| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مديح الصادق

 

 

 

الأثنين 14/9/ 2009

 

موَّال زهيري , بطور الصبِّي

مديح الصادق

دنياك هالفانية لا أقبلها ولا أحبها
من حيث لَن الظلم والجور لا ح بها
أم العَلا دنِّكت (للنذل) والنذل لا حبها
صبَّح (غضنفر) وراسه للثريا وصل
ولابس من (الماهود) ستة وسبعة وصل
والله لو كطعوني بشفرات الهنادي وصل
ما أدنِّك على أيد (النذل) لا والله ولا أحبها

على الرغم من اهتمامي باللغة العربية الفصحى إلى درجة استخدامها في تعاملي اليومي الاعتيادي , أحيانا ؛ ذلك لأنها غنية بالمفردات الجميلة التي لا يستغني عنها أي باحث عن الصور الجميلة للأفكار الهادفة النبيلة , ناهيك عن أسباب كثيرة أخرى , منها أنني - مثل غيري - أفضل الابتعاد عن حوشي الكلام باختيار الألفاظ النظيفة مهما كان المعني بالخطاب , ومهما كانت درجة رقيه الإنساني , أو انحطاطه , وأياً كان موقفه معي , حميماً مخلصاً , أم غادراً مُقنَّعاً .
فهذا لا يعني عدم اهتمامي بما يسمى (بالأدب الشعبي) الذي سجل مفاخر لا تزال تدور على ألسنة الصغار , والكبار , وعبَّر عن قضايا الإنسان الكادح , ومعاناته , ودوره في مقارعة الظلم , والاستعباد , وترجم عواطفه النبيلة , والأمثلة كثيرة في هذا المجال لا تسعها سطور أو صفحات , وخير دليل على تقديري لهذا الموروث المليء بالحكمة استشهادي بالموال (الزهيري) الذي ابتدأت به مقالي هذا اليوم , انطلاقا من المقولة الشعبية : (لكل حديث ربَّاط) , وإلا فهو كذلك الذي (يذري التبن) طامعا في حبات قمح , أو تلك التي (لا حظت برجيلها , ولا خذت سيد علي) وأنتم سيداتي , سادتي , خير العارفين بما قصدت إليه .

قصة هذا الموال - كما رواها والدي رحمه الله - إذ كان يغنِّيه بصوته العذب صباح مساء , ما أكَّد لي أنه متأثر بمغزاه العميق , ويسعى إلى إيصاله للمحيطين به : إبَّان الاحتلال العثماني للعراق سعى المحتلون إلى فرض نظام الإقطاع على أغلب المساحات الزراعية , قاصدين السيطرة التامة على نظام الضرائب بواسطة الإقطاعيين من جهة , والحد من كل نشاط وطني أو فكري من شأنه توعية الناس على مساوئ الاستعمار وأعوانه , وقد اختاروا لهذه المهام بعض شيوخ العشائر القساة على أبناء جلدتهم , وزودوهم بكل الصلاحيات التي جرَّدت الفلاحين من كل الصفات الإنسانية , دون مبالاة لأدنى معايير الأخلاق , والدين .

أما (شرهان المختار) فقد كان شيخ قبيلة , محبوباً لدى الجميع , يصلح ذات البين , يعدل عند الحكم , يتفقد الذين أوصى بهم رب العباد , يواسي من تبعث في نفسه الآمال المواساة , يوصي دائما بالحكمة , والرأي السديد , يغض الطرف عن الجارات , لا يأكل إلا عند تشابك الأكف , مطابخه سود القدور , والمواقد عنده بلا رماد , يقارع الاحتلال والمحتلين , ويكره الخائنين .

أثار الحسد ذلك , والغيرة لدى ضعاف النفوس من أبناء القبيلة بدفع , وتشجيع من الحكام الأتراك الذين لا يخدمهم شيخ بهذه المواصفات فخططوا لتدبير (فخ) للتخلص منه بلا رجعة , وتنصيب بديل يلبي ما وجهوا البلاد إليه من ذل , واستعباد , وجهل .
وقع اختيارهم على أحد أتباعه المقربين إليه , وهو ابن عم له , ويحظى عنده بمنزلة فريدة , فهو مطرب ذو صوت ريفي شجي , سريع البديهة , حاضر النكته , فصيح اللسان وذلك اكتسبه من ملازمته دوما لمجالس ابن عمه الشيخ (شرهان) وإصغائه لحكمته , والمجالس مدارس كما يُقال , الشيخ لم يرفض طلبا له قط .

