| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

نعمة السوداني

 

 

 

الأثنين 3/9/ 2012

 

شبابيك شهرزاد الدرامية ... 
"قراءة في قصة "في الليلة الثانية بعد الألف" للقاصة لبنى ياسين "

قراءة : نعمة السوداني *  

الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة حيث كتب عن القاصة  لبنى ياسين :

"القاصة الشابة لبنى محمود ياسين أدهشتني في أول مجموعة قصصية لها , تلك التي صدرت بعنوان " ضد التيـار " , والدهشة هي الانطباع الوحيد الذي يؤكد الجـدارة , فالأدب الجيـد هو الذي يدهش ويثير ذلك المزيج الساحر من التجاوب بالعقل مع ما يلمس أوتار القلب , وهذا ما لمسته في قصص لبنى ياسين.

لبنـــى ياسـين .. توقفـوا أمام هذا الاسـم راصـدين متابعـين , لأنه لكاتبه واعدة ومبشرة سنقرأ لها كثيراً وندهش "...

تتميز الاديبة السورية لبنى ياسين بحذاقة قدراتها  الفنية  في استخدام لغتها الشعرية  في صناعة المادة الأدبية التي تتنوع مابين الشعر والقصة والرسم، من خلال حيازتها  وامتلاكها على قوة كبيرة للخيال تعتمدها في رسم خطوط أعمالها الفنية، ومن ضمنها  فن القصة  التي قدمتها في مسار حياتها الأدبية خاصة أنها نشرت العديد من المجموعات القصصية  .

إن قوة الخيال في  فكر وثقافة القاصة  في قصتها هذه  -- في الليلة الثانية بعد الالف -- إنما جاء  عبر مؤثرات الصوت الداخلي، ورسم الصورة،  وتشكيل الألوان، في عملية السرد الفني والبناء الحكائي  المتميز في خلق وصناعة نسيج  خاص ينبع من خيالها المتفرد بما فيه من سريالية جديدة معتمدة على البناء الفني والفكري والموضوعي للأحداث والأفعال، ودور الشخصيات في الزمان والمكان، حسب منهج خاص قدمته القاصة, لأنها تتضمن في  سردها منهج قريب للشاعرية والواقعية منطلقة من حالات اللاشعور, وحينما ننظر إلى شباك شهرزاد الدرامي نجد أن الدراما وحدها هي التي تتسيد المواقف, الصراعات التي حدثت وتحدث الآن, أمام القاريء، عبارات " الأمن, الإعتقالات, والزنزانات"، أمام  الشخصية المعروفة في التاريخ الحكائي عن الشاطر حسن الجميل الجيد دائماً في مخيلتنا وهو يقع تحت كيل التهم المجهولة المنسوبة إليه  !!!!

من ذلك نرى أن هذه الشخصيات تهاجمنا في الواقع المرئي الحقيقي ونتواجه معها يومياً  بأسلوبها السيء، فنجد القاصة تغوص إلى أبعد نقطة في الأعماق, إلى قاع المدينة، والأماكن التي يحكمها شهريارالخائب في الوقت الحاضر, الرجل المتسلط على رقاب الناس ومنهم شهرزاده المنتحرة كل يوم، لتصطاد للقاريء لؤلؤاً في عمقها السردي يرتقي إلى مستوى الحداثة في نظام السرد الذي يتناول الحياة بأحلى  صورها  وأبشعها في نفس الوقت مع التبريرات التي تناقش الوهم والحقيقة .

ففي الشباك الآخرالذي رأت فيه علي بابا الذي لم يعد معجباً بحبيته -- ياسمينة --  إنما راح يرتكب خطيئة كبرى في خيانته وفعلته المشينة  حينما وقع تحت غواية زوجة أخيه, تلك الخيانة التي هشمت قلب ياسمينة الحبيبة الحالمة العاشقة المنتظرة, إذن هنا ضربة أخرى لشهرزاد !!!!

