| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

نجم خطاوي

 

 

 

السبت 22/7/ 2006

 

في انتظار الربيع

انطباعات أولية عن رواية (المطاردون) لمؤلفها كفاح حسن(ملازم كريم)

نجم خطاوي

يجب علي القول أن قراءتي الأولى لهذا النص القصصي كانت منحازة وعاطفية لسبب بسيط جدا هو أن جميع شخوص الرواية كنت قد تعرفت عليهم هناك في الجبال وسط تلك الأجواء التي استلهمها المؤلف في كتابة عمله الذي اسماه بالرواية التسجيلية . ليس هذا وحده , بل أن في مخيلتي الكثير من الأفكار والصور المشابهة لهذا العمل التي أردت نقلها للناس عبر الكتابة ولكني أعجز في كل مرة عن كتابتها , والتي أملت علي الانحياز للعمل منذ الوهلة الأولى لقراءته .

حين قراءتي للأحداث في المرة الأولى تخيلت نفسي وكأني أكتب هذا العمل في نفس اللحظات التي كنت أقرأ فيها , وهذا ما منحني متعة القراءة وتخيل الكتابة افتراضا .

في المرة الثانية قرأت (المطاردون) بضم الميم وفتح الراء , بروية وهدوء دون أن أدع لعواطفي التحكم في الأثر الذي تتركه القراءة على العقل .

لا أدري لماذا أخذتني الذاكرة بعيدا لمدينتي الكوت مع مفردة(مطاردون) . لعل الذاكرة قد عادت بي إلى (رشك) وهو يسير متبخترا كالديك في حارتنا, بصلعته اللمعة وقامته السمراء الطويلة مناديا بأعلى صوته أمام لوحة خشبية عريضة فيها صورة دعاية كبيرة للفلم الذي سيعرض في سينما (سيد سلوم) , يرفعها خلفه شابان .

وهذه التسمية المطاردة والمطاردون والطريدة تروق لمنتجي الأفلام لوقعها المؤثر على سماع المستمع . لكن (كفاح) لم يخطأ الخيار حسب تصوري .

قارئ الرواية سيجد أحداثا مثيرة ولحظات قلق وخوف وموت وقوة وضعف هي أقرب إلى يوميات الفلم السينمائي ذو الإثارة . وهذه الطريقة التي استخدمها المؤلف في قصه السهل البسيط , لم يقحمها في النص , بل جاءت بشكل انسيابي وطبيعي وبدون رتوش .

لقد ساعدت الطبيعة الكردستانية بصورها المدهشة الكاتب على الغرف من مفرداتها اليومية الغزيرة . ولم تكن هذه المغامرة غريبة على الكاتب وهو الذي عاش وسط سفوح وجبال وسهول هذه الطبيعة . طبيعة الناس , والحياة وقسوتها في الجبل , كانت معينا للعمل , بحيث منحت مفرداتها اللغوية التي تحكي عن اللحظات الانفعالية لكل حركة وفعل عبر شخوص وأبطال الكتاب الأربعة عشر القدرة على استجماع المفردات وتشكيلها ثانية بصور مبهرة .

أحداث الرواية تدور في منطقة جبلية في جبال كردستان العراق(جبل كوسرت) , وبالتحديد ( في شهر آذار عام 1989 , في واحدة من أعقد المراحل التي مرت بها الحركة الأنصارية في كردستان بعد انتكاستها العسكرية-السياسية, مع بوادر ميلان الحسم العسكري في الحرب العراقية-الإيرانية لصالح العراق وتوقفها في آب 1988) .

منذ دراسته الجامعية طالبا في كلية الاقتصاد في بغداد , اهتم المؤلف بالصحافة والكتابة الصحفية , لكن مستلزمات الكتابة الأدبية تبقى غير الكتابة الصحفية من حيث العدة والتجربة والصعوبة . ولو أخذنا بنظر الاعتبار كون (المطاردون) هي باكورة نتاج الكاتب , يمكن القول انه قد استطاع أن يجتاز العتبة باتجاه عالم الكتابة الرحبة , بشرط الرغبة والإرادة على المواصلة والإبداع لاحقا .

إن كتابة رواية هو عمل كبير يستلزم باع وتجربة وخبرة أدبية . و الكتابة عن أحداث قريبة من القلب , وعاشها الكاتب , تبدو أحيانا مرهقة وعصية (كأنني أحاول تحنيطها على السطور) ,كما عبر الكاتب نفسه في مستهل كتابه . وسواء اسمينا الكتاب بالرواية أم القص الأدبي , أم(الريبورتاج الصحفي الواسع) , حسب تعريف الكاتب , تبقى (المطاردون) قد قدمت لنا عملا يقترب من أوليات النص الروائي . فهنا نشاهد استخدام مفهوم ومدروس للمكان عبر توظيفه الغير قسري لخدمة النص . صحيح أن تصاعد الحدث دراماتيكيا لم يقتصر على بطل بالذات , بحيث ظهر العمل وكأنه تجميع لمجموعة أحداث وذكريات لمجموعة شخوصه وأبطاله . لكن هناك فعل مقصود من الكاتب , وكأنه يريد أن يقول لنا , ليس هناك من بطل محدد ولا آخر ذو دور ثانوي , الجميع يشكلون أجزاء متكاملة في وحدة وعناصر اللوحة .

