 2007



مع فلاحي المجر الكبير في نضالهم
ضد الاقطاعي مجيد الخليفه

نعيم الزهيري

كان ربيعا هادئا في عام 1960 ،وكانت عشائر البيضان والنكارة تتكاثف في قرى متباعدة على جانبي نهر المجر الكبير وتفرعاته .وقرية الصحين احدى القرى التي تقع وسط الهور ،وتسكنها عشيرة الفرطوس ،من عشائر البو محمد ، وقد بنيت تلك القرية على "جباشات " فوق الماء فكل بيت محاط بالماء تماما ومفصول عن البيوت الاخرى ،لذا فان المشحوف هو الوسيلة الوحيدة في التنقل .
الفلاحون يستعدون لزراعة الرز ..نهر المجر الكبير تفيض ضفافه ويرتفع منسوب الماء في الاهوار فتغرق الاكواخ وتجرف اكواخ اخرى الى مكان اخر وبالاخص اذا حدثت عاصفة.
فصل الربيع جميل جدا في تلك المنطقة ؛ازهار النباتات المائية الملونة الرقيقة تكسو مساحات واسعة من مسطحات الماء ، او تتخلل غابات القصب والبردي الكثيفة ...الطيور المهاجرة تسبح بمجاميع متراصة فوق الماء ...الاسماك تتحرك بخفة ورشاقة تحت الماء ..الصيادون ينشغلون في الصيد بطرقهم البدائية المختلفة ،والوسطاء الطفيليون ينشطون في المتاجرة باتعاب الصيادين ..حركة دائبة من الفجر حتى الغروب .ويشغل قطع الحشيش والقصب لصنع الحصران او لبيعه في اماكن اخرى ،وقتا طويلا . وحتى الجاموس يبكر للحصول على حصته من نباتات الطبيعة .
وفي الليل يتجمع الفلاحون في المضايف يسمرون في احاديثهم ويشربون القهوة والشاي ،ويفرحون كثيرا اذا زار القرية ضيف من المدينة او رجل دين .
لقد تنعم الفلاحون بطعم الحرية اثر ثورة الرابع عشر من تموز /1958 حيث رفع عن ضهورهم سوط الاقطاعي الجائر مجيد الخليفة ،وطرده الى بغداد ...كان مجيد قد اجبر الفلاحين وتحت السياط والقهر على نقل اطنان التراب من اليابسة ووضعها في مسطح مائي وسط قرية الصحين ،وما ان استوت ارضا بنى عليها قلعة حصينة من الطابوق سكنا له ولعائلته ومحظياته..ويتندر فلاحو الفرطوس ( سكان قرية الصحين ) على جشعه وقسوته وبخله ،وقد اختار مجيد حاشية له من المرتزقة سمّوا بـ ( الرشاكَة ) يوكل اليهم التعذيب والاغتيالات وقطع الطريق والسلب . ومن كدح الفلاحين اكتنز مجيد الذهب والدنانير والسجاد والنفائس الاخرى ،كما اشترى وبنى قصورا في بغداد والعمارة والمجر الكبير .

مــن المعروف ان اراضي العمارة كلها اميرية اي تابعة للدولة بالكامل ومن المفارقة ان مجيد تمكن من الحصول على حق منح اللزمة من الحكومة لاراضي الصحين يوم 13/تموز/1958 اي قبل الثورة بيوم واحد .وهو الوحيد من بين اقطاعيي العمارة يتمكن من الحصول على تلك الصفة .
وبعد ثورة تموز هرب مجيدالى بغداد خوفا من غضب الفلاحين ، وبمساعدة وارشاد الشيوعيين نظم الفلاحون انفسهم في جمعية فلاحية ، وتنعموا بثمار اتعابهم وقد ساعد على تحسين ظروفهم اسقاط حكومة الثورة اخذ الضريبة منهم في تلك السنة . لكن فرحة الفلاحين لم تدم طويلا اذ لعبت البرجوازية الحاكمة بذيلها ، كما يقال ،فكانت سياسة الردة والاجهاز على مكتسبات الشعب ومنها الفلاحين فالغيت او زورت الجمعيات الفلاحية ،وغصت المعتقلات بالفلاحين بتهم ملفقة وباطلة ..كما عملت حكومة قاسم على ارجاع الاقطاعيين الى الاراضي التي تسلطوا عليها تحت شعار مهلهل " المساواة بين الاقطاعي الفلاح " وكان ذلك ردا على شعار الجمعيات الفلاحية " الفلاح اخو الفلاح عدوهما الاستعمار والاقطاع " . وقد عبر الشاعر الثوري الكبير مظفر النواب عن ذلك بقصيدته المشهورة " مظايف هيل " يقول :
طيب الذات خاوا الذيب والراعي
وتوالم عرس واوية واقطاعـــي
ان قرار الحكومة بارجاع الاقطاعي مجيد الى حيث كان قبل الثورة اغاظ الفلاحين كثيرا وزاد من تذمرهم وخوفهم وقد صار شغلهم الشاغل وحديثهم في الدواوين والتجمعات ،ومما يزيد في الطين بلّة كانت الدعايات المغرضة .
ولا بد لنا ان نذكر حقيقة هامة عن دور الحزب في العمل بين صفوف الفلاحين وتوعيتهم وحشدهم للدفاع عن حقوقهم منذ عقد الاربعينات ،فبمبادرة من الحزب تأسست جمعية اصدقاء الفلاحين في العمارة ،وكذلك لجنة المحامين للدفاع عن الفلاحين في المحاكم مجانا ً .وبعد ثورة تموز ساعدهم الحزب على تشكيل جمعياتهم الفلاحية ،وبذلك نال حبهم واحترامهم دون منازع ..

