| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

نبيل يونس دمان
nabeeldamman@hotmail.com

 

 

 

الخميس 8/5/ 2008

 

مار يوسف اودو والفرمان العثماني

نبيل يونس دمان
nabeeldamman@hotmail,com

على بعد امتار من بيت البطريرك يوسف اودو ( 1793- 1878 ) وُلدت قبل اكثر من خمسة عقود ، ومنذ طفولتي وفي كل مناسبة دينية ، كانت والدتي تطوف بي حول قبره داخل كنيسة دير السيدة حافظة الزروع ، حيث تزين مرمره الفاخر، صورته التي ابدع الفنان في رسمها ، وهو بعمامة الجاثليق التي سادت في القرون الماضية .
هكذا كبرت مع الايام وازدادت رغبتي في المطالعة ، عن تلك الحقب من تاريخ المنطقة ، وفي الصدارة بلدتي الشامخة منذ الازمنة السحيقة ، ولازالت تقاوم صروف الدهر، الذي ما برح يؤلم قلوب النهرينيين ، في طول البلاد وعرضها .
مار يوسف اودو ، سليل مهاجر من تخوما في اقليم حكاري (تركيا اليوم ) حيث الاستقلال وروح المقاومة والبسالة ، استقبل ذلك المهاجر في القوش بالإحترام والارتياح ، لضلوعه في علوم الطب الشعبي ، وهكذا تسلسل من تلك العائلة ، اناس طبقت شهرتهم المنطقة ، واصبح لقب عشيرتهم ملازما لتلك المهنة .
في صغره صعد مع والده اسحق الى دير الربان هرمزد ، ليبتدأ حياة الزهد والعبادة ، ملبيا ً نداء ربه في الانخراط بالرهبنة عام 1812، فاعتكف في احدى صوامع الجبل المهيب ، زاهداً ، متأملا، وهو يتلقى دروسه الاولى في حياته الجديدة ، على يد الأنبا المارديني جبرائيل دنبو الذي افتتح الدير عام 1808 بعد انقطاع طويل ، بسبب حملة نادر شاه ( طهماسب ) الشديدة الوقع ، والخلافات المذهبية التي اججتها تدخلات المبشرين . في تلك الاجواء نشأ متاثراً بالتجديد الذي ادخله الأنبا جبرائيل دنبو ، ثم تدرج في الرتب الكنسية كاهنا عام 1822، ومطرانا عام 1825.
وفي نيله لرتبته الاخيرة ، تشاء المصادفات التاريخية ان يكون امامه منافسا ً، واقفا كالطود في طريق رغباته ، ذلك هو المطران ( البطريرك فيما بعد ) يوحنان هرمزد ( 1760- 1838 ) من نفس البلدة ومن بيت ابونا العريق ، اصبحت تلك المواهب التي امتلكها الطرفان وقوداً لصراع مذهبي استمر سنيناً طويلة ، فقسّم البلدة الى قسمين مختلفين ، وتوسع الجدل والخلاف ليصل الى القرى والبلدات الاخرى ، لتكون عاصمة الولاية الموصل ساحته الكبرى والحاسمة ، والكثير سمع بحزبي الطائفة : يوحناني واليوسفي نسبة الى اسميهما ، ولسنا بصدد الكلام عن نشأت مار يوحنان هرمزد ، والظروف التي ادت الى تحوله الى المذهب الكاثوليكي ، الوافد عن طريق الدعاة الغربيين ، وبمساعدة دول قوية ، برزت في العالم اثر الثورة الصناعية في اوربا ، وفي المقدمة ايطاليا وفرنسا .
صار الصراع بينهم شديدا، وكان القس كوركيس يوحانا والقس الراهب دميانوس كونديرا ، عاملان مؤثران في سير كنيستنا ، والتي اصبحت على ابواب الافتراق التاريخي عن كنيسة الأم المشرقية . عندما نسب المطران اودو الى ابرشية العمادية التي كانت تشمل دهوك ، عقرة ، وزاخو ، ودير الران هرمزد ، كان البطريرك المثير للجدل مار يوحنان هرمزد يعرقل ذلك ، واستطاع ان ينسب اليها قريبه مار ايليا سفرو المرسوم مطرانا في قوجانس ، وحدثت تدخلات من باشا العمادية لصالح هذا الطرف او ذلك ، وسجن على أثرها المطران اودوا مراراً في سجن القلعة ، وفي الموصل ايضا ً ، يطول الكلام كثيرا في هذا الموضوع والذي لا يتسع المجال للخوض في تفاصيله .
