| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

نعيم الزهيري

 

 

 

الأحد 19/2/ 2012




مـحـنـتـي فــي زمـن الاوحـــــــد

نعيم الزهيري

أشرق يوم الرابع عشر من تموز 1958 ، فكشف عن عهد جديد انتظره الشعب العراقي طويلا ، وقد مارس من اجله شتى النضالات من اضرابات واعتصامات واساليب نضال اخرى بما فيها الكفاح المسلح كأعلى اسلوب نضالي ، وقدم عبر ذلك التضحيات الجسام ؛ اعتقالات ، سجون ، منافي ، اقامات جبرية ، اسقاط جنسية ، وصعود مشانق ... وكواقع طبقي فان الغطاء الفوقي ونقصد به ( النظام السياسي ) كان قد تهرأ ولم يعد ملائما لتطور القوى المنتجة ، ما اصبح يتطلب التغيير الى نظام اقتصادي اجتماعي يلائم المرحلة ... ومن الجانب الاخر فإن القوى السياسية صارت بمستوى المسؤولية فكانت، اضافة الى قيادتها تلك النضالات ، ( وعلى اختلاف دورها ومساهمتها فيها وتضحياتها ) ، التحمت بجبهة وطنية ...فكان العراق انذاك ما يشبه برميل بارود يتطلب الشرارة التي تفجره ، فكانت حركة الجيش انذاك بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم والمنظمات الثورية الاخرى في الجيش مثل منظمة الضباط الاحرار ومنظمة الجنود والضباط ...اضافة الى بعض الضباط المستقلين من الوطنيين ،وبذلك انطلقت الشرارة الاولى التي فجرت برميل البارود .وما ان اعلن راديو بغداد البيان الاول للثورة نزلت الجماهير الشعبية بطوفان هادر لتكمل المشوار ، وبذلك اكتسبت تلك الشرارة صفة الثورة الشعبية . وفي غمرة الافراح حققت الحركة الكثير من المكاسب للشعب ، مثل سن قانون اصلاح زراعي لاول مرّة في تاريخ العراق ، وتبع ذلك فك ارتباط العملة الوطنية بكتلة الجنيه الاسترليني البريطانية ، وانسحب العراق من حلف بغداد ،كما اجيزت الصحف وظهرت للعلن الاتحادات التي كانت تعمل بالسر ، وتشكلت الجمعيات والمنظمات المهنية والديقراطية ، وذلك ما كان يريده الشعب ويناضل من اجله ؛ ومن نافلة القول ان معظم تلك المكاسب تمت بعد انسحاب القوى القومية والبعثية من الساحة بعد انشغالها بالتآمر على الجمهرية ، مصطفة ً مع الجهاز الاداري السابق الذي لم تنله يد التطهير ومع قوى من خارج الحدود بما فيها قوى استعمارية دخلت على الخط بقطار طويل ..

مـن هـــذا العرض الموجز جدا الذي يعرفه واكثر منه اولئك الذين عايشوا تلك الظروف او قرأوا او سمعوا عنها ، وانا ممن عاش تلك الظروف ...

في تشرين الاول من نفس العام ـ 1958ـ عُينت معلما مستخدما في قرية تسمى ام البطوط تقع بين العمارة وناحية المشرح وتتبع اداريا لناحية المشرح ، كإعادة فتح للمدرسة التي اغلقها الاقطاعي ( فالح الموسى ) احد اقطاعيي السواعد طيلة 12 سنة ؛ وفي ذلك الحماس والاندفاع الثوري وحماوة الشباب قمت بواجبي واكثر ،فبالاضافة لتعليم الصغار فتحت صفا لمكافحة الامية للكبار وساعدت الجمعية الفلاحية الحديثة التشكيل ، واثر مؤامرة الشواف ، احتجز اقطاعيو المنطقة ، وبقيت النساء فساهمت بتوجيه الفلاحين باحترام تلك العوائل ومساعدتها والحفاظ على ممتلكاتها ، وكنت اتفقد المحتجزين من الرجال في مدينة العمارة فاكسبتني تلك العلاقات الوديّة احترام وحب القرويين وحبهم ، لكن عين الغدر لم تنم ، كما يقال!!