لقد لعب رفاقنا العاملون في الريف ومنهم المعلمين ( وانا منهم ) دورا بارزا في توجيه الفلاحين ورص صفوفهم وعزل اعوان الاقطاعي مجيد الخليفة والحذر من تخريباتهم . وكذلك الا ّ يقتصر النضال على قرية واحدة او منطقة واحدة ، بل ، يجب ان يشمل كل القرى في المنطقة ،والعمل على حصول اسناد وتضامن الفلاحين في قرى ال ازيرج والمشرح وكميت والكحلاء...والاتصال بالاحزاب والمحامين التقدميين والطلبة والجمعيات والنقابات للتضامن مع فلاحي المجر الكبير..
كان مكتب محلية العمارة للحزب الشيوعي العراقي قد اغلق واعتقل العاملون فيه بامر من امر الفرقة الاولى سيد حصونة ومنع وصول اتحاد الشعب جريدة الحزب المركزية انذاك الى سبعة الوية ( محافظات ) ..
شكلت الوفود للتزاور والتنسيق بين القرى ( البيضان ، النكارة ، الصحين ، الجدي ، العكَر ،الكبيبة ) .وارسلت وفود الى قرى المناطق المحيطة " الفلاح اخو الفلاح عدوهما الاستعمار والاقطاع ) .كما شكل الوفد الرئيسي للفلاحين معززا بمذكرة الى متصرف لواء العمارة ،ونسخ من المذكرة الى الجهات الاخرى وشكل وفد احتياط في حالة اعتقال الوفد الرئيسي ، وبالفعل اعتقل الوفد الرئيسي ...كانت مطالب الفلاحين واضحة ومعقولة :
ــــ المطالبة بعـدم ارجاع الاقطاعي مجيد الخليفه الى المنطقة .
ــــ يتعهد الفلاحون بتمشية امورهم بانفسهم بما في ذلك العلاقة المباشرة مع الحكومة .
ــــ يتعهد الفلاحون بدفع الضريبة للدولة مباشرة دون وسيط .

كنت في تلك السنة مديرا لمدرسة الصحين الابتدائية ، وقبلها كنت قد اعتقلت مرتين بتهمة العمل بين صفوف الفلاحين ، وكان تعييني في الصحين بمثابة ابعاد ا ً لي ، وبذلك صرت مجددا على اتصال وثيق مع الفلاحين ، سيما ان لدي خبرة للعمل بين صفوفهم وانني من ابناء الريف اساسا .
الجو الحماسي يسود كل قرى المجر ، ففي الاماسي يتجمهر الفلاحون ناشرين بيارقهم الملونة ويهزجون ، ومما اتذكره من اهازيجهم :
ــ ردونـَه للعهد البايــد
ــ للموت وما اريد اقطاعي
ــ خلاف الشوعـي انذلينـا ( تعني من بعد الشيوعيين اصابنا الذل )
ولم تتخلف النسوة في التعبير عن غضبهن على قرار الحكومة بارجاع مجيد الخليفه ،بطرقهن الخاصة .
ومن جانب اخر، وهو هام جدا من وجهة نظري ،الا وهو ارسال تهديد قوي الى مجيد ينذرونه بالقتل ان هو تجرأ ووصل المجر الكبير .

