| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

نبيل عبدالأمير الربيعي

 

 

 

                                                                  الخميس 22/11/ 2012



ودعاً يا أبن الجنوب ...الشاعر مهدي محمد علي

نبيل عبد الأمير الربيعي

أهديك باقة وردة حمراء لذكرى رحيلك يا ابن الجنوب ... لتكون ذكرى عطرَه ... لي إيمان بحق إنك تعيش فينا وبيننا...يا ابن البصرة الفيحاء ,التي كانت يوماً ما مسرحاً للأدب والموسيقى والمنتديات الثقافية التي لمعت من خلالها أسماء في جميع مجالات الأدب والشعر والفن والسياسة ,تلك المدينة التي ذابَ الشاعر في أحيائها مُذّ وعاها حتى غادرها قسراً إلى المنافي نهاية السبعينات بعد فرط عقد التحالف , كانت النوارس تطوف على شاطئها أسراباً أسرابا , وبساتين ممتدة تحوي أشجار النخيل والحمضيات وأشجار البمبّر , هي جنّة الشاعر , عشقها لتأريخها وتراثها , فقد تألقت من هذه المدينة قامات باسقة في الأدب والشعر والفن بأنواعه , مثل نخيل مدينتهم , مهدي محمد علي ذلك البصري الذي عَبرَ من سُدّم تواريخها إلى تخوم المستقبل .

في أبو الخصيب ولد الشاعر مهدي محمد علي عام 1945 وتخرج من مدارسها وكانت آخرها إعدادية الكفاح , حيث درس مع زملاءه ( حيدر الكعبي وسعود عبد العزيز السياب وأياد مروان عبد المجيد وسحاب عبد العزيز وآخرين ) ثم أكمل دراسته في كلية الآداب جامعة بغداد وتخرج منها عام 1968 , مارس التدريس في مدارس الحلة والبصرة , وقد نشر أول قصائده عام 1961 ,لكن استخدام سلطة النظام القمع ضد قوى اليسار والقوى التقدمية عام 1978 مما أدى إلى هروبه من العراق عبر بادية السماوة في رحلة كانت بواسطة النقل ( الجمال) زهاء أربعة عشر يوماً , مع صديقه الشاعر عبد الكريم كاصد حتى وصولهم دولة الكويت متخفياً في صحراء البادية , وفي هذه الدولة احتجز الشاعر حتى تم انتقاله إلى اليمن الديمقراطية وقتذاك بجواز سفر منتحل , حيث عمل في جريدة الثوري اليمنية وشارك كصحفي يماني في مؤتمر الحزب الشيوعي الكوبي المنعقد في العاصمة هافانا.

ثم رحل إلى مدن شتى متنقلاً في المنافي إلى أن استقر في مدينة حلب السورية منذُ بداية الثمانينات , وقد وثق رحلته بقصيدة :

في أول هذا العام
غادرت الوطن بزيّ بدويّ
وعبرت صحاراه على ظهر بعير
في قافلة من رحل ورياح
ونياق وأدلاّء
ورجال تبحث عن رزق ما بعد الصحراء
سبعة أيام بلياليها
لم نعرف غير ذلول ليل
وسماء و رمال
وصحارى تصفر فيها الريح
في آخر هذا العام حلمت:
إني أرحل نحو الوطن المغلوب
بقطار تحت الأرض
يمرّ بأحياء تحت الأرض ومحطات
تكتظ بأعداء وعيون جواسيس

.................

لكني...
قابلت أخي في زاوية الشارع
عجلاً , أتلفت
ودعت أخي و أفقتُ
تذكرتُ
بأني لم أرَ أمي في الحلم

حاول الشاعر إكمال دراستهُ في موسكو لكنهُ غادرها نحو سوريا , عمل بمجلة الهدف الفلسطينية وتزوج من رفيقة دربه (المهندسة نضال عبد الكريم) بعد أن التحقت به برحلة من موسكو إلى دمشق وأنجبا بنت اسمها أطياف, تحت ظروف معيشية صعبة رحل إلى ليبيا لغرض العمل وكانت هذه المحطة أكثر قساوة , حيث عمل الراحل في مدينة بنغازي كمدرس في معهد إعداد المعلمات , ثم عاد إلى سوريا واستقر في مدينة حلب.

أصدر الفقيد العديد من المجاميع الشعرية والمقالات والدراسات , وكانت أولى مجاميعهُ الشعرية ( رحيل ) عام 1978 و (سر التفاحة) عام 1987 و ( شمعة في قاع النهر) عام 1995 و ( خطى العين)عام 1995 و(قطر الشذى )عام 2008 , ولهُ كتاب نثري خصصهُ لمدينتهُ الأولى بعنوان ( البصرة .. جنة البستان ) , وقد عملَ الفقيد مسؤولاً عن القسم الثقافي في مجلة الثقافة الجديدة لأكثر من عشرين عام. في لقاء مع رفيق دربه الشاعر عبد الكريم كاصد يقول " إنهُ كان مدرساً في الحلة والبصرة وكان همهُ الشعر فقط , كانت آخر خاطرة كتبها ليلة وفاته ستنشرها زوجته نضال عبد الكريم في الثلاثين من هذا الشهر بمناسبة مرور عام على رحيله.