إن متابعة هذه الشبابيك الدرامية التي تعتمد الصراع  تمثل إلينا الخطوط العامة للواقع  بما فيه كل التناقضات اليوم, ألوان متعددة, لايمكن لأحد أن يصدقها,  في كل شباك صراع, في كل مدينة، وشارع, وقصر للرئاسة صراع , لكل شباك رائحة مختلفة عن الآخر، فهنا رائحة الموت, وهناك رائحة الخيانة، وفي شباك آخر رائحة المؤامرة والقتل, بمعنى آخر روائح المجتمع والسلطة, إنها روائح خاصة بشهرزاد التي فتحت حكاياتها  وشبابيكها في  الليلة الثانية بعد الألف لتعلن لنا انتحارها ،والأسباب كثيرة.

إن الخيال الذي يعتبر مركز الإشعاع في فكر القاصة لبنى ياسين  يقدم لنا نغمات سحرية وشعرية سريالية  ضمن  سريالية النص  والسرد الصوري الملون لتشخيص أمراض الواقع الحقيقي الذي تعيشه الأمة في كل مكان مع  حكامها، مصاحبة لخيبة الأمل الكبيرة التي أصابت الناس على مستوى الكتابة أو النفس الشعري والخيال الذي تتمتع به القاصة .

ألوان الشبابيك :

شهريار المنتحرة وكيف يتطاير من عينها الشرر "من خلال اللوحة المصاحبة للقصة بريشة الكاتبة"  تقص علينا ما يجري من أحداث، وهي تمتطي حكاياتها عن قوت القلوب تلك المرأة المثقفة الجميلة عميقة الفكر الساحرة , لم تعد اليوم هكذا, في عالم تحولت فيه القلوب الطيبة الى قلوب قاسية وابتعد الحب عن مكانه وأصله .

شباك التاجر الطيب الذي  باع الطعام بأقل سعر من تكلفته بسبب ما يعانيه الناس من جوع وفقر، بينما الحاكم والسلطان الأحمق لا يتحدث سوى  لغة السيف والدم  والقتل، أي  لغة الموت, بينما يطل علينا من شباك آخر السندباد الذي ترك الترحال والتجوال والبحث  حينما أصابه الممل، وراح يبحث عن  وظيفة رسمية يعتاش منها  -- يأكل خبزاً من وراءها --   فخرج عن المألوف حينما تعين في وظيفة  في دائرة النفوس ليس لها علاقة  بتاريخه  كسندباد !!! وعمل بقانون ( الأتاوة ) سيء الصيت، وأصبح بظرف سنتين من أغنى الأغنياء, وهنا تطرح السؤال في حكايتها عبر شباك درامي جديد كم  سندباد جديد  لدينا اليوم ؟؟؟  كم من السراق الجدد الذين يأكلون لقمة الشعب !!! هذا السندباد أصبح أميراً يملك السيارات الفارهة  والعمارات والنساء الجميلات، الماس والمجوهرات, بمعنى آخر السندباد الجديد يملك السلطة والقوة والمال والجنس .

بينما خرج علينا من شباك آخر الصياد الذي طالما أمتعنا بحكاياته،  وهو يرمي شباكه في البحر كي يصطاد من النفائس وثمين اللؤلؤ, تراه شهرزاد من شباكها تحول الى صانع ديناميت ليقتل كل المخلوقات  في البحر، كي يوفر  لنفسه الكثير من المال حتى تحول إلى رأسمالي كبير،  ومن ثم تزوج  بنت الحاكم الأوحد، وبغمضة عين أصبح المسؤول الأول عن شؤون البلاد المالية والمسؤول المباشر عن الخزينة المركزية  !!!! 

شهرزاد هي الخاسرة الوحيدة هنا في هذه الحكايات  وليس كما عرفنا وسمعنا سابقاً أنها المنتصرة !!

فآخر مشهد رأته  حينما  رأت الحكيم رويان يضرم النار بكتب العلم والثقافة والفن والأدب  لكل الحضارات وسمعته يكلم نفسه كأنه مجنون بقوله : اللعنة على عمري الذي ضاع بين البحث والحفظ لهذه العلوم والثقافة, ثم أردف قائلاً : اليوم كَوكَل ينافسني وأرباحه أكثر مني  !!

