| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مديح الصادق

 

 

 

الأربعاء 8/2/ 2012                                                                                                   

 

في ذكرى 8 شباط الأسود: لسْتُ بَحثيِّاً، ولا شُوعيِّاً؛ أنا مُخْراطي

مديح الصادق

على لسانِهِ يعَضُّ بكل أسنانه المتآكلة أطرافها؛ حتى يُخيَّل للرائي أنه ينوي قطْعَهُ من شدة الغيظ، حين يستفزُّهُ أمرٌ عسير، أو موقف مُستَحكَم، أو ثقيلُ دم مُقرِف يتلذذ بالنيل من كرام القوم؛ بذلك يستغني عن رد فعله المعهود بصفعة من كفِّهِ الأيمن قد تُطفئ إحدى عيني من أغاظه، أو تعدَّى على حق من حقوق الآخرين؛ وعندها تكون العشيرة في موقف المُدان للعشيرة الأخرى، مُلزَمة بتعويض يدفعه من أبنائها البالغون، وقد باتت تلك الكنية مثل ظله تلازمه أينما حطَّ الرحال ( أبو الطلايب )، تلك الكنية التي يندرج تحتها مَن يبحث عمَّا يؤذي الآخرين المُسالمين دون أسباب، ومَن لا يرتضي لنفسه السكوت على باطل يؤذي المساكين؛ على حد سواء؛ فتتساوى القرعاء وذات الشعر الطويل في نفس الحكم.

من ذا الذي سمَّاك ( مطشَّر ) يا ( شرهان ) بعد أن عرفنا أنهم سمَّوك ( أبا الطلايب )؛ لأنك لا تغمض جفنا وجارة لك قد باتت على ضيم، أو بابها مخلوع من عاصف ريح، أو غدر من ( علاَّس )، ساعة ينفخ كرشه ثعلب ماكر يجيد الفتاوى والتسابيح؛ كي يستر ما يخفيه من الأوساخ؛ فيُنصِّب نفسه وليَّا على عباد الله القانعين بالجوع، ويستهين بلا رحمة بالأعزة الكرام؛ فتغسِلهُ بكل ما تطاله يداك من المُطهِّرات، وتكفّ شرَّه عمَّن ليس لهم قوة ولا حول؛ سمَّوك ( أبا الطلايب ) وهم يعلمون كل العلم مقدار ما تتحلى به من خلق عظيم، ونبل السجايا، يوم يجد الجد وينعقد الديوان، لا صوت يعلو على صوتك - بالحق - ولا عين لكاذب أو دجال تجرؤ على أن تلتقي بعينيك؛ قبل أن تستسلم لما يديم المحبة والخير بين خلق الله.

سمُّوك ( مطشَّرا ) يا ( شرهان ) لأن أرض الله العريضة كانت بحالها موطنا لك، عَشاؤك بعد أن يُصلِّي الناس عِشاءَهم في ( الحلفاية ) وعند الفجر في إحدى مفارق الهور، في ( البسيتين ) تُمدِّد ( رصَّاعاتك ) على الجمر، وما يقفز في الزورق من أسماك؛ لأنَّ بيتك في كل أكواخ الفقراء، وأكواخ الفقراء لا تُوصَد؛ بل هي أصلا بلا أبواب، كلابُهم لا تعضُّ إلاَّ مُفترِس الوحوش، والخبثاء من بني الإنسان، قلوبهم أكبر، وأوسع من أضخم الأبراج في هذا الزمان؛ الرحمة فيها والحب، وفيها الخير، وهي مسكن لكل الذين على الأرض من الأخيار؛ ففي كل القلوب أنت تسكن، لهذا سمُّوك ( مطشَّرا ) يا شرهان .