لقد شارك الفقيد بعد التغيير عام 2003 في المربد الثاني , وقد ذكر الشاعر هاشم شفيق في (كتاب في جريدة) حيث حاورهُ , يقول الفقيد " إنني شجرة في حديقة عامة أنتظر أن يلتفت أليّ أحد العابرين فينبه عابراً آخر فآخر .. حتى يقبل الناس نحوي" , وتذكر وداد فاخر في مقال بعنوان (مهدي محمد علي يا طائر الورشان البصري) وداعاً , حيث تذكر الفقيد بهذا المقال "عرفتك أيها الورشان البصري الجميل رائعاً في كل مواقفك وأفكارك .. ويوم التقينا في خليتنا الحزبية منتصف سبعينات القرن الماضي , كانت البسمة لا تفارق شفاهك والنكتة العفوية ملازمة لكِ في حلّك وترحالك ... عندما تفرقنا أيدي سبأ كما يقال هرباً من سيف الجلاد الذي لا يرحم , وغاب كل عن الآخر لنعيش عوالم جديدة بعيداً عن هَسيس سعفات النخيل على شطئان نهر الخورة والعشار .. ولأن جموع الورشان الجميلة تختفي بين سعفات غابات النخيل في البصرة عند أول لفحة برد تجتاحها , لكني لا أعرفها طيوراً مهاجرة , فكيف استعجلت الرحيل أيها الورشان الجميل " .

الفقيد كان لم يهادن طوال حياته المؤسسات السلطوية التي عملت وما زالت على تدمير منجزات الثقافة العراقية المتنوعة والمتعددة عبر توجهاتها المعادية والقاسية لكل جميل ومبدع , فقد اصطف مع السلطة بسبب الترغيب والترهيب بعض المثقفين والأدباء , فماذا على الجماهير أن تفعل وهي تجد نفسها مخيرة بين مثقف وآخر محسوبين عليها , هؤلاء المثقفين كانوا يحملون على الأكتاف ليصلوا لمواقع السراب وليحققوا غاياتهم ومصالحهم , لكن البعض بقوا بعيدين عن عيون السلطة , أما صامتين أو متوزعين في المنافي.

للفقيد مهدي محمد علي يردد دائماً مقاطع من شعر لنازك الملائكة منذ أكثر من أربعين عاماً لقصيدة بعنوان (بئر) :

أتذكر صندوقاً كبيرا
كنت اكنز فيه مئات الصحف
وقصاصات الأوراق
وأشياء أخرى
أتدلى فيه كما أتدلى في بئر
بحثا عن صحيفة قديمة
أو قصاصة ورق
أو تلبية لعبة طفل
بحثا عن أجزاء لعبة محطمة
لقد ابتعد الصندوق
ابتعدت غرفتي
وابتعد الوطن

كانت الأبيات تذكره لعاشقة الليل ورائدة الحزن الذي استمر حزنها وليلها الطويل , فراحت تتفنن بالحزن والليل , فكان حزنها الخاص يستولد أشكالاً شعرية مختلفة .

كانت قصائد الراحل في المنفى تتصف بوقائع الحياة اليومية في ذلك المنفى , ثم تتناول قصيدة فيها عبودية المرأة بعنوان ( بستان) :

مذُ غادرني البستان
صرت أحاوله في بيتي
في سطح إذ يوجد
أو في الغرفة
أو فوق الطاولة:
اللفت على قارورة ماء
والثوم
وشمندرة
الباقلاء
وجذع الملفوف
والحمص
والجزر فكان الكل كما بستان
في طبق مكسور !

رحل الشاعر بعد معانات من اصابته بمرض الكبد حيث أقام في مستشفيات دمشق زهاء أكثر من عقدين ونصف , وكانت فاجعة الرحيل صعبة على عائلته وأصدقاءه , فقد تراجعت صحته ودخل المشفى , كانَ يذوب أمام أعين الأصدقاء حتى جاء يوم فقد فيه الذاكرة والتواصل , وفارق الحياة صباح يوم 30-11-2011 , لكن الراحل قد أوصى بأن يدفن في ( نبّل) إذا مات , وقد نفذت وصيته من قبل الأصدقاء ... تقول زوجته أم أطياف "سيظل مهدي في القلب , فنحنُ لن ننساه ... وداعاً أيها الحبيب الرائح والحنون والطيب والانسان " .



 

free web counter