هذه الشبابيك  الملعونة التي فتحتها شهرزاد في حكاياتها العصرية الحديثة شوشت علينا كل الحكايا القديمة التي تمتاز براوائح طيبة عبقة  تمثل التاريخ بألوانه الجميلة, فالملك أو السلطان ليس بعادل, ولا هو بحكيم، بل أصبح يشعل الفتن ويثير الطائفية، والفقير ازداد فقراً, وشهريار أصبح سيفه صدئاً, ومن ثم أصبح الناس من دون ملامح لهذه الأسباب .

إن مـا يميز الـسرد في هذه الحكايا، هو اللـون والإيقاع والصوت الداخلي في العنصـر البـنائي لعملية القـص هذه، والذي يـوازي بدوره العنصر الإيقاعي للشعر وتكوين الصورة الشعرية، التي  عملت القاصة على بـلورتها بالاضافة إلى التركيزعلى الحركة التي تولد صورة بعد صورة من هذا النوع الدرامي .

أمامنا رؤيـا خاصة لعالم مغاير لانطمح إليـه أبداً, قد يصعب علينا التعبير فيه, لكنها أكدت على هذه الحقائق بالصور المألوفة واللامألوفة التي تبعث بحرارة الأجـواء وسخونتها, نعم هي حقائق مـَّرة, ملـيئة بالتناقـض.

حكايات تعطي لنا مدخلاً لعالم القـاصة، وإحساسها بما يدور في بلدها، أو ما يدورفي البلدان الأخرى التي تحكمها عـقول لاتعرف سوى التسلط على رقاب الناس, بالإضافـة إلى الإشارة إلى قضايا ساخنة جداً, تطيح بالأحوال من سيء الى أسوأ، وهـي تحاول أيضاً أن تصل إلى نقـطة هـامـة تمثل هذا الصراع  للقاريء، وتوضح العلاقاتالمتشابكة بين الماضي والحاضر والمستقبل الغامض, لأن ما يدورالآن في الواقع من اختلاط واضح بين الأحداث والإنفعالات, هو ما أرادت القاصة أن تجسده في هذه القصة التي اعتمدت فيها أيضاً على نوع من اللغة التي فيها من المهارة والإبداع في زمان ومكان مفتوحين وبتكثيف وتركيز ووضوح .

إنها بحق شبابيك  تعالج موضوعات مليئة بالصراعات، تمثلت برؤيا شهرزاد لهذا الواقع، وهي ممتعضة منه, لكونها فشلت في إيصال أفكارها وهمومها بسبب الفشل العام الذي يحيط بالمواقف العامة، ولكثرة العوائق أمامها، التي تمنعها من أن تتحرر من قبضة رجال السلطة، وتراجع الفكر الانساني, لذلك أعلنت موتها , وإن موت شهرزاد هنا موت للحياة كإشـارة لها  جاءت في فلسفة الفكرة،  سواء كان حقيقاً أوعن طريق العقل الباطني للقاصة التي دسَّت لها السم بعدما ذهبت الى فراشها عن طريق الجارية ميمونة،  لتختلي الأخيرة بعدها بالملك وتصبح "ميمونة الجارية" ملكة الحكاية بدلاً من شهرزاد .

تحية للأديبة المبدعة لبنى ياسين وهي ترسم لنا خارطة طريق في  سرد الحكايا عن البلدان الأكثر دموية اليوم مع شعوبها على لسان شهرزاد التي ماتت .