من كل بيت صرخة هزَّت الكون، رددت صداها بيوت الطين، وأكواخ خاويات، في كل وادٍ عويل ونواح بدَّد السكون المعتاد عند الفجر إلا من دوي طبال يُحفِّز الناس للسحور قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود فيندم الذي لم يفز بصوم ذلك اليوم، فزعَ الأطفال مُشاركين أمهاتهم ما خبروه بفطرتهم أن كارثة قد حلَّت، أو أنها على الأبواب، ضرْبٌ مُبرح على الصدور والخدود، تمزيق الثياب من جهات النحور، تطيين الرؤوس والوجوه، حلقة مستديرة توسطتها ( حليمة الكَوَّالة )، أبيات من من مفاخر المديح والرثاء، تختمها بقفل تشاركها بترديده جميع اللاطمات، ترتفع الأجساد في نسق واحد، ثم تهبط إلى الأرض، فتهتز، صيحات هستيرية من حناجر قد تعودت هذا النمط من التعبير عن الحزن العميق؛ لكنه هذا اليوم بالذات مختلف، وليس ككل صراخ.

اليوم هو الثامن من شباط عام 1963، ومن صام من الناس قد أكمل من صيامِه رمضانَ أربعة عشر يوما؛ لقد قُتِل الزعيم، زعيمُكم، يا قوم، وأُجهِضت ثورة الفقراء، بأعلى صوته نادى المنادي مُنبِّها الرجال لنصب مجالس العزاء، وجوه واجمة، قلوب تخفق بالخوف من المجهول، تنبض يأساً مثل غريق ما صدَّق أن وصل الساحل حتى أعادته موجة عاتية حيث كان؛ من قتلَ الزعيم؟ مَن ذا الذي يجرؤ على اغتيال الإنسانية السمحاء، الزعيم لا يموت، لا نصدق ذلك، فمَن للحفاة العراة؟ مَن للأرامل والأيتام؟ مَن للكادحين عمالا وفلاحين، أسئلة لم تنطق بها الشفاه؛ وجوه الغاضبين تكشف عما يدور في الخواطر، وما تجهش به القلوب.

استُبدِلَت زقزقات العصافير ذلك الصباح بنغمة وحشية لصوت مذيع نشاز يثير الفزع في السامعين: البيان رقم 13 الصادر عن الحاكم العسكري: إبادة الشيوعيين في كل مكان. والتهمة أنهم وقفوا بوجه مؤامرة قادها البعثيون وحلفاؤهم القوميون العرب، واستهدفت ما حققته ثورة الرابع عشر من تموز من منجزات، وما خططت له من مستقبل مُشرق للبلاد، يُباد الشيوعيون لأنهم حلفاء مخلصون للحق، غير حانثين بالعهود، والبلاد أُغرقت في بحار من الدماء، الحرس القومي، من البغاث والمُشرَّدين؛ يجوب الشوارع برشاشات ( بورسعيد ) القادمة من مصر مرورا ببلاد الشام، الدولتين الضالعتين في أقذر مؤامرة استهدفت الثورة وقائدها ومن يحميها ويناصرها من الوطنيين التقدميين، وغصَّت المعتقلات بالموقوفين، والأعراض قد هُتكت، العذارى فرائسُ تحت سياط الجلادين، الإعدام ينفذ في الشوارع بلا محاكمات، صفحة سوداء في تأريخ العراق الحديث .

مسح شاربيه بعد ذهول عاصف بكل ما يملك من صبر في مثل تلك الظروف، لم يُعلِّق كعادته يوميا على ما يأتي به المذيع - الذي يسميه النمَّام - من أخبار، بأسلوبه الفكه، وسخريته المعهودة التي يُضفي عليها شيئا جميلا من المبالغات والمغامرات، في مخزن علف الحيوانات مدسوسة، إنكليزية، وحزام مصفوف عليه رصاص من صنع محلي، خنجر مرصَّع غلافه بالنجوم هدية من صديقه ( جميل الحداد ) مع فالة بخمس شُعَب، و( مكوار ) من خشب التوت، وزورق خفيف؛ بعدها اختفى ( شرهان ) عن الأنظار؛ لكن لا أحدَ ساوره أدنى شك بتلك الغيبة، فقد اعتاد عليها الناس، وأولهم زوجته وابنه والبنت؛ والخال الطيب يرعاهم عند الغياب؛ لكن غيابه المرة هذه لم يكن كما هو المعتاد، وتوالت الإشاعات بأنه يقيم في الهور، وماذا يفعل في الهور شرهان؟

