| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. ناجي نهر

 

 

 

                                                                                       الأثنين 21/2/ 2011

                                                 

ثقافة الدنيا وثقافة الاخرة وما بينهما
(1)

د. ناجي نهر

وبأختصار ، وبحسب ما هو متفق عليه بأجماع المنظرين والعلماء والمفسرين اللغويين فان تفسير مفردتي ثقافة الدنيا وثقافة الاخرة يعني : بان ثقافة الدنيا ترمز الى ما تعكسه حركة واقع العمل فى زمن محدد من علم وأفكار وتصورات وتقنيات تترجم بالتالي بلغة المرسل والمتلقي الى ما يتناسب مع التطبيقات والمتغيرات الموضوعية السائدة فى المكان ، لكي تستخدم كاداة ووسيلة ومنهجية لمعالجة متطلبات الحياة الحالية والمستقبلية على كوكبنا ، مع استمرارية الأنتباه والتكيف لمتغيراتها ، باعتبارها افكار ونظريات متغيرة ومتحركة منعكسة من حركة الواقع وليس منقوشة سلفاً في سماء العقل والتاريخ الأنساني .

وبحسب هذا التعريف ، فليس لفكر اونظرية ما أن تحافظ حتى النهاية على طراوتها الأولى ونقائها البدئي فهي بحاجة دائمة الى أن يجري تقويمها اولآ ثم تداولها وتقليبها وتأويلها بحسب مستجدات الواقع المتغير بعيدآ عن التمسك الدوغمائي بحرفية النصوص وتقديسها او الجمود عليها ، وإنما التعاطي معها من منظورالمتغيرات والتطورات الحادثة على صُعد الواقع التاريخي والموضوعي ، وبمؤازرة وتفاعل المناهج والنظريات العلمية العالمية المستحدثة والدروس المستخلصة من التجارب الحيّة بنجاحاتها وانتكاساتها ، مع إلأنتباه الدائم الى مسألة المتغيرات والصراعات والانحرافات والتبدلات الجارية عليها سواء كانت مواد او مجتمعات تتعامل بخصائص الأشياء المتحركة.

اما ثقافة الآخرة ، فتعرف بانها ثقافة التأملات المنقوشة سلفاً في سماء العقل والتاريخ الغيبي ، خارج وعي الأنسان وقدراته ، وهي ثقافة بدأت خاصة وفردية ، حولتها المصالح الى ثقافة مجتمعية ، ولذلك تعذر تعريفها بلغة محددة لتعدد الرؤى وتباين التصورات والتعاريف الى ما لا يحصى من الأجتهادات المبهمة المرتبة بدوغمائية سائبة معقدة ومفتقرة الى ابسط الشروط العلمية ، ويمكن تصنيفها بخانة (المعارف الساكنة) حمالة أوجه الأجتهاد والتأويل غير الموثق ، وقد رتش اصحاب (الملكية الخاصة) هالاتها بذكاء ، وقدسوا رموزها وصنعوها ، بهدف تبرير الظلم والفقر والأستغلال.

اما ثقافة (ما بينهما) ، فهي ، ثقافة (السياسة) التي اقحمت نفسها ما بين الثقافتين لأستغلال أفكار الأضعف منهما بشيطانية انتهازية محبوكة ومقبولة من الأكثرية ، من اجل تحقيق مصالح ذاتية ، لا تمت للأنسانية بصلة ، وقد وجدت ضالتها فى ثقافة الآخرة واستطاعت بالتالي من أستغلالها وكسب ودها وتسخيرها بل وصهرها فى بودقة أفكارها ، لتصبح ثقافة واحدة معبرة عن مصالح مشتركة للثقافتين [ثقافة الآخرة وثقافة الرأسمالية الموحدة] فى محاربة العلمانية ودحرها وتسفيهها ، كالذي فعلوه برموزها (سقراط) وما بعده.

غير ان ثقافة الدنيا العلمانية ، ظلت ولم تزل تناضل بضراوة وتحدي من اجل تفجير قوى كامنة اضافية يمتلكها الأنسان في داخله ، بامكانها تغيير نسبة ثقافة القوى المتصارعة لصالح الحداثة والتطويرالأفضل .