 

* ناقد مسرحي - هولندا

 

في الليلةِ الثانيةِ بعدَ الألف

لبنى ياسين

شهرزادُ تستعدُ لتحكي الحكاية، تلملمُ أطرافَ شعرها الأسودَ الطويل عن وسادةٍ حِيـْكتْ بخيطانِ وهمٍ متعب، لا لونَ للوسادةِ غيرَ أنَّها باهتة، لا لونَ للستائر المنسدلةِ دون معنى على نافذةِ الحقيقة، تتساءلُ شهرزاد بينها وبين نفسها: أينَ اختفتْ كلُّ تلكَ الألوان الزاهية؟هل يمكنُ للحكايةِ أنْ تُروى دونَ لون؟ هل ماتَ حقاً قوسُ قزح الذي كان يزينُ ضفائرَ المطرِ فيما هي تسعى لتقبلَ جبينَ الأرض؟!

يخونها الصوتُ، كما خانها اللونُ، أي روعةٍ لحكاية لا صوتَ للراوي فيها، وليسَ ثمةَ صدى يرتدُّ عنْ كاهلِ تضاريسها؟! ولا لونَ يطرز الكلمات المتناثرة عبر منعطفات عابرة تغيِّرُ شكلَ الخاتمة ِلتبدوَ أكثر استحالة؟ تستفحل في رأسها أسئلة عقيمة تنبت في أوردة الخوف  دون هوادة:
هل الصدى جسدٌ لأصواتنا؟ أم الظل صوت لأجسادنا؟ أيهما الحقيقة؟ وأيهما الوهم؟ من يبررُ الآخر؟..الحقيقة أم الوهم؟ من يسبقُ الآخر..الواقع أم الحلم؟؟

تختنقُ العبرةُ في عينيها البنيتين، وحيدة هي كنجمةٍ في سماءِ ليلةٍ شتويةٍ، تسترقُ النظرَ عبر شبابيكِ الحكاية، الشاطرُ حسن ملقى في السجن بتهمةٍ مجهولة، أخذهُ رجالُ الأمن ورموا به في غياهبِ الزنزانة، ولم يفكروا حتى في إخبارهِ عن التهمةِ الموجهةِ إليه، وما زالَ يرقِّـعُ جدرانَ الزنزانةِ بصوتهِ المثقل بالأسئلة العقيمة، ويحصي الذنوبَ التي يمكنُ أنْ تكونَ قدْ أوصلته إلى هذا المكان الموحش، دونَ أنْ يدركَ بشكلٍ مؤكدٍ لمن يدين في حجزِ سنواتهِ المتبقية بينَ قضبان أدمنتْ جحودَ الوجع.

علي بابا لم يعدْ معجباً بأميرته ياسمينة، فقد صادفَ وأن رأى زوجة أخيه، فتمايستْ الأخيرةُ أمامه وتكسَّر صوتُها بغنجٍ مبتذل، كانت تريد أن تثبتَ لنفسها أنَّ بمقدورها أنْ تنافسَ امرأةً رائعةً كياسمينة، فالغيرةُ توغرُ صدرها كلما سمعت الناس يتحدثونَ عن تلكَ بانبهار، ورغمَ أن زوجة أخيه تافهة كدمية صينية قديمة مكسوة بالطلاء، إلا أنه تركَ ياسمينتهُ معلقةً على خدِّ حكايةٍ مارقة، وراحَ يصففُ كلمات الغزل للدمية الحمقاء، لم يعدْ بمقدورِ ياسمينة أنْ تسامحهُ هذه المرة، فقد كان الجرحُ قد غارَعميقاً، وتكدستْ الشروخُ في قلبها معلنةً هزيمةً نكراء لامرأة عزلاء لا تجيدُ فنونَ القتال، بعدها تلاشت روائحُ الياسمين عن جدرانِ المنزلِ القديم، إذ أنَّ الدموع التي لم تهطلْ كانت تتحولُ تلقائياً إلى ريحٍ تسرقُ الروائحَ الطيبةَ، وتجهزُ عليها بصمت، هل يهمُ بعدها إن كان أخوه حياً أم ميتاً؟ هل سيبحثُ عنه في البئر؟ أم سيتركهُ معلقاً هناكَ بينما أميرُ الجنِّ يسألهُ ذاتَ السؤال الأحمق: أيهما أجمل؟ ويحارُ الرجلُ فلا يجدُ جواباً ينقذهُ منَ الموتِ على تخومِ قصرٍ شاهقٍ بُنيتْ جدرانهُ من جماجمِ رجال آخرين، استعبدتهم الغواية، ففاتهم سحرُ الوهمِ المعلـّقِ بشغافِ أغنيةٍ تداعبُ  قلبَ عاشقٍ.