نظرا لعلو مقام مار يوسف اودو، ونشاطه الدؤوب ، ومواهبه ، استطاع ان ينال البراءة السلطانية اي الوثيقة او العهد ، يعرف كتاب بابو اسحق امثال تلك الوثيقة ، بالشكل التالي ( السجل او كتاب العهد او المنشور العالي او البراءة الامامية فكان يشتمل على الحقوق والامتيازات التي تمنحها السلطة المدنية الجاثليق وتخوله الحق في مراجعة السلطات في الشؤون المتمثلة بالطائفة النصرانية ) * . لقد دأب الباب العالي على منح تلك الفرمانات الى النحل والملل في ارجاء امبراطوريته والتي كان بعضها يخضع لاهواء السلاطين ، ومن ثم يسهل نقضها بين مدة واخرى بحسب الأمزجة ، والنفوذ ، ووضع الدولة . من الجهة الاخرى كانت كل الشعوب المنضوية قسرا الى تلك الدولة ، تسعى في الخفاء والعلن للتخلص من تلك الهيمنة ، وهكذا وقعت انتفاضات وتمردات ، قمعت معظمها بشدة ، والغاية منها ابقاء سيطرة الدولة المستعمرة ، لجني الاموال والضرائب ، ولسوق المجندين من الشباب الى جبهات حربها ، التي لم تتوقف على مدار القرون من حكمها.
في اوائل القرن التاسع عشر، بزغ نجم قبائل راوندوز ، عرف منهم الأمير مصطفى الذي ادار الدويلة بحكمة وقوة ، فانكسر الجيش الايراني امام صموده في قلعة راوندوز فوق جبال زاغروس الشاهقة ، كما وعجز البابانيون عن قهره ، فعقدوا معه صلح مصاهرة ، وعند وفاة مصطفى بك عام 1926 ، انطلق ابنه محمد الاعور ( ميري كور ) وفي نيته التوسع ، فقتل عمّيه في الحال ، واخضع قبائل البرادوست والشيروان وطرد الحاكم الباباني من حرير ، واخذ رانية وكوي وألتون كوبري، واربيل ، حتى اضطر والي بغداد علي رضا امام تلك التوسعات ، ان يعترف به ويمنحه الباشوية ** ، وظل يرقب عن كثب فرصة الزحف باتجاه بهدينان ، وفيها الامارة الكردية التي مركزها قلعة العمادية ، وتضم دهوك ، عقرة ، زاخو ، والدير .
في بداية الثلاثينات من القرن التاسع عشر قامت عداوة بين أغا المزورية وامير الأيزيدية ، فتوسط للصلح بينهم اسماعيل بك حاكم عقرة ، فاقنع الامير الأيزيدي علي بك بزيارة الأغا المزوري الذي مقره في قرية بالطة (بالاتن) ، ثم امر الأغا برد الزيارة ، وفي تلك الفترة الفاصلة اتفق سعيد محمد طيار ، باشا العمادية سراً مع الامير الايزيدي بقتل الاغا ، وهكذا في الليلة التي كان الاغا ضيفا في باعذرى مقر الامارة ، اغتيل علي أغا وابنه سنجان اغا . هنا طار رشد مُلا بهدينان المعروف يحيى المزوري ( 1772- 1838 ) ، لكون المقتول عمه ، فغلا الدم في عروقه للانتقام من امير الايزيدية ، وكل محاولاته اقناع حاكمي العمادية وعقرة باءت بالفشل ، وادرك بدهائه ضلوع الأخيرين في المؤامرة ، واعقب كل ذلك مقتل ابن المُلا يحيى الملقب ملا عبد الرحمن على يد احد خدام سعيد باشا ، مما حدى بالملا الاستجارة بباشا راوندوز الطموح محمد الأعور، اصطحب معه لتلك الغاية موسى بك المنافس لشيقه باشا العمادية . كانت تلك فرصة الباشا الراوندوزي الذهبية ، حيث افتى الملا يحيى بمحاربة الايزيدية ، وكانت كلمته مسموعة في بهدينا وغيرها ، وترقبوا عن كثب اندفاع باشا العمادية لمناصرة الايزيدية ، لتكون الحجة قوية وفي مكانها لمحاربته ، بدعوى وقوفه مع الكفار .
