| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

مديح الصادق

 

 

الخميس  24 / 7 / 2014                                                                                                   


 

دماً ما زلتُ أنزفُ، يا عراق...
مشاهد من رحلتي الأخيرة....
(2)

مديح الصادق  *
madih_sadiq@yahoo.com  


رغم أن المسافة بين أربيل وكركوك لا يتعدى زمنها الساعة والنصف؛ إلا أني أحسست بأن الزمن كان أطول من ذلك بكثير، ازدحام الشوارع بمركبات من شتى الموديلات التي لم أسمع بها من قبل، ( أوباما ) و ( سايبة ) وغير ذلك مما لم احفظه، كلٌّ يجتاز غيره دون أي نظام للمرور، بلا إشارات عند التوقف أو تغيير الخط أو الانعطاف، لم أستوعب أن الشوارع والطرقات الخارجية بلا خطوط، بيضاء أم صفراء، إشارات المرور الضوئية خصصت للرئيسي من التقاطعات، أما غيرها فالثقة موجودة، وكلنا عراقيون، مراكز شرطة ودوائر رسمية ووحدات عسكرية، سألتُ السائق: أين الأعلام؟ أيعقل أن دوائر رسمية بلا أعلام؟ أجابني صديقنا الكردي : كيف لا؟ ألا تكفي أعلام كردستان؟

كركوك تلك المدينة الجميلة الحالمة التي حظيت بلقب أجمل مدينة في العراق في سبعينيات القرن الماضي؛ لم تعد جميلة كما كانت من قبل إلا بما تبقى في نفوس أهلها الطيبين من حب للخير، ووفاء للصديق، وتعايش بسلام بين ألوان طيفها الجميل الذي عرفت به، وكان دافعا لتنوع ثقافي، وتماسك يشوبه الود والانسجام وحسن الجوار؛ أما اليوم فالشوارع ماعادت جميلة مثلما كانت من قبل، بقايا الأنقاض، المزابل، الحدائق عطشى، ويتيمة شاحبة هي الأزهار، وغادرت أعرق الشوارع فيها باسقات جوز الهند، والنخيل، عليك أن تراقب بحرص ساعات انقطاع الكهرباء، الوطنية منها والمولدات، في الأولى يشغلون المكيفات وفي الثانية لا تشتغل سوى المراوح والمبردات، رغم ما تضخ من رطوبة عالية، وهواء مشبع ببقايا تخمر الماء في الحلفاء، والماء غير الصالح إلا للغسل يحل عليهم ضيفا بين اليوم والآخر، في كل شارع سيطرة للشرطة والجيش، عوائق ترابية أو من الأنقاض، الجار لم يعد يأمن لجاره كما كانت الحياة من قبل، البنادق محشوة ومعدة للإطلاق، وهناك من نصب أكثر من كاميرا عند مدخل الدار، لا يفتح الباب إلا بعد التأكد من طارقه، والمصيبة أن الفقراء منهم قد توزعت ولاءاتهم دون أن يعلموا أن من يصطفون خلفهم ما هم إلا سارقون لثرواتهم، لجهودهم، لإنسانيتهم؛ يدفعون بهم لقتل بعضهم بعضا وهم في حصونهم يحتمون .

عائلة مسيحية مسالمة بأكملها قد ذبحت ذبحا بالسكاكين في حي دوميز، لا ذنب لهم سوى أنهم مسالمون، ما سرقوا خبزة الفقير، ولا ضحكوا على ذقون المغفلين، ما غدروا بجارهم، ولا هم بحب الناس، كل الناس باخلون، الرصاص ينهال زخاً على صدر ذلك الشاب المندائي المسكين الذي ضاقت به سبل العيش فلم يجد من باب سوى الالتحاق بسلك الشرطة، وتلك جريمة عدَّها أولئك الذين خلت قلوبهم من كل رحمة رغم ما يدعون وشعارات الدين التي يرفعون، وآخر تركماني فُجِّر بيته بعد أن أشاع للمارة أمام بيته صندوقا للماء البارد مكتوبا عليه ( اشرب الماء واذكر عطش الحسين ) ولعله لم يسلم من موت محتم ذلك الشاب العلماني المتطلع إلى وطن ترابه للجميع، والدين فيه لمن له الدين، فلم يكن حظه أوفر من الضحايا الذين سبقوه؛ لكن الفرق أنه بكاتم صوت اغتيل، أما ابنتي (ماري) رفيقة رحلتي فقد كان طبيعيا أن تصاب بالرعب والذهول جراء ما سمعت من قصص تنافي أبسط مبادئ حقوق الإنسان؛ وهي التي عاشت في كندا التي يعتبر فيها جريمة أن يُجار على حيوان، فكيف إذا كان المُجار عليه هو الإنسان؟
 

كندا - تورونتو ، 30 - 6 - 2014
 

* ناشط مدني ، كندا

 



 

free web counter