الأميرة قوتُ القلوب المعروفة بجمالِ إطلالتها وعمقِ تفكيرها، وثقافتها وطيبِ معشرها،  لم تعدْ القلوب ترغبُ بها قوتاً يومياً، فقدْ استعمرها المللُ، القلوبُ الآن تسبحُ في بحرٍ من الدهون، فالهامبورغر والكولا فعلا فعليهما في تلك القلوب، وهكذا أصبحتْ قلوباً صلبة قاسية..كل ما فيها يرشحُ بالسموم، "من أين يمكنُ للحبِ أن يتسللَ إلى قلوبٍ كهذه؟!" : قال الحبُ في نفسهِ، وانطلقَ حاملاً وردته الحمراء، وقيثارته، بعد أن قصَّ جناحَ الحلمِ ليصبحَ عصرياً بما فيه الكفاية، وصنعَ له قبعة تقيه جنون المطر..ولكن هل تمطر العيون بعد؟ لم يشغلْ باله كثيرا بهذا السؤال، اكتفى بغرسِ القبعة على رأسِ الحلم، وتسللَ مودعاً قلوباً متخمة بالشحوم والسموم والكره..ولم يرَ أحد الحبَّ بعد ذلك، قيلَ أنه رحلَ إلى كوكبٍ آخرَ، وقيلَ أنه قتل نفسه برميها عن جبلٍ عالٍ..وقيل أنه بكى حتى فقدَ بصره.. .وقيل..وقيل..الإشاعاتُ كثيرةٌ، بعضها لا تليقُ بمخلوقٍ رقيقٍ مثله، لكن من يأبه؟!..الحقيقةُ الواضحة والأهم أنَّ الحبَ لم يعدْ موجوداً هنا، ولا حتى هناك.

وأما شيخُ التجارِ، فقد أفلسَ منذ شهور، إذْ أنـَّه لم يطقْ أن يرى أبناء مدينته جائعين، فباعَ لهم أصنافَ الطعام بأقلِ من سعرِ التكلفة، كان العسسُ عندها يقصفونَ أنحاء المدينة، بأمرٍ من سلطانٍ أحمقَ لا يجيدُ التحدثُ بعيداً عن لغةِ السيفِ والدم، شعرَ شيخُ التجار بالأسف، كيف يمكنُ للجوع والموت أن يلتقيا معاً في مدينة كهذه؟ وعاهدَ نفسه إن لم يستطعْ أن يهزمَ الموتَ فسيهزم الجوع على الأقل، لكنه أعلنَ افلاسه قبلَ أن يعلن انتصاره على الجوع، وانضمَ إلى قائمة الجائعين في بلده.

ولم تطقْ ابنةُ شيخِ التجار أنْ ترى أباها في هذه الحال المؤسف، فتزوجتْ أحد الوزراء المعروفين بتورطهم في ملفاتِ الفساد لتنقذَ سمعة أبيها، لكن أبوها فارقَ الحياةَ فوراً بعد العرس إثرَ ذبحةٍ  قلبيةٍ مفاجئة، إذ تناهى إلى سمعهِ أن الناس يتناقلون عنه إشاعةً مفادها أنه باعَ ابنته لينقذ مكانته الاقتصادية.