مساء يوم 17/ايار/1960 تقدمت قوة عسكرية من حامية العمارة والشرطة السيارة يبلغ تعدادها200 فرد بقيادة ملازم اول ، محمولة باربعة زوارق بخارية كبيرة تحركت من المجر الكبير وانحدرت في النهر قاصدة القرى ،وقامت بتفتيش بيوت الفلاحين القرية تلوالاخرى،بحثا عن السلاح . كان خبر وصول القوة العسكرية قد سبقها الى القرى فاتخذت الحيطة ؛ وبالنسبة لنا في قرية الصحين وصلنا الخبر في الليل ،فغلى الدم الحار في رؤؤس الشباب وارادوا التصدي للقوة العسكرية وايقاع ضررا فيها ،لدى سيرها في منعطفات الهور ،لكن صوت العقل كان اقوى من هذا الطرح لان المشكلة ليست مع الحكومة ، بل مع الاقطاعي لابعاده من المنطقة ، اظافة الى ما ستجره الصدامات مع الحكومة من متاعب نحن في غنى عنها ...
تم الاتفاق على تجميع الاسلحة ( البنادق والعتاد ) في مشاحيف وتغطيتها بالنباتات ويسير بها الشباب في عمق الهور فتم ذلك ،وتركت في البيوت بعض البنادق البدائية الصدئة التي تستعمل سابقا لصيد الطيور ، وبقي الشيوخ والنساء والاطفال في البيوت ايضا ..
فجر يوم 18/ايار/1960 صحونا على اصوات الزوارق البخارية ،فانتشر قسم من القوة العسكرية في موقع المدرسة .نهضت والمعلمين واستقبلنا الملازم وبعض جنوده وقاموا بنصب عمودي اللاسلكي ( طبعا دون استئذان منا ) .وبقي الضابط والمخابر ونفر قليل من الجنود ، اما الباقون فتوزعوا على البيوت لاجراء التفتيش عن الاسلحة المزعومة ( بغية القيام بعمل عسكري للاطاحة بالزعيم الاوحد كما صورها اعداء الجمهورية !؟ ) فلم يجدوا شيئا ً ذات اهمية . امــا الفلاحات وبكل طيبة ،قمن باحضار الفطور للجنود ،حليب ،زبدة ،شاي ، خبز ...
المصادفة الجميلة هي ان العريف المخابر ( حمود فهيّم ) كان رفيق الصبا ، اذ كنا في المدرسة الابتدائية في نفس الصف ،وهو يتيم لان والده قتل في المعارك التي كانت تدور بين عشيرة آل ازيرج وآل بزّون وهو طفل ،وعندما ذهبت والدة حمود الى الاقطاعي شواي الفهد شيخ عشائر آل ازيرج حيث كان فهّيم يقاتل معها وقتل ؛ اعطاها شواي خمسين فلسا فقط ، اضطرت الام ان تشتري حلا ّنة تمر وميزان وتبيع للقرويين لاطعام طفلها الصغير ... تكلمت مع حمود على انفراد واعطيته صورة عن سلوك الاقطاع ،واتفقنا على ان يزودني بنص البرقيات من والى حامية العمارة وكانت كل ساعة ،وبذلك حصلت على وجهتهم ،ثم جلست مع امرالقوةلعسكرية وشربنا الشاي سوية في ادارة المدرسة وتحدثت له عن سلوك الفلاحين وطيبتهم وحبهم للجمهورية وقائدها عبد الكريم قاسم ، وعن سلوك الاقطاعي مجيد الخليفة وظلمه للفلاحين وقسوته المفرطة عليهم ،وبالفعل اظهر تعاطفا كبيرا مع الفلاحين ووعد بانه سيحقق في مصدر الاخبارالكاذبة التي وردت اليهم والتي مفادها : ان الفلاحين يقومون بعصيان مسلح ضد الثورة . وارسل برقية توضح انه لم يجد شيئا ً سيئا ً ومعارضا للحكومة .وكانت اخر برقية تفيد بانسحاب القوة العسكرية في الساعة الواحدة ظهرا ً لان الوضع مستتب ، كما عرفت من خلال حمود ان خمسة اشخاص سيعتقلون ،اتذكر منهم سيد نعمة وزاير علي الوجوه البارزة في القرية ،وقد اعتقلا فعلا وارسل الفلاحون الخمسة الى معتقل العمارة .

وفي معتقل العمارة التقى الفلاحون المعتقلون مع بعض اعضاء لجنة محلية العمارة المعتقلين انذاك ومنهم والي كريم عضو اللجنة المحلية ، لكن اعتقال الوفد لم يدم طويلا اذ اطلق سراحه في حزيران .وفي 18/منه ذهبت الى المدرسة والتقيت البعض من الفلاحين الذين كانوا رهن الاعتقال فاعطوني جريدة اتحاد الشعب حملوها معهم من رفاقنا في المعتقل .
ولنعد ثانية للحدث ؛ بعد انحاب القوة العسكرية من قرية الصحين سارعت مع زملائي المعلمين (خالد حسون وهاشم مهلهل ) لاكمال الشهادات وتوزيعها على التلاميذ . وفي اليوم الثاني وردت برقية الى مخفر الشرطة الملاصق للمدرسة تقضي باعتقالي وابلغني بذلك عريف المخفر . وفي فجر يوم 20/5/1960 غادرت القرية عن طريق الهور الى ناحية السلام حيث اسكن مع اهلي ....
ولم يتم القاء القبض علي ّ الا ّ يوم 13/تموز/ من نفس العام حيث حوكمت بتهمة حيازة السلاح والقيام بمحاولة انقلابية فاصدر المجلس العرفي العسكري الثاني برئاسة شاكر مدحت سعود بالحبس ثلاث سنوات وسنة تحت مراقبة الشرطة ..
اما عن الاقطاعي مجيد الخليفه فلم يتمكن من الوصول حتى الى ناحية المجر الكبير فقفل راجعا الــــى بغــــــــداد.

free web counter