وهذا التغيير هو ما حصل بالضبط فى المجتمعات الغربية ، وبالتاكيد فان هذه المتغيرات ستعم مجتمعات العالم الثالث ، لأن واقع الحياة قد اكد على ان السياسة اذا ما انحازت الى صف العلم ومورست بعلمانية فسوف تتجاوز كل المعوقات والتداعيات ، وسوف تسرع فى ترسيخ مبادئ الديمقراطية والأفكار الأنسانية ، وبالفعل ، فقد تميز هذا العصر بالتنوير والحداثة ، وبرفض الافكار اللاهوتية ، منذ ان جرى ذلك فى المجتمعات الغربية قبل ثلاثة قرون خلت ، وادى إلى تعاظم الصراع بين العلم ودغما الكنيسة اولآ ، وكان من نتائجه ، ظهور العلمانية والاتجاه العلمي المادي والتجريبي طرفآ اساسيآ وحاسمآ فى الصراع بين العلم المادي وعلم الكنيسة الغيبي المختلق ، وبأثره فقد دخلت واستحوذت فكرة التقدم على اذهان فلاسفة القرن الثامن عشر ، اولئك الذين كانوا يسمون عهد ذاك بفلاسفة (المحرك الذي لا يتحرك) ومنهم : [ديكــارت وشوبنهاورو وهيجل وفردريك نتشــــــــــه وكارل ياسبيرز والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو والألماني كانط وفيورباخ وغيرهم] الذين وبأثر من افكار ماركس وانجلس المادية الجدلية ٌالمتفاعلة مع الواقع الملموس ، قد استطاعوا تغيير مفهوم التطور والتقدم بنظرياتهم التجريبية على اختلاف مضامينها العلمية ، وبرهنوا على ان ممارسة الأفكار فى الواقع المعاش سيبقى هو المقياس الأصلح وهوالفيصل فى التقييم السلبي أوالأيجابي لها ، وكذلك هو الفيصل فى أعطاء البرهان المقنع للآخرين على صحتها.

كما برهنوا كذلك على ان اختلاف الناس فى الفكر أو الممارسة ، لهو امر مقبول من جميع المدارس الفكرية ، باعتباره مؤشر دقيق على ما يتناقض أو يتناسب واختلاف مصالح مكونات المجتمع الطبقية والأثنية ، وتباين ثقافة الناس ، وتباين قراءاتهم لواقعهم الاجتماعي والمهني والاقتصادي والسياسي فى الزمان والمكان.

وبرهنوا كذلك على ان تداعيات هذا الاختلاف كانت وما زالت وستبقى الى امد طويل تشكل قضية معقدة ومربكة للناس أفرادآ ومجتمعات ، وتتطلب معالجتها جهودآ استثنائية متوازنة ، قادرة على استقطاب نضال الأفراد والشعوب وقياس زخم مسيرتها الكفاحية فى السلب والأيجاب .

ولكننا ، ومن اجل وضع مسيرة الأنسان فى الطريق السليم ودفع طلائع المناضلين والباحثين والمختصين وذوي النفوذ والسلطة الى العمل الصالح ، لا بد من التوجه العلمي الموثق لدراسة الظواهرالمختلفة المحيطة بولادة أية ظاهرة (اجتماعية ، تقنية) والتحقبق الدقيق فى اسباب ولادتها وصلاحية البيئة التي ولدت فيها وارتباطها بالظواهر الأخرى ، وحساب الأثر المتبادل بينها وبين سلفها من الظواهر وما فى الجميع من سلب وايجاب ، من اجل استنباط الجديد القابل للتطبيق.

لذلك فأن دراسة تاريخ البشرية كان دائمآ يعتمد على الوقائع الماديةً ، ويفشل تحقيقه اذا ما اعتمد على الأحداث المتخيلة والأفكار الأنتقائية ، ومزج الثقافات العلمية بالفلسفات الأخرى بضبابية مربكة . فالباحث الأجتماعي حين يزعم أنه ينتسب إلي العلم فإن ذلك لا يعني أن لديه تصوراً علمياً مسبقآ ومحددآ للعالم لأجتماعي الذي يعمل على اصلاحه ، او انه سيكتفي بوصفه ونقده وتحليله او انه سيرتضى لنفسه ان يظل أداة للبحث العلمي الروتيني وحسب ، بل لا بد ان يكون قادرآعلى استباق الزمن والتفاعل مع احداثه وأختبار علمانيته بالأستنتاج والأستقراء من اجل التطوير والمعالجة الشافية لواقع حاضره ، والتحضير لصيانة وتطوير مستقبله.

ولذا فان الباحث الإنساني والسياسي الحاذق برغم صعوبة مهمته التحليلية لواقع معقد وخطر ، سيظل يفتش فى أفق الظواهر عن أستنتاج نقاط ألتقاء فكرية منها ما هو موسوم بالرمزية احيانا وبالواقعية احيانا اخر ، لغرض التوصل الى نقاط ألألتقاء هذه ، بهدف اتاحة الفرصة لألتقاء النظريات والأفكار المتناقضة من جهة وبين المفكرين المتناقضين فيما بينهم من جهة اخرى ، وعلى ارضية العلم وحسب ، بهدف تيسير مسيرة التطور بسلام ، لحين انفراد العلم لوحده بمهمة قيادة الحياة .

ولذا كان بيت القصيد فى هذا الجزء من المقال ، هو أن يتمكن السياسي فى بلدان العالم الثالث بخاصة من وعي هذه المتغيرات ، وباعتماد العلم وحده فى تحليل الظواهر ومعالجتها ، ليتمكن من الفصل فيما بين ثقافة الدنيا وثقافة الآخرة ، ولكي يستحق لقب الأنسان العصري بحق ، ثم لكي لا يدفع نفسه ومجتمعه الى التهلكة.

يتبع


 

free web counter