ومن شباكٍ أخر من شبابيكِ الحكايا، كان سندباد قد تركَ السفر، وتقدمَ إلى وظيفةٍ رسميةٍ تطعمه خبزاً،عملاً بالمثل القائل:" ساقية جارية ولا نهر مقطوع"، ومنَّ اللهُ عليه بوظيفةٍ في دائرةِ النفوس، ففرضَ أتاوةً على الناس لقاءَ كل ورقةٍ يحتاجون إليها، وأصبحَ من أغنى أغنياء البلد خلال أقل من سنتين، وتسابقت الجميلاتُ تطلبنَ وده، فتزوجَ أجملهن، وكان مهرها بيت وسيارة موديل سنتها..عدا الألماس والمجوهرات، وأقام عرساً تحدثَ عنه القاصي والداني، وعاشوا في سباتٍ ونبات وخلفوا صبياناً وبنات، لكنه لم يكتفِ بها زوجة، فتزوجَ أخرى وثالثة، وعاد فطلق الثانية، فأصبحت الثالثة تدعى الثانية، ثم أنه تزوجَ ثالثة..وكل هذا وأولاده وبناته يرتدون أجملَ الحلل، ويرصعون كفوفهم بالياقوت والذهب والفضة، وتخدمهم الجواري والخادمات، لكنهم يفتقرون لأدنى تربية واحترام، ولم يفلحْ أحد منهم في تجاوز المرحلة الثانوية، ولم يُجدْ أحدٌ منهم سوى تحريكِ فكهِ اجتراراً لأطايبِ الطعام أو لخبائثِ الكلام.

أما الصياد، فقد تركَ الصيد التقليدي، وصارَ يستخدمُ الديناميت بالصيد، مما وفرَ له صيداً وفيراً واستغنى عن جهودِ الجنية التي كان ينتظرُ قدومها على تخومِ الحكايةِ لتساعده في الصيد، ولهذا فقد أصيبتْ الجنية بانهيارٍ عصبي، بعد أن علمتْ أنه لم يعدْ لها مكانٌ في عالم الحكايا، وأنها فقدتْ وظيفتها إلى الأبد.

وعندما استدارتْ شهرزاد إلى شباكٍ آخر، وأزاحتْ الستارةَ الباهتةَ عنها، وجدتْ العفريت وقد تحولَ إلى اقتصادي كبيرٍ في وطنه، فأخبرها أنه صاهرَ حاكم ذلك البلد، وصار مسؤولاً عن جميع الصفقات المشبوهة التي لا يستطيعُ الحاكم أن يوسخ فيها اسمه بشكل علني، لكنه يستطيعُ بكلِّ تأكيدٍ أنْ يضعَ كل أموال الخزينة في تلك الصفقات على أن يبقى اسمه مختفياً عن الأنظار..وصارتْ جميع الصفقات باسم العفريت المذكور، والربح يذهب إلى جيبِ الحاكم وأخيه.

وعندما نظرتْ شهرزاد إلى أقصى يمينِ شباكِ الحكايا، كان الحكيم رويان هناك، يضرمُ النارَ في الكتبِ اليونانية والفارسية والعربية والسريانية التي جمعها وحفظها، لاعناً حظه الذي جعله يضيعُ عمره في حفظِ العلوم وتجميعها، بينما يأتي الآن حفيدهُ ليضع الحكيم غوغل في مقارنةٍ معه، والأنكى من ذلك أن الحكيم غوغل يربحُ المقارنة كل مرة..رغم أنه لم يقضِ عمره في جمع تلك الكتبِ وحفظ العلوم واستذكارها.