دبَّر (ماهود) المكيدة بكل تأن , وإتقان , إذ كرر كل يوم , وأثناء انعقاد المجلس في مضيف الشيخ (شرهان) كرر طلباً بلهجة المزاح بأن يتنازل له الشيخ عن (زعامة القبيلة) ليوم واحد فقط , ولما كان صنف (الشراهين) طيبي القلوب , وسرعان ما يخدعون من قبل الخبثاء , فقد استجاب لطلب ابن عمه (اللئيم), بل زاد في ذلك أن أعلن أمام القوم بأنه (أي الشيخ) خلال ذلك اليوم سيصبح واحداً من أتباع (ماهود) دون أن ينبئه العراف أن الماء يجري من تحته دون دراية منه , وأنه على نهايته باصمٌ بالأصابع العشرين .

الخطوة الأولى قام (ماهود) باعتقال ابن عمه , وتوثيق يديه بالحبال , مجرداً إياه من بدلته ذات القماش الفاخر المسمى (الماهود) , وأشهر سيفه بوجهه طالباً منه بكل صلافة أن يُقبِّل كفَّيه وإلا فإن مصيره سيكون قطع الرأس , أمهله يوما واحدا لتنفيذ الرغبة الشوهاء , وهو يعلم علم اليقين أن (شرهان) لن يحني القامة وإن كان الثمن الموت , وما عليه إلا أن يستعين بأشباهه الغادرين لكمِّ الأفواه , وبث الرعب في صفوف القبيلة , والأعوان .

حانت ساعة الصفر , تجمع القوم , وجوه كالحة , بعض أصحابها واقفون على الأبراج , ماسكين العصا من النصف , بانتظار لمن سترجح كفة الميزان , فيحلبون النياق بيسر , وهؤلاء لا موقف عندهم , ولا يستحقون الحياة , والبعض الآخر أعوان الباطل , الكارهين لكل مظهر من مظاهر الخير لإشباع أطماع وَعَدَهم بها الجاهل (ماهود) وأغلبهم للحق كارهون أما الباقون فهم قلة - كما تعلمون - وما من حيلة لنصرة الحق يملكون .

جيء بالشيخ (شرهان) فكرر عليه الطلب الملعون , أنذره وأعاد على مسمع الجميع الإنذار : (قبِّل يدي وإلا فإن مصيرك الموت) لاذ الشيخ بالصمت قليلا , وضع السبابة بأذنه , لم يسبق له أن جرَّب الغناء , بطور (الصبِّي) أخرس الحضور , غنَّى الموال الزهيري الذي استشهدنا به أول المقال , حتى شطريه الأخيرين  ...

والله لو كطعوني بشفرات الهنادي وصل
ما أدنك على أيد النذل , لا والله ولا أحبها

مع القفل الأخير تدحرج رأسه بين فخذيه ليترك درساً لكل شجاع آثر الموت على العيش بذلٍّ تحت ربقة العبودية للتافهين , وغدا موَّاله نشيداً , وشاهداً على الأثر الجليل ..

سيداتي , سادتي (لكل حديث ربَّاط) كما قلنا ولابد أن كلا منكم قد اهتدى إلى تحليله الخاص لتلك الحكاية الواقعة فعلا , إلا أنني لم يكن قصدي أن المستفيدين من احتلال العراق الحديث , المستعمرين سابقا الإنكليز , الأمريكان , والإيرانيين , باستطاعتهم تصفية أي حاكم نظيف محب لشعبه , وطني مثل الشيخ (شرهان) بضغظة زر , أو إشارة خفية لأعوانهم المجندين - خصيصا - لتمزيق شعب الرافدين العريق , وتوزيع أشلائه على ضواريهم الأوباش , وهم لا يُبقون على حاكم إلا إذا كانوا واثقين من ولائه , وتنفيذه ما يبغون من مخططات , وأهداف .

وما قصدت أن البائعين الذمم , التابعين الشياطين , موجودون , في كل زمان , وكل مكان , بإمكانهم تغيير الأسامي , والهويات , حتى الوجوه , يبيعون الدم , والكرامة , وماء الوجه من أجل أن يرضى عنهم السلطان , ألا تباً لهؤلاء , واسودَّت فيهم الجباه .

 

14 - 9 - 2009





 

free web counter