فوجئ القوم، من أعدائه الحاقدين عليه، ومَن يكنُّون له الحب والتقدير؛ بأن ( شرهان ) موقوف في مركز الناحية، المشرح، وأن مفرزة من الشرطة والحرس القومي قد داهمته حيث يقيم في هور العمارة، وألقت عليه القبض، إثر وشاية من أقرب الناس إليه؛ فحين يستصغر أنفسهم حثالة القوم لا يفتؤون يثيرون الغبار حول أندادهم من الشرفاء، والتهمة حكمها الإعدام لا محال، المتَّهم ( مطشَّر ) قام بتهريب الشيوعيين الوافدين من أنحاء العراق، وعبر الهور، إلى إيران، مستعينا بعشيرة من فقراء العراق تعتاش على الصيد، وما تجود به المخلوقات الداجنة من خيرات؛ التهمة مرصوصة رصَّا لا ينفع في تخفيف وطأتها دفاع مُحامٍ شاطر، أوشهادة من شهود.

لم يرتعد له جسد، أو يخفق له خافق، ووجهه لم يمتقع لونه كما هم الرعاع في هذا الحال، جلادوه يكاد الواحد منهم يدخل في الآخر رعبا من نظراته التي تدخلهم قفص الاتهام؛ هي تصرخ فيهم: أيها الأوغاد، أنتم من يستحق أن يدخل قفص الاتهام، تسلقتم الأسوار لتسرقوا البسمة من شفاه المساكين الحالمين بقطعة خبز نظيفة لاغير، وجَوٍّ أنقى مما تحملون من مُلوثات، ألا تبا لكم من قوم فاسقين

أدْخِلوهْ، نادى مدير الناحية من داخل مكتبه، نحيف طويل القامة، يظهر أنه تعدى الأربعين، على محياه تبدو علامات الانزعاج ممن حوله من عصابات ترتدي الزي العسكري، مع شرائط مميزة على الزندين، يتباهون بحمل رشاشات قصيرة بتراء، يتجاوزون على ما متعارف عليه من صلاحيات لرؤوساء الوحدات الإدارية، بلا مركزية أو توجيه.
أأنت ( شرهان ) ؟ ( لا بيك، آنا مطشَّر ) ، مَن سمَّاك بهذا الاسم؟ ولماذا ؟ ( الوادم اتسميني مطشَّر؛ لأن أطشِّر بالحجي )، هذا اعتراف صريح إذن بأنك فعلا سياسي، سجِّل كل ما قال أيها المحقق؛ تصَنَّعَ الدهشة، نقَّل نظراته بين الجالسين ليُشركهم فيما هو مُندهش ( عليك العباس، يابيك، ترضى آنا جبير أخوتي أشتغل سايس خيل؟ ) انفجر الحاضرون بضحك تمثيلي مُبالغ فيه، مدير الناحية يجاملهم مُمسكا بطنه، متصنعا الضحك من الأعماق؛ استدار نحوه مُغيِّرا مجرى الحديث: اسمع يارجل، أنا أقصد هل تشتغل بالسياسة؟ السياسة اليوم إما أنْ تكون بعثيا؛ وإلاَّ فأنت شيوعي لامحال، بصراحة أجبني، أيٌّ من هؤلاء أنت؟ ( نعم بيك راح أعترف لك بكل شيء، آنا سياسي ). تحرك أفراد الحرس القومي من أماكنهم استعدادا لما هيَّؤوا أنفسهم له، تفحصوا أصفادهم، فتحوا أقفالها؛ ( يا بيك... آنا ... لا آنا بحثي، ولا آنا شوعي؛ آنا مُخراطي )، ثم افترشَ الأرض مُتربعا .

هزَّ كفَّه مدير الناحية مُستهزئا بمن هم حوله من الرعاع، علت وجههه ابتسامة أخفت خلفها أن هناك، في ذلك الزمان الصعب؛ عراقيين أنقياء مُجبَرِين على أن يعملوا تحت خيمة الفاشست؛ لكنَّ دواخلهم لم تغادرها الإنسانية وحب الناس، نهض من كرسيه ضاربا منضدته بقبضته، هل صدَّقتم - بربِّكم - أن مثل هذا القروي الغرير من الشيوعيين؟ أهكذا هو المنطق عند الشيوعيين؟ اغربْ عن وجوهنا حالاً، واذهبْ حيثُ ( تُطشِّر ) مواويلك، يا شرهان .


8 - شباط - 2012


 

 

free web counter