ولنعد لموضوعنا ،قاسم الذي ارعبه المد الجماهيري الثوري ، لانه لم يكن يتلاءم مع ذهنيته، كبرجواري صغير ، بدأ يغازل من هم ضد المسيرة الثورية وخطط ان يقلِّـم اظفارها فاطلق عنان المحاكم العرفية وجهاز الامن ، تلفيق تهم باطلة ومحاكمات صورية ، اعتقالات ، سجون ، حجز اغتيالات تزوير انتخابات غلق صحف ... غيرها

في ذلك الصراع المحتدم اعتقلتُ للمرة الثانية في اواسط تشرين الاول 1959 واودعتُ في زنزانة في سجن العمارة المركزي ، لم تكن لدي اية مستلزمات سوى الملابس التي ارتديها ، يخرجوني مرتين في اليوم لقضاء الحاجة والتغسيل ، وفي المساء يرمي لي الحرس صمونة من بين قضبان الباب ، مثلما ترمى قطعة خبز للكلب . لم ازود باناء اشرب به ماء .بلا فراش او غطاء . كل شيء ممنوع عني حتى المقابلات .. كنت اسامر وحدتي والوك الذكريات حتى تهرأت اوراق كتابها . في تلك الليلة من اواخر الشهر نفسه سمعت صخبا كبير وهتافات بحيات قاسم والموت لاعداء الشعب، وهذا ما اعتدناعلى سماعه في كل مظاهرة . ثم رأيت وميضا ً وسمعت ازيزا ً كالذي يحدث اثناء التماس الكهربائي في الاسلاك الكهربائية ، اعقب ذلك طلق ناري في الهواء ، بعدها ساد الهدوء ، لم افهم تلك الظاهرة فبقيت قلقا ً طوال الليل . وفي صبيحة اليوم الثاني جاء الحرس وهو مضطرب وفتح باب الزنزانة وامرني بالخروج فخرجت وقادني الى جناح اخر في السجن ( يسمى موقف السجن ) وهو دهليز طويل فيه غرفتان وحمامان ، كان الجناح يكتظ بالمعتقلين من رفاقنا واصدقائنا ، فسألت عن الحدث قالوا :
محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في رأس القرية ببغداد فجرح وهو الان سالما ويرقد في المستشفى ، وعندما سمعنا الخبر خرجنا الى الشارع بمظاهرة كبيرة نستنكر الاعتداء لكن قوات الشرطة والامن فرقتنا بالهراوات واطلاق النار في الهواء ، ومن ثم جرى اعتقالنا ، لاننا استنكرنا محاولة اغتيال الزعيم ! وهذا هو الجهاز الاداري الذي يعتمد عليه زعيمنا الاوحد. وماذا عنك قلت : كما ترونني اعتقلوني في الشارع واودعوني في احدى زنزانات السجن قبل اسبوعين ، دون ملابس او فراش ،او حتى اناء اشرب فيه ماء اذا عطشت ..فاعطوني ملابس نظيفة وادوات حلاقة وذهبت الى الحمام ..

كان المعتقلون الذين جاوز عددهم الاربعين من مختلف اطياف شعبنا ومثقفيه ، وكانت الحياة جماعية في الاكل وتوزيع الواجبات متساية ويعفى منها كبار السن والمرضى فقط ، يا له تنظيم جميل ! لم يكن لدينا كتب ولم تصلنا الصحف ومن ثم اطلق سراحي بكفالة وصدر تعييني ( مبعدا ) الى مدرسة الصحين الابتدائية . تقع قرية الصحين في نهاية نهر الكحلاء وتتبع اداريا الى قضاء المجر الكبير ، بيوت القرية مبنية من القصب والبردي وكل بيت مستقل عن الاخر بسبب الماء الذي يفصلها ، لذا فأن واسطة التنقل هو المشحوف ( الزورق ) فقط ،اما اقتصاديات القرية فهي زراعة الرز وصيد الاسماك والطيور ولم تكن اية حرية للصيادين ، بل يدفعون اجرا ً للاقطاعي للسماح لهم في ممارسة المهنة ، وحتى القصب الذي يجردونه من الهور يدفعون عليه ضريبة للاقطاعي ... سكان القرية من عشيرة (البو محمد ) وشيخهم مجيد خليفة ، وهذا الاقطاعي حاد الطباع اشتهر ببخله وبقسوته اللامتناهية تجاه الفلاحين . وقد سخـّر الفلاحين لنقل التراب من اليابسة التي تبعد عن القرية اكثر من 20 كيلو متر ، وقد راكموا التراب مع الحشائش الى ان صارت ارض وبنى عليها قلعة سكنها مع عائلته وبعض خدمه . في 13/تموز/ 1958 اي قبل اندلاع الثورة بيوم واحد حصل مجيد على صفة الملتزم الاولي ، ولا يوجد غيره من اقطاعيي العمارة قـد نال مثله في شكل الملكية . علما ان كل اراضي ريف العمارة هي اميرية تملك رقبتها الدولة ، وبعيد الثورة رحل مجيد الى بغداد وهدم الفلاحون قلعته وبنيت مكانها مد رسة هي ( مدرسة الصحين الابتدائية ) وقد عينت مديرا لتلك المدرسة وعين معي معلمان مستخدمان .