وعندما نظرتْ إلى شباكٍ آخر فاجأها الملكُ العادل فبينما كانت تعتقدُ أن الملك عادل حليم، وأنه عالم متعلم، رأته وقد تدلتْ كرشه وخاصرته أمامه، وهو لا يفتأ يأكلُ مالَ الناسِ بالباطل، ويظلمهم، ويوقعُ البغضاء بين الشعوب، ويضرمُ نارَ الفتنةِ الطائفية هنا وهناك، ليبقى متربعاً وحده على ذلك الكرسي اللعين، كان لا يكتفي بذبيحةٍ واحدةٍ على الغداء، كما لا يكتفي بامرأة واحدة على السرير، فبأي حال لم يكنْ في مقدورهِ أن يتباهى إلا بهذين الأمرين، وعلى إحدى الزوايا انتبهتْ فجأةً إلى أن النواة التي رماها المسافرُ بعد أن أكلَ التمرة، فقتلتْ ابن ملك الجن، وخرجَ أبوه غاضباً يريد أن يقتصَ لوحيده، أصبحتْ سلاحاً نووياً بامكانهِ أنْ يقتلعَ مدينةَ الجنِ من مكانها ولا يبقي فيها من يخبر بما حصل، فارتعدتْ خوفاً وتركتْ هذا الشباك بأسرع ما يمكنها، متجهةً إلى غيرهِ، وهناك رأتْ مرجانة ونزهة الزمان، وقد أصبحتا من أشهرِ مطرباتِ العصر، بعد أن ربحتْ إحداهما المركزَ الأول في ستار أكاديمي، بينما قامتْ الثانية بإخراجِ فيديو كليب فاضحٍ لأغنية لها، تتعرى فيه وترقص بحركات مثيرة، وصارتا من ألدِّ الأعداء ضراوةً لبعضهما، فهذه تطلقُ الشائعات على تلك، وتردُّ الأخرى عليها باعلان فضائحها المستورة، حتى التقتا يوماً عند طبيبِ التجميل الذي تعود أن يضخِّم بمبضعهِ كل شيء فيهما إلا الدماغ، واكتشفتا أن هناك أسراراً مشتركة بينهما لا يمكن أن تفضحاها، كعدد عملياتِ التجميل التي قامتا بعملها، وكم السيليكون المغروس في صدرِ هذه، وشفاهِ تلك، فتحولتا منذ ذلك اليوم إلى صديقتين ظاهرياً، وأخفيتا العداوة والغيرة في قلبيهما، وأعلنتا في جميعِ وسائلِ الإعلام أنهما أصبحتا صديقتين لصالحِ فنهما وجمهورهما، ورغمَ ذلكَ لم يستفدْ الجمهورُ شيئاً من معاهدةِ الصلحِ التي تمت بينهما، عدا تقلصِ عدد الإشاعات المتناقلة عن هذه وتلك.

لم تطقْ شهرزاد الحكايا الداكنة غير الملونة، والسيدات اللواتي يشبهنَ بعضهن، وكل شيءٍ فيهن منتفخ من الوجنات حتى...، ولم يعجبها أن تتحدثَ عن ناسٍ دون ملامح، يزدردونَ أحداثَ يومهم بوجهٍ لا يقولُ شيئاً، فانكفأتْ تبحثُ عن مسرور، وشهريار، لعلها تخبرهما أنه لم يعدْ ثمةَ حكايةٍ في جعبتها ترويها ليبقيها الملك حيةً لأجلها، وأنهُ بامكانهِ أن يقتلها في الحال والتو.

لكن الملك كان بدوره منشغلا بمتابعةِ دوري كرة القدم، يقيمُ الدنيا ويقعدها بصراخهِ المدوي لأجلِ كرة دخلتْ في المرمى، تساءلت في سرِّها: هل يمكن أن يصبحَ شهريار بهذا السخف؟ وانتبهتْ إلى مسرور وهو جالسٌ عن يمينِ مليكها يقصُّ بسيفهِ البرتقالَ والتفاحَ له، وقد علا الصدأ حوافَ السيفِ الذي كان يرهبُ أكثرَ الرجالِ قوةً، فاستدارتْ عائدةً إلى غرفةِ نومها، محاولةً أن تتناسى طعمَ المرارةِ الذي انتشرَ في حلقها كسرطانٍ خبيث، وأسدلتْ الستائرَ التي لا لونَ لها على شبابيكِ الحكايا التي فقدتْ صوتَها، واندستْ في فراشها، آملةً بحلمٍ ملون بعد أن افتقدتْ الألوان طويلاً، وفيما هي تغطُّ في نومها، كانتْ إحدى جواريها وتدعى ميمونة، تضعُ حيـَّةً سامةً في فراشِ سيدتها، لعلها تموتُ فتستطيع الاختلاءَ بالملك، لتصبحَ ملكة الحكاية بدلاً من شهرزاد.

free web counter