تحرك الجيش السوراني الجرار ، وهو معد جيدا وبحوزته مدافع صنع قسم منها محليا ً ، فقسم الى نصفين قاد الباشا نصفه والنصف الاخر قاده شقيقه رسول بك ، طاردوا الايزيدية في كل مكان ، من جبل مقلوب والشيخان ، وزاخو وطور عابدين والجزيرة ، فمحقوا قراهم عن بكرة ابيها ، وسبوا نسائهم ، هنا تحركت جيوش البهدينان لمناصرة الايزيدية ، وعند مجابهتهم السورانيين لم يصمدوا طويلا ، فصارت الذريعة بيد باشا راوندوز ، فاحتل عقرة واخضع الزيبار وحاصر العمادية . وفي ذروة القتال ضد الايزيدية ، إلتجأ اميرهم الى القوش ، عندها ملأ الملا يحيى الدنيا صراخا ً ، محرضا الباشا لضرب القوش ، كسر شوكتها ، سلب ذهبها ، وسبي نسائها ، كل ذلك حلله الملا يحيى المزوري ، مما أغرى واطرب الباشا الأعور المتعطش للدماء .
معذرة للقراء في إقحامهم بسرد تاريخي قد يمل منه البعض ، لكنه السبيل للاقتراب من الحقيقة ما امكن ، اما إدراكها فضرب من الخيال . المطران اودو نتيجة تواجده في العمادية ، فقد كان قريبا من الدوائر الحاكمة ، ودائم الاتصال بها ، كما وكان يتابع بحكم موقعه وضع الدولة العثمانية ، فكان وفقا لذلك يعرف قوة الفرمان الذي معه ومدى تأثيره . بالنظر لبعد مركز الدولة عن مناطق الاحداث الساخنة ، وصعوبة وصول جيوشها ونجداتها في الوقت المناسب ، فقد كان الولاة والبكوات والباشوات في تغير دائم ، ليس وفقاً لفرمانات الدولة ، بل على العموم وفق منطق القوة ، فكم من طاغية صعد الى الحاكمية بالشدة التي اتبعها ، وبدرجة اضطهاده لعموم الناس ، وغالبية الحكام لقوا حتفهم بالدسائس والمؤامرات ، وقسم منهم اختلفوا وتقاتلوا حتى وهم من اسرة واحدة ، فكيف ترى في تلك الظروف والاحوال ، لزاماً على المطران اودو ان يتصرف ؟
عندما عجز والي الموصل مصطفى باشا عام 1757 ( عن سلب المسلمين دراهمهم ، عمد الى النصارى واليهود المسيحيين واليهود مطالبا اياهم بمبالغ كثيرة بحجة انهم عمروا كنائسهم بعد حصار الموصل من قبل الايرانيين بدون استحصال الاجازات اللازمة ، ولم يفدهم للتخلص من هذه النقطة إبراز الفرامين المستحصلة من الباب العالي والمعطاة لهم لهذه الغاية ) ***. كان المطران اودو يدرك بأن فرمانه لا يجدي نفعاً ، امام مايحدث امامه ، وخصوصا المجازر الوحشية ، ضد جيرانه الايزيدية ، فلا فرق ان ابرزه او اخفاه لان الدولة نفسها تفتقد الى الاحترام والهيبة ، من قبل الباشا محمد مصطفى الراوندوزي . ومع ذلك عندما اطمأن المطران الى الجاويش عبدالله ، أبرز الفرمان ، وكان بمعيته أخيه اسحق ، وابن اخته الكهية يوسف رئيس على مياه ( كرّو ) خلف جبل القوش ، فاخذه الجاويش الى الباشا المخيم فوق تل المقابر ( رومه ) شرق البلدة . كان الباشا للتو قد قتل المئات من الابرياء ، والعديد من رجال الدين وفي المقدمة الأنبا جبرائيل دنبو ، وتخريب البيوت ، وتدنيس المقدسات . في تلك الاجواء الممطرة دماً ، وقف المطران اودو ، مرتجفاً امام خيمة الطاغية ، الذي باستطاعته قطع المطران بالسيف كما تقطع قطعة الجبن ، لكنه تمهل قليلا ً، واستمع الى كلماته المؤثرة ، التي اثارت الشفقة ، فاصدر اوامره بوقف القتل ، وارجاع المنهوبات ، والصبايا والاطفال ، والدعوة لرجوع المشردين الى بيوتهم ، اذن ! هل كان المطران سبباً في ماحدث ؟ ام انقذ ما تبقى ؟ اترك الاجابة للقراء .
لمن اراد مواصلة قراءة الاحداث ، عن تلك الايام الصعبة ، فالنظر الى السنوات التي اعقبتها ، هي الجواب لكل طاغية أرعن ، في كل زمان ومكان ، تسوله نفسه قتل الناس دون رحمة او شفقة على المرضى والمسنين والاطفال ورجال الدين :