في ربيع عام 1960 حصل مجيد اذنا من عبد الكريم قاسم بالرجوع الى مقاطعته فثارت قرى المجر ضد ارجاعه (لمن يريد متابعة الموضوع يرجع الى ما كتبته بهذا الخصوص تحت عنوان ـ نضالات فلاحي المجر الكبير) المنشور في موقع الناس . وقد لعبت دورا هاما في هذا الخصوص ، فصدر الامر بالقبض عليّ .. وفي الذكرى الثانية للثورة القي القبض علينا اخي وانا واخرين بحجة ( اجراء احترازي ) ومن الموقف ارسلوني مقيدا الى المجلس العرفي الثاني سيّء الذكر برئاسة شاكر مدحت . فاصدر عليّ حكما ظالما ، بالسجن ثلاث سنوات وسنة اخرى تحت مراقبة الشرطة ، بتهمة حيازة اسلحة ونقلها من مدينة العمارة الى الريف للاطاحة بحكم الاوحد !؟. اطلق سراحي بالعفو الذي شملني من الاوحد في اواخر1962 ، حتى صدر عليّ حكما مماثلا اخر فاختفيت وحاولت الخروج من العراق الى بلغاريا لحصولي على مقعد دراسي في جامعة صوفيا ، لكنهم القوا القبض عليّ في مدينة الرطبة واقتادوني الى مديرية الامن العامة ببغداد ، وجرى تعذيبي بشكل بشع ، ولا زلت احمل اثار التعذيب ، وارسلوني الى سجن الموقف في باب المعظم في القلعة الخامسة ... كان المعتقل مكتضا وانا معتقل تحت اسم اخر ، فرجوت من عاصم الخفاجي وجاسم تاجي مسؤلي المنظمة الحزبية انذاك، السماح لي وعلى مسؤليتي التسرب مع العوائل في اثناء الزيارة وأبلغتهم انني كادر محترف العمل الحزبي ، فلم يوافقا ، وفي الثامن من شباط الاسود ، كنا نتهيأ للعبة الكرة الطائرة وكان يوم جمعة وقبل ان نبدأ رأيت طائرتين تقصفان ( عرين الاوحد ) الامنع من عقاب الجو !؟، كما ادعى هو نفسه لكن عقاب الجو ملأت سدارته بذروقها ، وابى ان يزود الجماهير العزلاء بالسلاح للدفاع عن الجمهورية ، الجماهير التي سطرت حروف المجد في الدفاع عن مكاسبها التي حققتها واضاعها الاوحد برعونته وقصر رؤيته . وبما ان تهمتي التي اعتقلت وفقها هي تزوير جواز سفر ! ارسلوني الى مركز شرطة البتاوين ببغداد واطلق سراحي بكفالة ، فبقيت في بغداد متخفيا واشتركت بالمساهمة في انتفاضة الرشيد التاريخية ...

ايها القارئ الكريم ؛ الم يكن الاوحد هو الذي يتحمل نجاح الانقلاب الدموي ، الم يكن هو المتآمر الاول على الجمهورية ، وهل نرمي تبعية السرقة على السارق، ام على رب البيت الذي سمح للسارق ان يسرق ، ويتحمل المسؤولية كذلك ، اولئك الذين ناموا باحضان نسائهم ولم يحركوا ساكنا ، ولا نعفي الحزب الشيوعي ايضا من المسؤولية لانه لم يأخذ المبادرة ....


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 





 

 

free web counter