والمكان هنا يكاد يتمازج بشكل منطقي مع تطور الحدث وتصاعده زمنيا ودراماتيكيا . وهذا التمازج بين المكان والشخوص جاء سلسا ودون مصوغات ورقع وحشو, قد يلجأ إليها الكاتب أحيانا مضطرا . لقد تمازجت هذه العناصر مع زمن وقوع الحدث الذي لا يتجاوز أيام قليلة معدودة تبدأ من لحظة كشف العدو لهم واضطرارهم لترك مكان اختفاءهم الكوخ ..

( رفاق ! إننا مطوقون , ال(جاش) فوق (كوسرت), الكل يهيأ نفسه, سلاحه , حقيبة الظهر, ولا تنسوا الخبز ...)

وحتى الحديث الأخير للنصير(كامو) آخر المتحدثين , وبعد التئام شمل من تبقى من رجال المفرزة الأنصارية ....

( نادى (مام جوامير), لكي نتهيأ للحركة ... أطلقت العنان لعيني للنظر إلى (باواجي) و(هيبت سلطان), كأنني سأفارقهما إلى الأبد ) .

لقد كان لوعي الكاتب وانحيازه الفكري أثرا واضحا في رسم صور شخصياته .

وحتى في اللحظات التي يعبر فيها رجاله عن خلجات وأفكار لا تنسجم مع قناعته هو نفسها تراه يختار بدقة وعناية تلك الصور والمواقف .

وأظن هنا أن أسبابه في ذلك تكمن في محاولة حشد الكثير من الوقائع والأفكار والتصورات والحجج التي تكمل النص وتبعده عن مطبات الخوض في تفصيلات ثانوية قد تفقده متعة الإثارة والواقعية .

هنا الوصف الخارجي لأبطال وشخصيات الرواية لم يكن وليد تلك اللحظات التي عاشها المؤلف نفسه مع أبطاله قرب عين الماء(نبع الشهداء) , بل عبر سنوات من المعايشة اليومية عبر تفصيلات الحياة بكل صغائرها , والعيش سوية , والأكل في صحون مشتركة , وغيرها الكثير , الذي وفر للكاتب مادة غزيرة ووفيرة ومتوهجة خرجت عبر مفرداتها صفحات روايته .

إن أبطال الرواية وهم يتحركون في لحظات الحدث ويعبرون عن لحظات الخوف والموت والمفاجأة والتحدي والاستشهاد , تراهم في نفس القدر يسترجعون ذكرياتهم وتاريخ التفاصيل الصغيرة في طفولتهم , وجور الأغا الإقطاعي , ولحظات العشق البريئة , والأمهات الحزانى , والقرى المحروقة , وإلى آخره من تفصيلات .

إن الفلاش باك هنا غير مفتعل وليس مملا سوى في بعض الأحيان , في حديث (عولا رشاش) مثلا , وبشكل غير محسوس . لقد وظف الكاتب الأحداث القديمة التي مرت في تفصيلات حياة أبطاله بشكل ذكي خدم نصه كثيرا , دون الوقوع في فك الاستذكار الغير مجدي أحيانا . ليس الرجوع للماضي وحده كان يحرك هؤلاء الفتية الحمر في تلك الجبال القاسية في كردستان العراق , بل أحلامهم والصور التي رسموها عبر إصرارهم على البقاء والتحدي , ورغم عدم قناعة بعضهم بالعمل الذي كانوا يقومون به , في بقائهم منعزلين ولفترة طويلة عن البشر والناس والحضارة .

يقول أحد أبطال ( المطاردون ) وهو قائد المجموعة(جوامير) :

(لقد ارتبطت حياتي بالسلاح وال(بيش مه ركه) , منذ أن صحوت على الدنيا يتيما ... لا أستطيع تصور الحياة بدون سلاح وبدون ( بيش مه ركه ) .

وهو يعبر بصورة مؤثرة عن تعطشه للعيش في حياة تليق به كإنسان بعيدا عن القمع وسلب الحرية , وعن معاناته مع جور أهل النفوذ والسلطة في القرى من الأغوات والإقطاعيين الذين اضطروه وهؤلاء الفتية على حمل السلاح والمقاومة .

في الكتاب الكثير من الأفكار التي دونها الكاتب والتي تخص معاناة الثوار والناس من قضية التقاتل بين الأخوة والفرقاء , وما سببه هذا الاقتتال من مآسي وويلات وخسائر .

لا يبقى لي في عرضي المتواضع هذا سوى الثناء للكاتب على الجهد الطيب الذي دون فيه مآثر وبطولات الشيوعيين العراقيين الأنصار البيش مه ركه وهم يخوضون غمار أقسى وأصعب تجربة كفاح مسلح ضد ترسانة وقهر نظام صدام الدموي المقبور .

 


 


 

free web counter