القوش :
فقد نهضت من تحت الانقاض التي خلفها السورانيون ، وقام منها رؤساء بلدة طارت شهرتهم في الافاق ، منهم (أيسفي كوزل) الذي كان يعين ويعزل الاغوات في المنطقة .

البطريرك مار يوسف اودو:
نال الاوسمة العالية ارتباطا ، بسيرته المستقيمة ، وتاريخه المشرف ، والتفاف الناس حوله ، منها وسام عالي شان من السلطان العثماني عبد العزيز ، وحظي باستقبال ملك النمسا ، وخديوي مصر .

علي بك امير الايزيدية :
ذهب ضحية المؤامرات واحلام السطوة والسيطرة لحكام ذلك الزمان ، طورد في القوش ثم في الموصل التي حوصر مع خيرة رجاله في تل قوينجق بالجانب الايسر من دجلة ، وعند محاولته عبور النهر والوقت شتاء ، رفع الموصليون الجسور ، فاصبح تحت رحمة السورانيين الذين فتكوا برجاله واوقعوه اسيرا ً، وبعد مدة ارسل ميري كور اخيه رسول الى راوندوز للدفاع عنها ، وقبل الوصول الى قلعتها قتل اسيره ورماه في مضيق زلزالي من جبال زاغروس ، ومنذ ذلك اليوم خلد التاريخ العراقي إسمه ، الذي اصبح معلماً سياحيا ًمعروفا ً ( ﮔلي علي بك ) .

محمد باشا الراوندوزي:
انهزم امام زحف قوات الصدر الأعظم للدولة رشيد باشا مع قوات محمد اينجة بيرقدار باشا الموصل ، وقوات علي رضا باشا بغداد ، وتحصن في قلعة راوندوز ، ثم استدرج بمكيدة ليرسل بعدها الى استانبول ، واثناء عودته الى امارته قتل قتلة شنيعة في ولاية سيواس .

الملا يحيى مزوري:
عند انحسار قوات السورانيين وعودة باشا العمادية سعيد محمد طيار، هرب باتجاه ( حصن كيفا ) ولكن قبض عليه في سنديا ، كما والقي القبض على تلميذه ملا قاسم المايي وسملت عيناه ، كانت حياته في خطر ، عندما مثل امام باشا العمادية ، لولا تدخل الشيخ محمد العقراوي ، الذي كان الباشا يحترمه كثيرا ً، لذلك أبقاه ، ولكنه لم يستسغ البقاء في بهدينا ، فقصد بغداد وتوفي فيها غريباً عام 1838 .


الهوامش
*
صفحة 51 - أحوال نصارى بغداد - رفائيل بابو اسحق – مطبعة شفيق – بغداد 1960 .
** صفحة 271 - اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث –لونكريك - ترجمة جعفر الخياط – دار الكشاف بيروت 1949 .
*** صفحة 47 من كتاب " الموصل في القرن الثامن عشر ـ تعريب القس روفائيل بيداويد – المطبعة الشرقية الحديثة في الموصل 1953 .

المصادر :
◄ القوش عبر التاريخ - المطران يوسف بابانا - بغداد 1979.
◄ سفر القوش الثقافي – بنيامين حداد - بغداد 2001 .
◄ الرئاسة في بلدة القوش – نبيل يونس دمان – اميركا 2001 .
◄ العراق عام 1820 - جيمس ريج – ترجمة بهاء الدين نوري - مطبعة السكك الحديدية – بغداد 1951 .
◄ الاكراد في بهدينان – انور المايي - الطبعة الثانية دهوك 1999 .
◄ الاشوريون بعد سقوط نينوى – هرمز ابونا - شيكاغو 1999.

USA 2008
 



 

Counters