| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

نعيم الزهيري

 

 

 

الأربعاء 28/3/ 2012

 

مناضلون في مسيرة حزبنا الظافرة ...

سالم ... بيرق لن يلفه النسيان

نعيم الزهيري

طالت بي الآيام في تلك الزنزانة اللعينة في سجن العمارة المركزي، كانت لا تتجاوز 2× 3 متر مربع ، وكان مدير السجن مصرا على أبقائي فيها وحيدا مقطوعا كليا عن العالم الخارجي . لا أسمع سوى وقع أقدام الحراس الثقيلة على الممر الكونكريتي ، بلا ملابس غير التي ارتديها ، ولا فراش او اية ادوات اخرى ، في الصباح الباكر يفتح السجان  الباب للذهاب الى الحمام وعندما اعود الى الزنزانة يقفله ، ثم يأتي ويرمي لي قطعة الخبز من بين القضبان ويناولني كوبا من الشاي الاسود ... وفي ليلة 28/اكتوبر /1959 ، تعالى صخب المظاهرات في شوارع العمارة ولم اكن اعرف السبب ولم اتميز الهتافات والشعارات ، وامضيت تلك الليلة من العاشرة والنصف ليلا حتى صباح اليوم الثاني اسامر وحدتي وهواجسي دون جدوى .!! في  ذلك اليوم حدثت جلبة في الباب الحديدي للزنزانة التي تضمني  فخلتها ، لآول وهلة أستدعائي الى التحقيق، لكن الحارس أستصحبني الى موقف السجن وهو عبارة عن جناح ملحق بالسجن يتكون من غرفتين وممر طويل بعرض ثلاثة أمتار ، وهناك وجدت مجموعة لا تقل عن ثلاثين رفيقا وصديقا يجلسون بصفين متقابلين على المائدة لتناول طعام الغذاء ، والمائدة الجماعية هي من تقليد الشيوعيين العراقيين في المعتقلات والسجون والابعاد الجماعي لهم .

اوضح لي رفاقي ان السبب هو خبر محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء آنذاك في رأس القرية ببغداد . وقد خرجت جماهير العمارة ، كما في المحافظات الاخرى، بمضاهرات صاخبة منددةً بالجريمة ، وبدلا من اعتقال المعادين للجمهورية ، وهم معروفين ، جرى اعتقال الشيوعيين والجماهير التي تؤلف السياج الحصين للجمهورية...

كان سالم يقف في طرف المائدة وملا زغير يقف في الطرف الأخر، سالم بقامته المتوسطة وبشرته السوداء وعيناه الكبيرتان تراقبان الرفاق، يناول الماء والخبز وبعض الخضار ولم يجلس لتناول طعامه مع رفيقه الملا زغير الا بعد أن ينتهي الجميع . سالم أول من يرتب المائدة وأخر من يأكل . لم يكن لي وسالم ذكريات بعيدة جدا، لقد خبرت حنانه الرفاقي وصلابته الشيوعية في لقاءات عدة في الريف، حيث كان يزورنا باستمرار . سالم المناضل الفلاحي المعروف والشخصية البارزة.

ولد سالم في أواسط العشرينات، كان والده (سريّح) عبدا مملوكا ً  لدى الشيخ حسن الشواي أحد أقطاعيي آل أزيرج  وكان حسن معروفا بدماثة خلقه وحب الناس له، متميزا عن أقرانه الاقطاعيين بشخصيته القوية وثقافته ، في ذلك البيت الأقطاعي ولد سالم ليرث العبودية وخدمة الأقطاع، فالعبودية هي لكل الفلاحين والمضطهدين من أمثاله، لكن عبودية سالم تختلف ، اذ انه مملوك تماما للاقطاعي  ، للاقطاعي بيعه وحتى قتله دون حساب ... تعلم سالم القراءة والكتابة على يد احد الملالي ، اذ كان يجلس مع المتعلمين وعلى طرف ويستمع لما يقوله الملا من حروف وجمل الى ان تعلم القراءة والكتابة بشكل جيد ... فرض ذلك الواقع ( واقع العيش في خدمة السيد الاقطاعي ) على سالم  البحث عن مفك لقيده، ، فشارك في جمعية أصدقاء الفلاح في العمارة ، تلك التي أسستها ورعتها منظمة حزبنا تحت قيادة الرفيق الخالد حسين محمد الشبيبي (صارم) مدرس اللغة العربية في ثانوية العمارة ، ثم أنضم سالم لتنظيمات الحزب ، وفي مطلع الخمسينات كان نصيرا للسلام ولكن عمله كان يسير بسرية تامه ، رغم ان الكثير من ابناء الاقطاعيين في آل ازيرج منضمون الى منظمة انصار السلام ... وطد سالم علاقته مع أبن الأقطاعي (عبد الواحد ابن حسن الشواي) .. ولما وردت أعترافات على سالم أتصلت السلطة بالأقطاعي المذكور لتسليمه فأمره الأقطاعي بالذهاب معه الى مركز العمارة ، وفي الطريق كان سالم يلطف الجو بالنكات الكثيرة التي تسر الشيخ الأقطاعي وبين الفترة والأخرى يقول له الشيخ ، ولك سويلم أسلمك للحكومة تعذبك وتسجنك؟ لكن أنت شيوعي  ولك بسّك ، اترك  فيرد عليه سالم ببرود:

ــ محفوظ، طلايب الحكومة ما تخلص، اليوم تأخذني وغـداً تأخذك، اليوم أذا أنت ما تخلّصني بكره انا شلون أكدر أخلصك...؟؟

وعند الوصول الى العمارة  طلب سالم من سيده ألا يسلمه في تلك الليلة، ووافق الشيخ الشاب، ونام مع سالم في غرفة واحدة وسد الباب بقوة خوفا من هروب سالم... ولما تعالى شخير السيد، زحزح سالم التخت الذي يسد الباب وهرب ورجع الى أهله. اما الاقطاعي  فقد ساوى القضية مع الشرطة ...

تزوج سالم فتاة أحلامه (أم سعدون) ، برخصة من الشيخ وليس بالتقاليد المعتادة كبقية الفلاحين (لان رجال الدين لا يقومون بعقد الزواج للعبيد) ... صار سالم كادرا فلاحيا سريا متنورا، يقوم بالأعمال التنظيمية ونقل البريد وكل متطلبات العمل الحزبي الأخر، وعندما حدثت ثورة 14/تموز/1958،

مــــن خــــادم الــى قائــــد  :

برز سالم كوجه فلاحي في الأتحاد العام للجمعيات الفلاحية فرع العمارة مع رفيقيه عبد الواحد كرم وملا زغير وكَاطع  وغيرهم  ، وساهم مع رفاقه في تقوية وحدة الفلاحين وحل مشاكلهم المتنوعة ، الزراعية والأجتماعية ، وبجهود سالم حلت الجمعية محل السلطة والشيوخ ورؤساء العشائر في حل النزاعات الفلاحية والقيام بالأعمال الزراعية المتنوعة ، ذلك الذي أغاظ الرجعية والأقطاع فأنتهزت أنتكاسة الديمقراطية، وزجت بسالم في السجن.. وفي أحدى المرات كان المفوض وهو حاقد أخذ يعذب سالم ظناً منه أن سالم سيطلب الرحمة أو يتنازل عن مبدئه السامي الذي قاده اليه وعيه ، وقال له سالم: حيل دوس وكسر الضلوع حتى يعرف أبو ( الشعبية النبيلة)(1) !! أنه نصير الفلاحين !؟.  

كانت أم سعدون لا تتخلف عن سالم في كل زيارة للسجناء، وصغيرها الرضيع على صدرها ... تخلفت زيارتين مما أقلق سالم وبعدها جاءت له مهمومة حزينة، سألها عن صغيرها فحاولت أخفاء الخبر عنه، الح عليها . فنزلت الدموع من عينيها فعرف بأنه قد مات ، أبتسم سالم أبتسامة عريضة وتظاهر باللامبالاة ، وقال لها  : حتى أطفالنا يضحون بحياتهم دون أن يعلموا، لقد تنازل عزيز عن رغيف الخبز لأخوانه...

أبو فهد على طـــــريق والـــــده:

أنضم الرفيق أبو فهد (2) مبكرا لحركة الأنصار وقد عمل في قوات انصار الفوج الثالث في بهدنان " حيث كنا معاً " وكان كأبيه محبوبا يجمع بين الخلق الرفيع والشجاعة النادرة والمرح كان يحمل قاذف (  R.B:G -7)... ذهب ابوفهد للعلاج في سوريا ، وهناك التقى مع والده سالم وكان قد كبر كثيرا . بكى سالم عندما رأى ولده أبو فهد؛ أستغرب الأبن وسأل والــده :   لم أرَكَ تبكي من قبل يا والــــدي ، لم تبكِ من محنه ولا من ضيق فلِمَ تبكي الان ؟

رد عليه سالم: 

 ــ لقد شخت كثيرا ولا توجد لدي القدرة على مواصلة النضال المشرف ، فأنت الذي تواصل الطريق ، ولا أريد أن تموت شجرة الحزب ...!!

لكم الخلود يا رفاقنا الابطال سالم وعبد الرحمن (ابو فهد) وكل من غادرنا ، شهيدا او فقدانا .

 

(1) في احدى خطابات عبد الكريم قاسم قال : ان الاشتراكية هــي الشعبية النبيلة !!
(2) توفي في النروج





 

 

free web counter